في مصر: طقوس خاصة للعلاقة بين الشعب والسلطة

في الجمعة ٢٠ - فبراير - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

تحمل علاقة المصريين بحكامهم قدرًا من الخصوصية التاريخية والثقافية  لا يمكن إغفالها، وهي علاقة  لا تفتقر في مجملها إلى أبعاد دينية روحانية وسلوكيات طقوسية وعبادية تضرب بجذورها في عمق التاريخ المصري منذ عهد الفراعنة الذين استحدثوا لأول مرة نمط الفرعون – الإله أو الحاكم المتأله.

في واقع الأمر ترجع هذه الحقيقة إلى كون الفرعون في مصر القديمة كان يحوز مكانته عبر جملة طقوس ملكية تتحقق له بها ألوهية رمزية وفعلية  وكان من بين أهم تلك الطقوس، تتويج الملك الإلهي على عرش مصر المقدس والذي كان يُنظر إليه على اعتباره الطريقة المثلى التي من خلالها كان يمكن للملك أن يتحد مع «ألكا» الملكية المؤلهة الخاصة به، وكان هذا الاتحاد ذا أهمية قصوى؛ إذ كان يقوى من حكم الملك ويدعم مفهوم وأسس ملكيته المقدسة.

ومن هذا المنطلق، كان الملك يستقبل طقوس العبادة باعتباره مقدسًا مثل “ألكا” المؤلهة، وكانت تماثيل الملوك الفراعنة تستقبل القرابين مثلها مثل تماثيل الآلهة وذلك من خلال طقوس الخدمة اليومية داخل المعابد المصرية القديمة العديدة ولعل أحد أبرز المعابد التي تصور فكرة الفرعون المؤله هو معبد أبو سمبل بأسوان جنوب مصر وبه عدد من المناظر تصور الملك المؤله في حياته يقدم القرابين لذاته المؤلهة، وفي هذا السياق فإن الملك لا يعبد نفسه بقدر ما يعبد ويكرس ويقدس مفهوم الملكية المؤلهة  في نفوس المصريين.

وتستمر عبادة الفرعون المؤله حتى بعد وفاته، وترجع عادة المصريين في تأليه ملوكهم إلى تقديرهم للدور الكبير الذي يقومون به على الصعيدين الديني والسياسي لذا فقد كان الفرعون المصري شخصًا مقدسًا في أغلب الأحوال، وقد استمرت أرواح الملوك الموتى في استقبال القرابين مثلها في ذلك تمامًا مثل الإلهين الشهيرين آمون ورع على امتداد التاريخ المصري القديم.

مع الوقت لم يعد يرتبط تقديس الفرعون عند المصريين بحجم إنجازه السياسي أو الحربي أو الديني بقدر ما صار علامة على شخص الفرعون الذى يصير مقدسًا بحكم ملكيته أو فرعونيته أو رئاسته لا بحكم إنجازه وتاريخه فمقومات قداسته أصيلة فيه وليست مكتسبة بحال، وهذا تجلي ديني وروحي محض يجعل الحاكم في مصر بشر من وجه وإله من وجه آخر، فهو بشر من حيث كونه يأكل ويشرب وينام ويموت، وإله من حيث كونه مطاع حيث أمر ولا يسأل عما يفعل، ولعل هذه الفكرة تعبر عن التجلي المصري المناظر لأسطورة تزاوج الالهة مع البشر في الثقافة اليونانية لينجبوا بذلك أفرادًا نصف مؤلهين يحكمون العالم بقوة نصفهم الإلهي ويخالطون الناس بتجليات نصفهم البشري كما في أسطورة هركليز الشهيرة.

وفي مصر، قد يأتي الحاكم إلى السلطة فتتقلص مساحة البلاد في عهده إلى النصف وتتدهور الحالة الاقتصادية وينتشر القمع وكبت الحريات ثم يكلل الحاكم مسيرته بخسارة عسكرية فادحة يخسر جزءًا كبيرًا من أرضه وجزءًا أكبر من كرامة شعبه وبلاده، ورغم كل ذلك يخرج قوم يهللون له ويطالبونه بالبقاء واستكمال مسيرة الإنجازات.

وفي مصر فقط، قد يبقى الحاكم في منصه ثلاثة عقود فيستنزف البلاد حكرًا لنفسه ولأسرته، ويستعبد الخلق لزبانيته وملأه ولا يبقى لهم إلا فتات الرزق وضيق العيش ومرارة الذل، ثم حين يجعل الله لهم مخرجًا ويفتح لهم طاقة إلى حريتهم ويمهد لهم طريقًا إلى حقوقهم إذا بأناس منهم يهتفون اتركوه، فقد خبرنا وخبرناه وما رأينا منه شرًّا قط.

في مصر، يغني أناس للثورة ويقدسون المستبد، ينشدون للحرية ويطبلون للزبانية، يمجدون الشرف ويعظمون اللصوص، يتغنون بالأمجاد ويهتفون لمحترفي الانتكاس وصناع الهزائم.

في مصر، يخرج أناس كي يدلوا بأصواتهم في صناديق الانتخاب خمس مرات، ثم يأتي رجل ليطأ رغباتهم ببيادته ويقتل رجالهم ويسبي شبابهم وييتم أطفالهم ويهين نساءهم ثم يطلب منهم تفويضًا بمزيد من القتل فيعطونه ذلك مصحوبًا برجائهم الحار والصادق أن يكمل جميله ويتكرم عليهم ليحكمهم مدى الحياة.

 

طقوس التفويض في مصر ما بعد الانقلاب العسكري:

في أي نظام سياسي ديمقراطي، عندما يريد أن الحاكم أن يستطلع آراء شعبه حول أمر ما، أو حتى يحشد تأييدهم لموقفه في قضية ما، فإنه يطلب منهم الذهاب إلى صناديق الاستفتاء؛ حيث يعبرون عن آرائهم فيؤيد من من رضي، ويعارض منهم من أبى، في مصر يحشد قائد الانقلاب شعبه في ساحات التفويض؛ حيث يرفعون صوره ويلبسون ملابس تطبع عليها صوره، ويعلقون لافتات تحمل اسمه وصوره ويهتفون بحبه وحياته ومؤخرًا يرفعون تماثيل صممت على هيئته، قبل أن تحلق فوقهم طائراته لتكافئهم بكوبونات الهدايا والجوائز التي تُعد بمثابة صكوك النجاح في اختبار التفويض.

لا يمكننا تصنيف هذه الحالة وفق قواعد الفعل السياسي بحال، هذا الاختراع المصري المدعو بالتفويض لا يكمن تصنيفه كفعل احتجاج أو حتى تأييد سياسي، فهو يحدث في مواقيت محددة بطلب من الحاكم لأداء وظائف ومهام محددة سلفًا في وقت معين، إنها أشبه بطقوس صلاتية يمكن أن نطلق عليها صلاة تفويض الحاكم تمارس في ميدان التحرير وغيره من الميادين التي صارت بمثابة معابد للتفويض.

هذا رجل مصري يقف في ساحة ميدان التحرير يربط فوق رأسه بيادة عسكرية متفاخرًا بذلك، وهذا رجل آخر يحمل في يديه مصحفًا وصليبًا ويرفع صورة السيسي ويضع مجسمًا لدبابة فوق رأسه، هناك آخرون يرفعون بأيديهم تماثيل مجسمة للحاكم، وفتاة ترتدي قميصًا مكتوب عليه بحبك يا سيسي، فهل يمكن تفسير هذه النشوة بتأييد الحاكم ومحاربة خصومه ضمن إطار سياسي أم أنها أكثر شبهًا بوظائف طقوسية عبادية؟؟

الأمر لم يقتصر فقط على طوس التفويض، فعملية سياسية نمطية الإجراءات كالاستفتاء على الدستور أدخل عليها المصريون ممارسات وطقوس جديدة أبرزها الرقص الجماعي في الشوارع الذي مارسه الرجال والنساء على حد سواء دون استهجان معتبر من المشاركين الذين تفاعلوا مع الحالة بتلقائية وعفوية رغم شذوذها وغرابتها المثيرين للانتباه.

حتى كراهية المصريين التاريخية للدماء صارت الآن موضوع تساؤل واختبار، فرأينا أناسًا يهللون للقتل وإراقة الدماء ويصفقون لها في رضا الحاكم الفرعون، فهم ساعة يكرهون الدماء في دين الله وساعة  يهللون لها في دين الحاكم.

إنت تغمز بس يا سيسي “علاقة أنثوية بين السلطة والشعب”:

صحفية في إحدى الجرائد المصرية الشهيرة كتبت في مقالها: “طالما السيسي قالنا ننزل يبقى هننزل.. بصراحة هو مش محتاج يدعو أو يأمر. يكفيه أن يغمز بعينه بس.. أو حتى يبربش.. سيجدنا جميعًا نلبي النداء.. هذا رجل يعشقه المصريون!.. ولو عايز يقفِل الأربع زوجات، إحنا تحت الطلب.. ولو عايزنا ملك اليمين، ما نغلاش عليه والله!..”.

أخرى تخرج على الهواء مباشرة لتقول أنا بحب السيسى جدًّا، بينما الفريق السيسي في أحد تسريباته يصف المتحدث الرسمي للقوات المسلحة بأنه وسيم وجاذب للنساء، والأدهى أن رئيس الوزراء حازم الببلاوي في لقاء له على هامش منتدى دافوس الاقتصادي يقول بأن الفريق السيسي ربما يترشح للرئاسة وأسباب ذلك – في نظره – أنه له جماهيرية كبيرة بين النساء وأنه – على حد قوله – رجل وسيم.

الأمر ليس مصادفة إذًا، والرسالة يتم الترويج لها بحرفية شديدة، الحاكم لا يخاطب النساء فقط ولكنه يخاطب كل ما هو أنثوي حتى الأنوثة في الرجال، وكما يقول كارل جوستاف يونغ أن كل كائن بشري يجمع صفات الأنوثة والذكورة معًا، النظام الحاكم في مصر يطور صيغة جديدة للخطاب أشبه ما تكون بخطاب الرجل إلى المرأة الذي يعمد إلى صناعة مزيج بين القوة الموحية بالسيطرة والكاريزما المثيرة للإعجاب، لا عجب إذا أن ترتدي امرأة ملابس مطبوع عليها “بحبك يا سيسي” مع صورة  لقلب، أو أن يخرج رجل ليتباهى بزوجته التي رقصت في الشارع احتفالاً بالاستفتاء، فهو لا ينظر إلى هذه الأفعال كتصرفات أنثى تجاه رجل بقدر ما ينظر إليها كطقس اجتماعي يمارسه الرجال والنساء نحو الحاكم سواء بسواء.

وكتب الأديب الكبير نجيب محفوظ يومًا: “لم يكن عجيبًا أن يذعن المصريون لفرعون بالألوهية، لكن العجيب أن فرعون آمن حقًّا أنه إله”، أما الأعجب والذي لم يُشِر إليه نجيب محفوظ أنه حتى بعد وفاة فرعون جاء غيره ليُذعن له المصريون بالألوهية والتقديس، أما الأعجب والأعجب حقًّا أنه حين جاء إلى مصر حاكم رفض أن يلعب دور الإله لفظه المصريون ولم يهدؤوا حتى جاءوا بفرعون جديد ينصبونه على عرش مصر الذي لا يبدو أن أحدًا قد يعمر فيه حتى يعتقد حقًّا أنه نصف بشر ونصف إله.

اجمالي القراءات 3241