بناءً على الامثلة المطروحة في قصة يوسف عليه السلام – توصلنا الى أن تأويل القرءان (أو أيات القرءان) يستلزم القيام بعمليات أو المرور بخطوات كان أهمها هو وجود تشابه فيما بين الايات يسهل تتبعه في القرءان الكريم ، و كانت هذه الخطوة أوضح و أهم خطوة ظهرت بشكل صريح فيما بين الايات المأول منها و الايات المؤول اليها في قصة يوسف. و بناء عليه يستوجب دراسة المقصود بالمحكم و المتشابه من آيات القرءان الكريم وربطها بتأويل الايات .
لقد كان موضوع المحكم و المتشابه مدار بحث و تمحيص من قبل الكثير من الباحثين .. و الحقيقة أن الاية التي جمعت بين المصطلحين كانت للوهلة الاولى صعبة المراس لمن حاول أن يفهم ماذا قصد الله بتلك الاية ، يقول الله ( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ «7») آل عمران. و إن أعادة نظر و قرءاة هذه الاية تبين أن الله أوضح لنا المنهج البسيط و البديهي (كما سنرى) الذي علينا اتباعه إن كان هدفنا تأويل القرءان ، و قد أعطانا الله أربعة أمثلة توضيحية عن التأويل ما بين آيات القرءان في سورة يوسف كما أوضحنا في مقال سابق.
إن آية آل عمران تقرر أن القرءان فيه آيات محكمات و آيات اخرى متشابهات ، لكن أيضا نقرأ قوله تعالى(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ)23/زمر و قوله (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)1/هود .... السؤال الان : إذا كانت الاية الاولي تقول أن من القرءان آيات محكمات و اخر متشابهات ، والاية الثانية تقول أن القرءان كتاب متشابه ، في حين الاية الثالثة تقول أن القرءان آياته محكمة. فكيف نفسر هذا التناقض الظاهري إذن؟ لتفسير ذلك فإننا نفترض أن أيات القرءان نفسها قد تكون محكمة في حال و قد تكون متشابهة في حال آخر و أن المتشابه يزول تشابهه باستخدام المحكم و أن الاية التي كانت محكمة قد تصبح نفسها محل تشابه و العكس بالعكس (أي الاية المتشابهة قد تصبح محكمة). قبل الخوض في التفاصيل يتوجب معرفة مقصود بعض الكلمات و التي اعتلاها بعض الالتباس بسبب ما تآلف الناس عليه بخصوص تعقيد المعاني القرءانية.
قوله (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) – كلمة زيغ من المحتمل جدا أنها تعني هنا انحراف او ريب فكري و عدم وضوح – كقوله (وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ «62» أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ «63»)63/ص . أي هل انحرف بصرنا فأصبحنا غير قادرين عن الرؤية – هل اصبنا بعدم الوضوح في الرؤية ، و قوله ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)8/آل عمران ، أي لا تحرف قلوبنا عن الحق بعد أن كنا على هداية .. إذن الواضح أن الذين في قلوبهم زيغ لا تعني بالضرورة أناس ذو خلق فاسد و نية مجرمة ، بل هم أناس عندهم ريب أو عدم وضوح في قلويهم تجاه مسألة معينة، هؤلاء الناس سوف يتتبعون آيات القرءان المتشابهات لواحد من سببين: إحداث الفتنة بين المسلمين أو لتأويل القرءان. و الواضح أنه في الحال الثانية يكون اولئك الذين في قلوبهم زيغ يعانون من ريب و عدم وضوح في فهم بعض آيات القرءان فيقومون بملاحقة التشابه بين آيات القرءان بهدف تأويلها أي فهمها.
و المقصود بالمتشابه هو المعنى الحرفي لكلمة تشابه : ما يشبه بعضه بعضا بحيث في الغالب لا نفرق بين بعضه ، مثل قوله (كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً)25/بقرة و أيضا (قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) 70/بقرة .. أي إن البقر أصبح في وجهة نظرهم يشبه بعضه بعضا بحيث يتعذر التفريق(فوقعوا في اختلاف و عدم اتفاق) فلم يهتدوا الى البقرة المطلوبه ، و أيضا قوله تعالى (وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ)118/بقرة – أي أن قلوبهم أصبحت مثل قلوب من سبقوهم من ناحية عدم الايقان بالله ، إذن كلمة متشابهة قد تقودنا الى معنيين: الذي يشبه بعضه أي يناظر بعضه - و الذي يشتبه به أي يشك به فيصبح موضع اختلاف و عدم اتفاق.
إذن آية آل عمران تبين المنهج الواجب اتباعه في سبيل فهم و تأويل القرءان في قوله تعالى (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ) أي بتتبع المتشابه في القرءان بهدف التأويل (وليس بهدف فتنة الناس) . إذن بناء على ماسبق، الآية المحكمة هي الآية التي دلالتها قاطعة ومعناها واضح ثابت، في مقابل المتشابهة التي ترددت وتكاثرت دلالتها، فصارت مبهمة تتنازع ظاهرها عدة دلالات أو وجوه، بذلك صار المتشابه يعم ليشمل المبهم ، الذي لا يدرك معناه بسهولة، أو المضطرب والأمر الملتبس المختلط بغيره، يدل على ذلك قوله: (أدع لنا ربك يبين لنا ما هي ان البقر تشابه علينا)بقرة/70، فتشير الآية إلى المتشابه الذي يتساؤل عنه بالاستفهام الدال على الجهل بالشيء.
والوضوح والإبهام صفتان غير ذاتيتان في الآية، ولا نابعتان من طبيعتها، ولكنهما تعتريان الفهم في علاقته بالوجه الذي تظهر به تلك الآية. فالفكر تارة يتصور وجه الآية بوضوح، وتارة أخرى يجهل معالم وجهها. فاشتقت من طبيعة هذين الموقفين صفة الآيتين، فالآية في الحالة الأولى محكمة، وفي الحالة الثانية متشابهة، وترتب على هذا الترابط بين الفكر والآية نسبية صفتي الإحكام والتشابه. إلا ان التشابه يدفع الفكر إلى الانتقال من وضع التشابه المعبر عن الجهل بالآية إلى وضع الإحكام المعبر عن العلم بها، وتبقى تعتريها بين فترة وأخرى صفة الإحكام والتشابه.
و الامثلة التالية تبين المقصود بعلاقة المحكم و المتشابه من آيات القرءان (حسب ما ذهبنا إليه من فروض سابقة) ، إن فهم تلك العلاقة بين التشابه و الإحكام لهو بالغ الاهمية و يعد الخطوة الاولى نحو التأويل – كما سبق وأن لاحظنا ذلك في أمثلة قصة يوسف:
1. الآية القرآنية: (ومنهم أميون لا يعلمون)بقرة/72، هذه الآية تصف الأميين بأنهم لا يعلمون، وهذا يقود إلى التساؤل: من هم الأميون؟ مما يجعل الآية متشابهة (تتشابه على العقل)، وتحتاج إلى إحكام، و بتتبع كلمة «يعلمون» في القرءان، تهدينا إلى الشبيه المحكم (بكسر الكاف): (أكثر الناس لا يعلمون)أعراف/187، هذه الآية تزيل التشابه في (أميون)، عندما تحكم معناها في «أكثر الناس»، فالأميون هم إذن الجمهور المعروف بالرأي العام.
2. الآية: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة)بقرة/ 138، جهلنا بكلمة «صبغة» تجعل الآية في هذا الجزء منها متشابهة، ولإزالة التشابه، نستقرئ أشباه الآية في «أحسن» ليقودنا الاستقراء إلى الشبيه المحكم: (ومن أحسن ديناً ممن اسلم وجهه لله)125/4، فتحكم (بفتح الكاف) «صبغة» في «دين».
3. الآية: (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك)بقرة/ 196، التشابه في «نسك» يستدعي استقراء أشباه الآية في «فدية»، لنهتدي للنظير المحكم (بكسر الكاف): (ففديناه بذبح)صافات/107، فيحكم وجه «نسك» في «ذِبح»، أي كبش يذبح
4. قوله تعالى: (إن خفتم ألاتقسطوا)نساء/3- فالتساؤل عن وجه «القسط» يتطلب استنطاق القرآن، بإرجاع الآية المتشابهة إلى الأخرى المحكمة (عن طريق تتبع التشابه الملاحظ في اولها): (وان خفتم ألا تعدلوا)نساء/3، فتحكم هذه الأخيرة وجه «تقسطوا» في «تعدلوا».
5. قوله تعالى: (ولا يأتون البأس إلا قليلا)أحزاب/18، تشابه الآية في «البأس» يتم إحكامه باستقراء تشابه الآية في «قليل» لتهدينا إلى الشبيه المحكم: (لو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا)أحزاب/20 حيث يحكم وجه «البأس» في «القتال».
6. قوله تعالى: (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات، وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً)فرقان/ 53، التساؤل عن «برزخ» يفرض الحاجة لاستقراء نظائر الآية في «بحرين»، ليهدينا إلى النظير المحكم: ( جعل بين البحرين حاجزا)61/27، فيحكم وجه «برزخ» في «حاجز».
7. قوله تعالى: (فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه)أنفال/48، فتشابه الآية في «نكص» يمكن فهمه باستقراء نظائر الآية في «عقبيه»، ليقودنا إلى النظير المحكِم: (ومن ينقلب على عقبيه)بقرة/194، فيحكم وجه «نكص» في «انقلب».
9. الآية: (استأذنك أولوا الطول منهم)توبة/86، تشابه الآية في «أولوا الطول»، يفرض استقراء نظائرها في: «استأذنك»، فنصل الى المتشابه(الذين يستاذنونك وهم أغنياء)توبة/ 93، فـ«أولي الطول» هم «الأغنياء».