أولا : ـ
1 ـ فى عام 1972 مرت ألف عام على انشاء الأزهر . ولكن لم يحس بذلك المسئولون فى جامعة الأزهر إلا بعد عشر سنوات تقريبا فقرروا إقامة احتفال سنة 1983 بالذكرى الألفية لاقامة الأزهر الشريف ( جدا ). ووافق هذا هوى لدى السلطات المصرية فاعطوا رئيس الجامعة وقتها بضع ملايين من الجنيهات لإقامة احتفال بالعيد الألفى للأزهر الشريف ( للغاية ). ووقع على قسم التاريخ الاسلامى ـ الذى كنت أعمل به وقتها ـ عبء العمل لأنه الأكثر اتصالا بتاريخ الأزهر . كنت وقتها ـ فيما أذكر ـ المشرف على أمانة القسم ،أى الذى يتولى اعداد الندوات وخلافه. وكان من الطبيعى ان أكون أكثر العاملين فى هيئة التدريس اهتماما بتلك المناسبة ـ خصوصا وانها عمل مدفوع الأجر ، والمكافآت عالية. قررت عدم الاشتراك فى هذا الموكب الاحتفالى . قال لى بعضهم : والمكافاة يا شيخنا ؟ هل ستترك نصيبك من المكافآت ؟ قلت له : لن يصل لكم من الملايين إلا الملاليم لأن بطون الشيوخ الكبار ليس لها قرار ، ولا قاع لها ، وستبتلع كل الميزانية. قال: والعمل العلمى المفروض ان تكتبه ؟ قلت : لن يقبلوه لأننى متخصص فى السيئات و ليس فى التطبيل و التهريج.
ضحكوا.. ولم أضحك لأننى كنت جادا..
2 ـ أتكلم هنا عن الكتابات التاريخية و السياسية و ليس الأصولية الاسلامية .
أنا فعلا مؤرخ متخصص فى السيئات ..
ليس هذا حبا فى النكد ، فكتاباتى ـ حتى فى السيئات ـ تميل للسخرية وأبعد ما تكون عن النكد .
ليس هذا رغبة فى تشويه الشخصيات لأننى لا أفتعل الأحداث التاريخية ولكن أقوم بتحليلها تحليلا موضوعيا أراه مقنعا ـ ولا بد أن أقتنع به أولا قبل أن أكتبه.
وليس هذا حبا فى التميز والخروج على المألوف فما أكتبه فى الأصوليات ـ خارج التاريخ و السياسة ـ يدخل كله فى نطاق الاجتهاد والخروج على المألوف ، والتميز الذى أحصل عليه يجلب لى من اللعنات أضعاف أضعاف الاعجاب، لأن أكثر الناس لا يعقلون ، ولأن أكثر الذين لا يعقلون أصبحوا بالانترنت من الذين يكتبون ويشتمون .
3 ـ إذن لماذا تخصصت كمؤرخ فى السيئات ؟
لأن الاصلاح يستدعى أن تكتب عن المساوىء. عندما يذهب المريض للطبيب فلن يحدثه الطبيب عن الصحيح فى جسده بل موضع الداء فيه. يكون طبيبا فاشلا ذلك الذى تذهب اليه مريضة بالسرطان فيتغزل فى جمال عينيها وساقيها. قد تكون جميلة ورشيقة ولكن مهمة الطبيب هى البحث عن المرض ، أى ليس فى المحاسن ولكن فى المساوىء والعاهات.
ونحن أمة مريضة ؛ أمة مصرية مريضة، وأمة عربية مريضة ، وأمة مسلمة مريضة. ولا بد للمريض من علاج.
وليس العلاج بقصائد المدح والفخر بالمناقب ـ بل إن من أمراضنا المزمنة و المتوطنة عبادة الأبطال وتقديس الأشخاص. وهذا المرض يجعل صاحبه لا يرى فى الشخصية التاريخية سوى واحد من أثنين : إما أن يكون قديسا أو زنديقا ، إما أن يكون إلاها أو شيطانا مريدا.
ومن هنا فإننا لا نعرف من أغلب تاريخنا سوى هالات المجد والتقديس للصحابة والأئمة والأولياء والزعماء، وخلال مواكب الاحتفال بأبطالنا التاريخيين نسينا أنهم بشر ، ولم نفكر فى التعامل معهم على اساس احتمال الخطأ ، بل اهتممنا بالدفاع عنهم ضد أى نقد يؤكد بشريتهم. وإذا انبرى مؤرخ باحث مثلى لاظهار الجانب الآخر السلبى معززا رأيه بالدليل طاردته الاتهامات ، مع إن ما يكتبه لا يساوى قطرة فى محيطات المدح والتقديس والتأليه.
نسينا أنه لا بد أن تكون كل دراسات التاريخ والتراث نقدية ، ليس فقط للتأكيد على بشرية الشخصيات التاريخية ولكن أيضا لنستفيد من أخطائهم فلا نكررها.
ثانيا :
بدات المشكلة بالفتنة الكبرى وقتال الصحابةبعضهم بعضا بعد ثلاثة عقود من موت النبى محمد عليه السلام. وبدلا من بحث الموضوع بتجرد وموضوعية تمت مصادرة البحث مسبقا باحاديث تمنع التعرض للصحابة ، مثل ( لا تتخذوا أصحابى غرضا من بعدى .. ) ( أصحابى كالنجوم ..) . كانت النتيجة أننا اهتدينا بهم ولا زلنا نفعل مثلهم فوقعنا فى نفس الضياع نعتدى بالاثم والعدوان و نتشاجر ونتقاتل فى كل زمان ومكان .لا زلنا نعيش الفتنة الكبرى ، وربما يكون الاختلاف الوحيد فى نوعية السلاح وأسماء القادة والضحايا ..
بعض الفئران تعلمت من تجاربها فاصبحت تحذر من الوقوع فى نفس المصيدة ، وأصبحت تستفيد من بعض أخطاء أسلافها ، ولكننا لم نصل الى درجة ذكاء الفئران ، لأن التاريخ تحول فى أديان المسلمين الأرضية الى دين ،وأصبح رجاله آلهة مقدسة يحرم ويمتنع أن ينال منهم النقد التاريخى ، فاصبحت وظيفة البحث التاريخى هى الرقص والتطبيل و التمجيد والتقديس. وانتقل هذا من دائرة الباحثين الى كتب التعليم والتلقين فنشأ جيل يتعلم الجهل على أنه علم ، ويعتبر العلم خروجا على الملة واعتداء على ثوابت الأمة.
ويحق لنا أن نتساءل : ماهو الأجدى :
1 ـ مناقشات نقدية كان يجب ان تحدث من 14 قرنا من الزمان أم تكرارنفس الخطأ واستمرار حرب الجمل وصفين و النهروان وكربلاء فى العراق وغير العراق منذ 14 قرنا الى الآن ؟
2 ـ ما هو الأهون والأيسر : المواجهة الصريحة الواضحة للقضايا الملتهبة بالقلم و الحجة والاحتكام الى الكتاب العزيز أم المواجهة العسكرية و الارهابية بالسلاح و الدماء ؟
3 ـ وإذا كنا قد جربنا المواجهات بالسلاح فتفجرت الدماء أنهارا ـ ولا تزال ـ بين الشيعة و السنة وبين تقسيمات الطوائف نفسها وتقسيمات التقسيمات ، ولم ننجح إلا فى تعبئة سطور التاريخ بدمائنا ، فما الذى يمنع من أن نجرب طريقا آخر هوالحوارالسلمى الثقافى بالحكمة و الموعظة الحسنة؟
4 ـ ما االذى يمنع من أن يبدأ كل منا بعملية نقد ذاتى ومراجعة فكرية للتراث يحتكم فيها الى ضميره الانسانى أو ( الاسلامى ) أى يعطى نفسه أجازة من الرقص والتهليل و التقديس ـ و يقرأ التاريخ ويبحثه بعيون نقدية ، أى يتحول مثلى الى ( متخصص فى السيئات ) أليس هذا أجدى و أيسر من ليل الفتنة الكبرى الذى نسير فيه بلا نهار منذ 14 قرنا ؟
ثالثا :
1 ـ الانسان حيوان تاريخى. يمتاز عن بقية الحيوانات بأن له ذاكرة يختزنها ويقوم بتسجيلها ليتعلم منها. جاء الانسان الى هذه الأرض متأخرا عن الحيوانات ، ومنها ما هو أقوى منه. ولكن الحيوانات تعيش الحاضر فقط ، لذا تقع فى نفس الخطأ الذى كانت تقع فيه اسلافها منذ ملايين السنين. ولأن الانسان حيوان تاريخى له ذاكرة فقد تطور ولم يلبث أن وضع الحيوانات المتوحشة فى قفص وركب واستغل الحيوانات الأخرى.
بالطبع ليس كل البشر سواء فى التعلم من تاريخهم. هناك بشر ـ مثلنا ـ يزعمون أنهم يؤمنون بالقرآن ـ والقرآن يأمرهم بالسير فى الأرض وبحث آثار الأمم السابقة للتعلم والعبرة و العظة ، ولكنهم يرون آثار الأمم السابقة أصناما يجب تدميرها ، مع أنها أصبحت مجرد آثار تثير الشفقة و الدهشة و غريزة البحث و التامل و الاعتبار ـ وفق ما أمر القرآن ، ولكن ماذا تقول فى قلوب أصبحت كالصخر أو أشد قسوة (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ . البقرة 74 ).
والقرآن يحكى لهم تاريخ الأمم السابقة للتعلم والعظة ، والقرآن يؤكد لهم على بشرية الأنبياء وأخطائهم ليكون التقديس لله تعالى وحده ـ ولكن كل هذا ضاع بسبب أننا عبدنا الأسلاف وما وجدما عليه آباءنا .. وفى سبيل بضعة احاديث ضالة كاذبة وتافهة وقعنا وأدمنّا تقديس شخصيات التاريخ ـ فاذا عرض باحث بعض ملامح الوجه الآخر لاحقته الاعتراضات والاتهامات.
2 ـ انتقل الموضوع من الدين الأرضى والتراث الى السياسة .
الأحزاب السياسية لدينا تنتمى الى نفس ثقافة عبادة الأبطال. الأحزاب فى مصر اقرب الى الطرق الصوفية ، لكل حزب ابطاله أو آلهته المقدسة المنزهة عن الخطأ. فى حزب الوفد لا يمكن أن تنتقد سعد زغلول او مصطفى النحاس أو حتى فؤاد سراج الدين. وفى حزب العمل ( القديم ) كان لا يمكن أن تخالف ما قاله الاستاذ أحمد حسين ، وفى حزب التجمع اياك ان تقترب من فلان وعلان ..اما فى الحزب الوطنى الحاكم ـ فممنوع أن تنتقد كل الحكام بدءا من الملك مينا الى الوريث .
ليس هذا فى المجالات السياسية و الصحفية والاعلامية فقط بل أيضا فى مناهج التاريخ. هل توجد فى كتب التاريخ اى انتقاد لأحمد عرابى أو مصطفى كامل او سعد زغلول أو محمد فريد ؟..
وفى مقابل هذا التأليه للشخصيات التى نرضى عنها لا بد أن توجد شخصيات شيطانية تمثل كل الظلمات و الاثام. فى الدين الشيعى تجد تكفير أبى بكر وعمر و عثمان و عمرو و الزبير و طلحة و معاوية ..الخ مقابل تقديس على وذريته. فى الدين السنى تجد تقديس من يكرههم الشيعة ، ولكن مع لعن كل من قتل الخلفاء مثل ابى لؤلؤة المجوسى وعبد الرحمن بن ملجم ..وآخرين .. فى مادة التاريخ فى التعليم المصرى تجد تقديسا للزعماء المصريين مقابل الحط من أسرة محمد على ..مع أنهم بناة مصر الحديثة.
3 ـ وانتقل هذا المرض المعدى الى الدراما ،فى الأعمال الفنية التراثية ترى شخصيات المؤمنين دائما أبرارا و أخيارا و أقرب الى الملائكة التى تمشى على قدمين ، اما الكافرون فهم شياطين قبيحة لا بد أن تكرههم وإلا سقط العمل الفنى وغضب منك الجمهور.
وانتقل هذا المرض الى المسلسلات التى تتحدث فى سيرة الشخصيات الأدبية والفنية والسياسية، فترى أم كلثوم مبرأة من كل العيوب ، وترى عبد الحليم حافظ لا يخطىء قط ، و سعاد حسنى تنافس رابعة العدوية ، وحتى تحويل حياة الراقصات و العاهرات يجعلهن بطلات فى المقاومة أو راهبات تائبات عابدات ( هل رايت أفلام عن حكمت فهمى و شفيقة القبطية ...الخ) كلهم ملائكة وأبرار وقديسون ، وتكتشف فى النهاية أنك الوحيد المحتاج الى تربية وأدب وإصلاح .!!
4 ـ لا يوجد بشر معصوم من الخطأ. ولا يوجد حدث تاريخى تكفى فى تحليله رؤية واحدة أو رؤيتان أو ثلاث.. لا بد من وجهات نظر مختلفة متباينة ، كل منها يعكس القدرات الفردية لكل باحث. وفى النهاية فان عشرات الرؤى المختلفة لا يمكن ان تقول الحقيقة المطلقة عن تلك الشخصية التاريخية أو ذلك الحدث التاريخى. لأن الباحثين التاريخيين بل ومن قام بكتابة التاريخ هم بشر يخطئون ويصيبون. ولو تضافرت كل أعمال البشر فى دراسة تحليلية مركزة عن شخصية تاريخية معينة لظلت تلك الدراسة ناقصة وخاطئة، وإن كان فيها بعض الصدق فهو نسبى و ليس مطلقا، لسبب بسيط هو أننا لا نعلم الغيب.
لذلك فان التاريخ الحقيقى الصادق لكل البشر لن نراه إلا يوم القيامة ، حين نرى كتاب اعمالنا الفردى و الجماعى ينطق علينا بالحق ؛ بالصوت والصورة والألوان الطبيعية.
عندها سنعرف الحقائق التاريخية المطلقة .
ولكن بعد فوات الأوان.!!
بالضبط كما اكتشف شيوخ الأزهر عام 1983 أنه مرت الف عام واحدى عشر عاما على انشاء الأزهر فقرروا الاحتفال بألفية الأزهر بعد موعدها ب11 عاما ..
5 ـ ودائما عندما يعرف العرب والمسلمون شيئا فانهم يعرفونه بعد فوات الأوان .
إنهم أمة فوات الأوان ..
انهم امة نشيدها الوطنى أغنية أم كلثوم (فات المعاد )..