قضية الماء و الحياة من أحد أكثر المواضع إحراجا الحقيقة في المجتمعات العلمية. و أرجو توخي الدقة هنا و محاسبتي إن سهوت عن بعض العلم . فمن أقوى الفرضيات (لكن مش من المسلمات بعد) التي وضعت لتفسير أصل الحياة هو انبثاقها من تفاعلات الماء مع بعض المركبات (الماء المعروف حاليا : H2O حيث H = Hydrogen, O =Oxygen ) و قد يتساءل البعض لماذا الماء ، مع العلم أن فرضيات قوية اخرى (و أكثر منطقية الحقيقة) تفترض وجود مركبات أبسط بكثير من الماء في زمن تخلق الارض مثل الامونيا NH3 المتكون من النيتروجين و الهيدروجين و الميثان CH4المتكون من عنصر الكربون مع الهيدروجين و المعلوم كيميائيا أن الاوكسجين أثقل من النيتروجين (بنسبة 16 الى 14 للغاز أو 8 الى 7 للذرة الواحدة من الطرفين) و أثقل من الكربون (بنسبة 8 الى 6 للذرة ) و المعلوم أيضا أن كلمة "أثقل = أعقد" في الكيمياء تعني أن النيتروجين أخذ وقت أقل للتخلق من الاكسجين ،و الكربون أخذ وقت أقل للتخلق من النيتروجين ، أي ان ترتيب ظهور العناصر الخفيفة في جو الارض كان كالاتي (هيدروجين ثم كربون ثم نيتروجين ثم اوكسجين ثم غيرها طبعا) مع العلم بوجود عناصر أخرى في السلسلة لكنها غير نشيطة في التفاعلات لأسباب كيميائية بحتة. و كتلخيص فمن المنطقي أكثر أن نقول أنه جاء على الارض فترة كان غاز الامونيا و الميثان هما المركبان الاكثر وجودا مقارنة مع الماء ، خاصة أن الكربون و النيتروجين هما من أكثر العناصر تواجدا في خلايا الكائنات الحية، و الجواب على السؤال أعلاه: لماذا الماء إذن؟ ، هو جواب بسيط مفاده أن الماء هو أبسط سائل مستقر (من ناحية كيميائية) موجود على الاطلاق ، و أيضا هذا السائل يتصف بوجود الرابطة الهيدروجينية فيه التي تسهل تفكك الكثير من الاملاح و المركبات الى مجموعاتها الايونية مما يسهل التفاعلات الكيميائية بدرجة مذهلة . و هذا ما دفع العلماء في الخمسينات الى الاعتقاد بأن اجتماع تلك الغازات (امونيا+ميثان) قد يولد المركبات الاساسية للمادة الحية و هذا ما لم يحدث طوال عشرات السنين من التجارب و حتى في التجارب التي استخدموا فيها الماء و أشهرها تجربة يوري ميللر Urey-Miller experiment (اتبع هذا الرابط إن شئت http://en.wikipedia.org/wiki/Miller-Urey_experiment ) و الواقع أن المعمول به نظريا (رغم عدم القدرة على اثباته تجريبيا الى الان ) أنه لتكوين مادة حية (protoplasm) يجب وجود مركبات عديدة (معظمها سام) بالاضافة الى الماء طبعا
وقد يبدو هذا مناقضا لقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ ... الخ)نور/45 فكلمة "حي" لاتعني "مادة حية" . الحقيقة أن الموضوع أعقد مما قد يبدو عليه، حيث أن الحياة هي ليست تلك المادة الحية فقط (لمعرفة معنى كلمة مادة حية ابحث عن protoplasm و لمعرفة كلمة حي أو حياة ابحث عن living ) فالمادة الحية هي مركب كيميائي معقد يعتبر من الاسس في بناء الخلية (لكنه ليس الوحيد ) فالخلية تتألف من مئات المركبات لكن بعضها يطلق عليه إسم "مادة حية" فقط لأنها دائما موجودة في الكائنات الحية المعهودة و لأنها (مع اتحادها بنسب عالية من الماء ) تكون الوسط الذي تجري فيه كافة العمليات الحيوية داخل الخلية . و المقصود بقولنا (الكائنات الحية المعهودة) يستثني بعض أنواع الفيروسات ، و التي هي أصلا أحد ألغاز العلم الحديث حيث لا يزال العلماء يصنفون الفيروس على أنه "وكيل = agent (اتبع http://en.wikipedia.org/wiki/Virus ) ، أي هو حالة وسط بين الحياة و اللاحياة ، و السبب الرئيس لذلك هو أنه في تركيبه (معظم أنواعه) لا يحتوي المادة الحية protoplasm و بالتالي لا يحتوي الماء أيضا.
أما الحياة (و منها كائن حي أو دابة!) (اتبع الوصلة http://en.wikipedia.org/wiki/Life إن شئت ) فهي تعني قابلية الكائن على القيام بكل من: 1- عمليات الايض (metabolism وهي عملية استهلاك الطاقة من مركبات اخرى و أبرز مثال على ذلك هو حرق الاكسجين) 2- النمو (عمليات تركيبية ) 3- الاستجابة للمؤثرات (بغض النظر عن سرعة الاستجابة) 4- التكاثر بغض النظر عن الكيفية. و المعروف علميا (الى هذه اللحظة) أن جميع الكائنات الحية (مهما بلغ تعقيدها و التي تقوم بكل العمليات السابقة) يدخل الماء H2O كمركب و مكون أساسي (بنسبة عالية جدا) في تركيب المادة الحية protoplasm فيها.... إلا الفيروسات! و التي بإمكانها عدم القيام بكل تلك العمليات المذكورة! ...و بالتالي فالبعض لا يعتبرها كائن حي (أو دابة!) – لكن إن وجد الماء السائل (شرط! أنه سائل و ليس غاز مثلا) فإن التكوين البروتيني للفايروس يتحد بطريقة غير مفهومة الى الآن مع الماء و فجأة يظهر ذلك الفايروس وكأنه يستهلك الاوكسجين إن كان أوكسيجينيا و يستجيب للمؤثرات بل و يتكاثر – أي أن الماء جعل الفايروس كائنا حيا!!
نعود إلى الاية: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ )أنبياء/30 و المدهش في الاية هي ربطها للماء مع خلق (أو ممكن طبيعة) السماوات و الارض ) و استخدام كلمة شيء أيضا (كل شيء حي) ، فإن سكتنا (أو سلمنا ) أن الاية 45 من سورة النور تتحدث عن الماء للكائنات الحية (دابة) فهذا لا غبار عليه ولا تناقض مع العلم بتاتا ، لكن أن يربطها الله مع (كل شيء حي ) فهذا يجعلني أعتقد ان كلمة الـ + ماء تعني شيء أعم (أو أصولي أكثر Fundamental) من فقط مجرد الماء السائل.
الماء يتكون من الهيدروجين و الاوكسجين هكذا: H – O – H و كيميائيا الماء عبارة عن مركب أكسيد الهيدروكسيل أي يتكون من شقين : موجب: H و سالب OH و الجزء السالب هو أهم جزء في الماء بل هو أهم جزء في المركبات التي تدخل في المادة الحية – بل إن الشق السالب هذا هو عبارة عن زعيم تصنيفي يصنف تحته مجموعة الكحولات و ما أدراك ماالكحولات في الكيمياء العضوية!. و العجيب أن الهيدروجين غاز يحترق و الاوكسجين غاز مساعد على الاحتراق ( يعني لا يمكن أن يحترق الهيدروجين بدون أوكسجين ). و بالتالي نستطيع القول مجازا أن مكونات الماء هي خليط رائع لانتاج لهب مستمر في الاحتراق .. و بالتالي نستطيع القول أن النار التي خلق منها الجن أصلها أيضا (من) الماء - أي أن الله خلق الجان من نار!! و لكن الجن عبارة عن شيء حي!! إذن هكذا يمكن فهم علاقة الماء بالنار!! اذن تلك النار أصلها ماء!!
و الله أعلم