أولا :
1 ـ في العصر المملوكى ـ فى القلعة مركز الحكم ـ فى يوم الثلاثاء 21 من جمادى الأولى سنة 876هـ عقد السلطان قايتباي مجلساً لعلماء الشرع كي يفتوه في مشكلة تتعلق بأوقاف إحدى المدارس، وحضر القضاة والعلماء وكبار الفقهاء واحتدم الخلاف بينهم جميعاً أمام السلطان وشتم بعضهم بعضاً واتهم بعضهم بعضا بالكفر، وقال الشيخ الكافيجي أحد العلماء الكبار وقتها للسلطان قايتباي عن الشيخ قاسم الخفجي : هذا الرجل محجور عليه من الفتوى لأنه يأخذ عليها رشوة، وتطورت الاتهامات المتبادلة بين الفقهاء الكبار فتركهم السلطان بعد أن أمرهم أن يظلوا في الاجتماع إلى يصلوا إلى فتوى يتفقون عليها . وعاد لهم السلطان فوجدهم على حالهم من الصياح والخصام وفي النهاية أفتى قاضي القضاة المالكي باللجوء إلى حكم السلطان ليعلن بذلك أن السلطان العسكري أفقه من قضاة الشرع بأمور الشرع.
2 ـ وحيث كان فقهاء الشرع فى العصر المملوكى يجتمعون في أي مجلس، فلا بد أن يدور بينهم الخلاف ويتحول إلى خصام واتهام متبادل بالكفر والفسوق .
وعلى سبيل المثال كان ذلك يحدث في مناسبة سنوية معتادة هي ميعاد صحيح البخاري، حيث كان السلطان المملوكي يستضيف العلماء في القلعة لقراءة صحيح البخاري وقد بدأ السلطان الأشرف شعبان هذه العادة يوم الاثنين أول رمضان سنة 775هـ واستمرت بعده وصارت تقليداً يبدأ بأول شعبان ويختم في 27رمضان. ويقول المقريزي عن اجتماعات العلماء في ذلك المجلس"فكانت تحدث بينهم بحوث (أى مناقشات علمية ) يسيء بعضهم إلى بعض فيها إساءات منكرة" ويقول "وصار المجلس صياحاً ومخالفات يسخر منها الأمراء وأتباعهم "
وكان المقريزي في تاريخه يسجل ما يحدث في ذلك المجلس بسبب أهميته وأهمية الحاضرين فيه من أعيان الدولة وأشياخها وكان يستنكر ما يحدث فيه من خصومات بين العلماء إلى درجة أنه يقول عن ميعاد البخاري " وهو منكر في صوت معروف ومعصية في زي طاعة" إلى أن يقول "بل دأبهم دائماً أن يأخذوا في البحث عن مسألة يطول صياحهم فيها حتى يقضى بهم الحال إلى الإساءات التي تؤول إلى أشد العداوات ، وربما كفر بعضهم بعضاً وصاروا أضحوكة لمن أن عساه يحضر من الأمراء والمماليك "
3 ـ والخلاصة إن علماء الشرع ـ فى عصر تطبيق الشريعة السنية فى العصر المملوكى ـ كانوا إذا تناقشوا في أمر اختلفوا فيه إلى درجة الاتهامات المتبادلة بالكفر .
والسؤال هنا لماذا؟ لماذا يختلفون دائما ولماذا إذا اختلفوا كفَّر بعضهم بعضاً ؟
والجواب لأن الفقه والأحاديث قامت على أساس الاختلاف والتناقض فهناك مذاهب في الفقه ، وفي داخل المذهب الواحد اختلافات ، فآراء أبي حنيفة يخالفه فيها تلميذاه أبو يوسف ومحمد الشيبانى ، والمزني يخالف شيخه الشافعي، وهكذا ، بل إن الامام مالك فى ( الموطأ )مثلاً يورد أحاديث في أن من مس عورته انتقض وضوؤه ، ويورد في نفس الصفحة أحاديث أخرى في أنه لا ينتقض وضوؤه ، وفي البخاري مئات الأحاديث المتناقضة منها مثلاً حديث يجيز الاختصاء للرجل وأحاديث تنهى عن ذلك ..
وكان ذلك الخلاف هو السمة البارزة في عصور الاجتهاد إلى درجة أن عبارة (اختلف فيها العلماء) من أهم العبارات التي تتكرر في أمهات الفقه ومن يقرأ (تفسير القرطبي) الذي يركز على الأحكام الفقهية للآيات القرآنية يتأكد أنه ما من حكم فقهي اتفق عليه العلماء.
وكان ذلك في عصور الاجتهاد.
ثم جاء العصر المملوكي بالتقليد والجمود والانغلاق . فتحول الاختلاف الذي كان بين الأئمة إلى اختلاف أعتى وأشد بين صغار الفقهاء الذين كانت لهم سطوة هائلة في الدولة المملوكية مع قلة علمهم وضعف مستواهم العقلي والخلقي أيضا، ولذلك كان من السهل أن تتحول خلافاتهم إلى صياح وتكفير ..
4 ـ ونأتي إلى السؤال الأخير الموجع . وأين موقع أشياخنا في عصرنا من ذلك؟ أهم ينتمون إلى عصر الاجتهاد والاختلاف المؤدب أم ينتمون إلى عصر الجمود والاختلاف الذي يفضي إلى الاتهامات والسباب ؟
أظن الإجابة سهلة .. واقرأوا ما حدث بين الفقهاء حين اختلفوا في موضوع فوائد البنوك وفي حرب الكويت ، فما أسهل أن يختلفوا وما أسهل أن يتبادلوا الاتهامات .. ثم بعد ذلك يطالبون بتطبيق الشريعة..!!
5 ـ ومن حقنا أن نتساءل :
ألا تتفقون أولاً حول ماهية الشريعة ؟
وهل يصلح مستواكم العلمي للاتفاق على صياغة قوانين محددة تتفق مع القرآن وروح القرن الحادي والعشرين ؟
هذا هو التحدي فهل أنتم على مستوى ذلك التحدي ؟
ثانيا :
1 ـ كتبت هذا المقال ونشرته جريدة الأحرارالمصرية فى 28 يونيو 1993م . أى مضى عليه حتى الآن 15 عاما ..
فهل تحسن مستوى الشيوخ بعد هذا المقال عن فقه العقم والعجز ؛أوعقم الفقهاء وعجزالشيوخ ؟.
من أسف أن أحوالهم تدهورت أكثر ، فعلى الأقل فالقضايا المطروحة عليهم واختلفوا فيها منذ 15 عاما كانت اكثر احتراما ، إذ كانت تشغل الرأى العام العربى و الاسلامى من نوعية حكم ربا البنوك و حكم المشاركة فى حرب تحرير الكويت مع صدام أو ضد صدام .
فزع اليهم الناس فاكتشفوا عجزهم وتفاهتهم وأنهم لا يجتمعون كشيوخ رسميين إلا عندما يأمرهم سيدهم الحاكم المستبد ، ثم هم لا يتفقون على حكم إلا نزولا على رغبة سيدهم الحاكم .
بعد أن فقدوا احترام الرأى العام (المحترم الجاد ) وبعد الانهيار المتواصل فى البنية العقلية للناس عموما هبط مستوى الأسئلة المطروحة عليهم الى نوعية حكم الشذوذ مع الزوجة ، وبعد أن انتهت كل الأسئلة و الفتاوى البذيئة بدأ الشيوخ أنفسهم يثيرون قضايا تعبر عن مستواهم العقلى والخلقى والاجتماعى من نوعية ( هل يصح التبرك ببول النبى ) و( رضاعة الكبير ) . ولا ندرى ماذا ستتفتق عنه عقلية هذه النوعية من الشيوخ ؟
2 ـ بل ندرى ماذا ستتفتق عنه عقلية هذه النوعية من الشيوخ .!! لماذا ؟
لأنهم ينتمون الى نفس عقلية العصرين المملوكى والعثمانى الذى لا تزال مناهجهما مقررة فى الأزهر فى الفقه والحديث والتفسير والتوحيد ..
وقد انحدر الفقه وعقليات الفقهاء فى العصر العثمانى الى افتراض أسئلة منحطة والرد عليها بأجوبة أكثر انحطاطا ،من نوعية ( من زنا بأمه فى جوف الكعبة وهو صائم فى نهار رمضان فماذا عليه من الاثم ؟) ( من جاع ولم يجد سوى جسد أحد الأنبياء هل يجوز له الأكل منه ؟) ( كان نائما على سطح منزله فانهار المنزل وسقط من على السطح فوقع على أمه ففعل بها وهو يظن انها زوجته فهل يكون زانيا ؟ )( من كان لقضيبه فرعان وزنى بامرأة فى فرجها ودبرها ، فماذا عليه من الاثم ؟ )
وأعتذر عن كل ما سبق ولكنه الفقه الذى كان مقررا علينا فى الاعدادى الأزهرى حين كنا صبية بين براءة الطفولة وجرأة المراهقة .. وظل هذا الفقه مقررا حتى بعد أن فتح الأزهر ابوابه للبنات ، فأصبحت الفتاة المسلمة فى براءة الطفولة مجبرة على أن تجتهد فى قراءة هذا الاسفاف .
وإن أنس لا أنسى يوم أن جاءنى جارى وصديقى يرحمه الله فى الثمانينيات ومعه اخته الطفلة العاتق ( أى بين الطفولة و المراهقة ) يرجونى أن أشرح لها بعض صفحات لم تفهمها من كتاب ( الاقناع فى حل ألفاظ ابى شجاع ) فى الفقه الشافعى المقرر عليها فى الاعدادى الأزهرى ، وكانت تلك الصفحات تتكلم عن الاستنجاء (أى غسل الأعضاء التناسلية والشرج بعد قضاء الحاجة ) وهو باب هائل من أبواب الفقه ، فيه من الصور العقلية المفترضة ما يدل على أن أولئك الفقهاء كانوا مرضى حقيقيين ،ومنهجهم حديث كاذب احتفل به الغزالى فى (إحياء علوم الدين ) يقول ( كان عليه السلام يعلمنا كل شىء حتى الخراءة ).!!
وقد جاء كتاب (الاقناع ) بصفحات عن كيفية استنجاء الذكر والأنثى بالحجر و بالماء ، وأخذ يشرح بألفاظ صريحة، ويعطى استنتاجات وتاويلات واستثناءات ومحترزات ، وهذا يجوز وذاك يحرم ، ..ألخ ..
لم تفهم الفتاة أو لعلها فهمت ولم تصدق ما تقرأ. وبمجرد رؤية الكتاب تذكرت إحساسى بالخجل عندما قرأت هذا الكلام قبلها بنحو عشرين عاما حين كنت فى نفس العام الدراسى. إعتذرت لصديقى بالنيابة عن الأزهر والفقه الشافعى و العصرين المملوكى و العثمانى..!! ..
من هذا الرجس أو من تلك (المجارى) ترعرع الفقه لدى أساطين وأئمة دين السنة الذى تخصص أكثر فى التشريع للنصف الأسفل ، فكنت أسميه وأنا طالب فى الثانوى ( فقه النصف الأسفل ).
مذ كنت صبيا رفضت هذا التلوث ، ولكن اولئك الشيوخ عاشوا فى هذا العفن فسكن عقولهم وسرى فى أوردتهم وشرايينهم فأصبحوا لا يتحرجون من الافتاء به وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
وأتذكر تلك المصيبة الى حدثت فى جريدة الأهرام فى أوائل التسعينيات ـ على ما أظن ـ حين قام المفتى الأسبق بكتابة سلسلة من المقالات عن شهر رمضان فى الصفحة الدينية عن الصيام ، وملأها بتلك الأحكام الفقهية البذيئة المنحطة ، ومنها : (أن من ابتلع بزاق (أى بصاق ) صديقه لا يفطر ) و ( من دخل أصبعه فى دبر صديقه لا يفطر ) ، وهاج بعض القرّاء فأوقفت الأهرام نشر تلك السلسلة من المجارى الفقهية ..
وأتذكر أن د. فرج فودة كتب مقالا يتندر فيه على هذا المفتى و فتاويه ، وكان ـ رحمه الله أستاذا فى فن السخرية وشاعرا مطبوعا لا يشق له غبار ، وأتذكر سخريته من فتوى (أن أصبع الصديق فى دبر صديقه لاتفطر ) إذ كتب شعرا يقول :
أنا كنت واقف على الكوبرى
حسيت باصبع فى دبرى..
صيامى راح ..!!
ثم نسى الناس هذا العفن .
ولكن سرعان ما تطوع شيوخ اليوم باثارته ، لذلك تطفو على السطح نفايات من ذلك الفقه الذى أشربوه فى قلوبهم فيتقيأونه فى أجهزة الأعلام فيأتى حمقى كثيرون يأخذون الاسلام متهما بجرائمهم .
3 ـ ولكن هل هم يتنفسون ذلك العفن ويتقيأونه تلقائيا أم أنها سياسة دولة ؟
هذا الاسفاف الذى يتميزون به ويختلفون فيه فى نفس الوقت يزداد مع نفوذهم المتزايد داخل النظم المستبدة لأنهم السند الأخير للاستبداد ، وهم ورقة التوت التى يستر بها الاستبداد عورته متذرعا بوجودهم (كرجال الدين ) ضمن أدواته فى السيطرة و الحكم .
بالاضافة الى دورهم فى تسويغ الاستبداد و الفساد فانهم يقومون بوظيفة أخرى أخطر وهى التعتيم على القضايا الهامة وشغل الراى العام بفتاوى مضحكة ومثيرة للنقاش والاختلاف . والدليل على ذلك أنه كلما تعالت صيحات الاحتجاج ضد التعذيب أو تعالت أصوات الأحرار تنادى بالديمقراطية ظهرت فتوى مضحكة مفجعة تستأثر باهتمام الرأى العام ، فتتلقفها القنوات الفضائية وتعقد حولها الندوات ، وتقيم عليها الصحف الدنيا ولا تقعدها ما بين تأييد و اعتراض وينسى الرأى العام قضية الديمقراطية وحقوق الانسان ، وتضيع فى الزحام المصطنع صرخات ضحايا التعذيب وهتافات المنادين بالحرية و العدل وحقوق الانسان.
تلك فقط هى المهمة التى ينجح فيها شيوخ رضاعة الكبير وعلماء السلطة . أما إذا طلب السلطان رأيهم فى مشكلة فقهية شرعية كما فعل السلطان قايتباى في يوم الثلاثاء 21 من جمادى الأولى سنة 876هـ فلا يمكن أن يصلوا الى حل ، لأنهم غير مؤهلين للاجتهاد فى أى عمل سوى الرقص فى موكب سيدهم السلطان والدعاء له بطول العمر..(.. وأن ينصر عسكره وان يهزم الكفار المشركين ويجعل اموالهم وأولادهم ونساءهم غنيمة للمسلمين )..!!.
ثالثا :
دائما أهرب من الاحباط بأحلام اليقظة فأتخيل ما يعيننى على تجاوز الواقع الأليم للمسلمين.
تخيلت يوما أن قامت ثورة سلمية فأسست حكما يرعى حقوق الانسان والعدل والديمقراطية وفق المواثيق الدولية التى هى اقرب الكتابات البشرية الى الشريعة الاسلامية الحقيقية .
وأخذنى الخيال الى مشكلة ستواجه الحكم الجديد : ماذا سيفعل بأولئك الشيوخ ؟ وكيف سيتصرف مع مئات الألوف من الشيوخ الذين لا حاجة لهم ؟؟..
ظللت فى أحلام اليقظة أفكر فى مستقبل أولئك الشيوخ بعد أن انتهى عهدهم ودورهم ، وتعين العثور لهم على عمل مهنى شريف ليأكلوا بعرق جبينهم ، فاقترحت على نفسى بأن يعملوا فى تربية الدواجن وتسمين المواشى لأنه المستوى الملائم لعقليتهم وليكونوا فى البيئة المناسبة لهم .وتخيلت الشيخ فلان وهو يحمل مقطف التبن ، والشيخ علان وهو يسرق البيض والشيخ تركان وهو يختلى بدجاجة يراودها عن نفسها ..
وانطلقت فى ضحك مكتوم فاهتز السرير فاستيقظت زوجتى أم محمد .. وكالعادة سلمت أمرها لله وتركتنى فى عالمى الخاص الذى أهرب اليه قرفا من دنيا يسيطر عليها شيوخ الثعبان الأقرع .