الآباء الضائعون.. ظاهرة جديدة في المجتمع المغربي

في الجمعة ٠٣ - يوليو - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

 
الآباء الضائعون.. ظاهرة جديدة في المجتمع المغربي
  • لا نزال نتذكر حكاية ذلك الابن الذي نقل أباه العاجز بسلة خوص، ليُلقي به عند باب الجامع، وكان معه ابنه الصغير، فقال لأبيه يا أبي احفظ هذه السلة، حتى أكبر وتكبر أنت، فأنقلك فيها إلى باب الجامع، مثلما فعلنا بجدي، فسقطت السلة من يد الابن العاق ورجع لأبيه وعاد به إلى المنزل!
العرب فيصل عبدالحسن [نُشر في 03/07/2015، العدد: 9967، ص(21)]
 
جمعيات خيرية كثيرة تتولى الحالات الإنسانية لكبار السن الذين ليس لهم أهل
 
لم تزل تلك الحكاية التي قرأتها وأنا طفل عن أب شيخ يعاني من بدايات عته الشيخوخة، فصار كثير الكلام، ولم تحتمل زوجة ابنه، وابنه إقامته في منزلهما.

وخططا طويلا للتخلص منه بنقله إلى أقرب دار حكومية للعجزة، فأخذ الأب يتوسل إلى ابنه بألا ينقله إلى دار العجزة، لأنه سيحرم حفيده من أن يرعاه في غيابه وغياب أمه في عملهما الوظيفي!

قال لهما “أتركاني أعتني بحفيدي في غيابكما عن المنزل في العمل”، لا أزال أتذكر هذه الجملة، لقد كانت سببا كافيا لأذرف الدموع وقتها كلما تذكرتها.

ولم يرق قلب زوجة الابن ولا الابن إلى توسلات الأب الشيخ، ونقلاه بكل قسوة إلى أقرب دار عجزة، ليرعاه موظفون غرباء عنه، ويعيش أيامه الأخيرة بعيدا عن محيطه الأسري.

كم ابنا ألقى أباه الشيخ على قارعة الطريق ليواجه مصيره مع المشردين والباحثين في القمامة.

التقينا الشيخ محمد مُلين على قارعة الطريق بمدينة الرباط، عمره تجاوز الـ70 عاما، أخبرنا بصعوبة أن ولده أتى به إلى هذا المكان، ولا يعرف لماذا تركه هنا ومضى! الشيخ على بعد خطوات من ملجأ لكبار السن والعجزة، ولكنه بلا أوراق ثبوتية، أو ما يشير إلى أن هناك من أتى به، فحتما لا يمكن قبوله في الملجأ. فالعدد مكتمل فيه والمكان مزدحم، وخلال شهر رمضان لا يتوقع أن تحصل حالة كحالة مُلين، وهناك إجراءات إدارية كثيرة تسبق قبوله في الملجأ، وحتى لو وجدوا له مكانا فإن الموافقة تتطلب أياما من المتابعة.

الحكاية حزينة لكنها تتكرر في وطننا العربي، وزادها واقع الفقر والجهل مرارات، خصوصا في شهر رمضان، شهر الخير ومغفرة الذنوب وبرِّ الوالدين.

وفي هذا الإطار قال بنعلي (بيداغوجي 35 سنة) ويعمل في إحدى المصحات الخاصة بدور العجزة والمشردين إن “ذلك يحدث أيضا في الغرب لأن منظومة القيم وأنساقها مختلفة عما في مجتمعنا”.

وتابع قائلا “بعض الشيوخ العجزة الأجانب في أوروبا ينقلون إلى دور رعاية المسنين وهي دور مخصصة للعناية بأمثالهم، لأن الكثيرين منهم يموتون في وحدة تامة بشققهم، فلا ابنا يزورهم ولا ابنة”. وأضاف “ويُكتشف موتهم بعد سنوات عن طريق المصادفة، وهذا الأمر حفّز دولا كالولايات المتحدة على سن قوانين لرعاية الشيوخ والعجزة في العام 1945، كما فعلت ذلك أيضا بريطانيا عام 1945”.

وأشار قائلا “علينا تأمل التاريخين القريبين، فالولايات المتحدة اهتمت بأمر الشيوخ والعجزة في عام 1945 وبريطانيا في عام 1956، بينما الإسلام أوصى بالعناية بالآباء والأمهات قبل أربعة عشر قرنا”.

إشاعة القيم الإسلامية التي تحض على رعاية الآباء واحدة من الوسائل للقضاء على ظاهرة الآباء الضائعين في المغرب

وتابع “وبالطبع فإن نقل الشيوخ والعجائز من الأجانب في أوروبا إلى تلك الدور لا تسعدهم كثيرا، لأنهم يشعرون بأن العالم تخلى عنهم، وأنهم انتهوا أو أوشكوا على الإنتهاء، مما يجعلهم في تعاسة دائمة”.

سألنا سعيد الصويري أحد أئمة المساجد بالمغرب عن ظاهرة رمي الآباء الشيوخ والأمهات العاجزات في دور العجزة، فقال “المسلمون اهتموا كثيرا بآبائهم وأمهاتهم امتثالا لما جاء في القرآن الكريم، وفي المغرب يوجد اهتمام كبير بهذا الموضوع. ففي مكناس على سبيل المثال يوجد وقف مخصص لكبار السن، إذ خصص الوقف رواتب شهرية للمسنين، وكسوة للصيف وأخرى للشتاء”.

وقال موضحا “ما أكثر ما جاء في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والحديث القدسي، من آيات ومواعظ حول البرِّ بالوالدين”.

وأكمل قائلا “تخيّل أن في مدينة صغيرة كمكة، معزولة بالصحراء، ويعيش معظم أهلها في خصاصة وينزل القرآن الكريم، وفيه آيات عن رعاية الآباء والأمهات”.

وتحدث عن ظاهرة ترك الشيخ محمد مُلين ليواجه مصيره بعد هذا العمر في الشارع، وهو لا يعي ما حوله وإلى أين يمضي، قائلا “حقا هي ظاهرة جديدة في المجتمع المغربي وهو عمل مشين لا يرضاه أي مغربي على الإطلاق، خصوصا ونحن في شهر رمضان، شهر البرِّ والتقوى، وإكرام الكبير والحنو على الطفل الصغير”.

وأضاف، بالطبع لن نترك الشيخ مُلين هكذا، فالكثير من جمعيات الإحسان في الرباط ستتولى أمره، وليست دور العجزة وحدها تعمل في هذا الجانب الإنساني. لدينا جمعيات خيرية كثيرة تتولى الحالات الإنسانية المشابهة لكبار السن أو المعوزين، الذين ليس لهم أهل، وهي تقدم المساعدات الإنسانية للعائلات المتعففة خلال شهر رمضان الكريم، وفي عيدي الفطر والأضحى المباركين”.

وأشار إلى أن بعض التجار عمدوا إلى طباعة عبارات كـ”أحنُ إلى قهوة أمي، وأمي طريق إلى الجنة، وتكرار الفعل: برُّوا.. برُّوا.. برُّوا، على قمصان وفانيلات قطنية للبيع، وذلك لتذكير الجيل الجديد بقيمنا الإسلامية”. وذكر أن إشاعة قيمنا الإسلامية التي تحض على رعاية الآباء والأمهات واحدة من الوسائل التي نحاول أن نقضي بها على ظاهرة الآباء الضائعين في المغرب.

اجمالي القراءات 2709