جواب على مقال السيد عمرو اسماعيل
الفرق بين آيات القتال في سورة التوبة وسورة البقرة

وسام الدين إسحق في الجمعة ٠٧ - مارس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً




الأخ العزيز عمرو اسماعيل المحترم.
أشكركم أخي العزيز على مقالكم الدقيق في التعبيرات والتي تثير بعض التساؤلات حول إعادة تفسير آيات القتال في سورة التوبة, كما تثير بعض التساؤلات الأخرى حول وجود آيات قرآنية محددة بزمان ومكان معين وعلى وجود آيات أخرى تنطبق على كل زمان وكل مكان, كآيات الرق والعبودية وآيات إضطهاد حقوق المرأة من ضربها وتطليقها أوالزواج عليها.
أظن أن موضوع الضرب قد أثير أكثر من مرة في هذا الموقع ولقد كانت أغلب الإستنباطات قريبة إلى الصحة بشكل مقبول, وأن مفهوم الطلاق أيضاً قد طرح أكثر من مرة ولها آراء مختلفة أما موضوع الزواج من الثانية حتى الرابعة فلم أقرأ عنه شيئاً في هذا الموقع, وأظن أنه حساس فالزواج  الثاني أؤمن أنه أتى من أجل اليتامى لتأمين الإستقرار الإجتماعي في المجتمع, وأرغب في مقالتي هذه بأن أطرح عليكم موضوع آيات القتال الموجودة في سورة التوبة والفرق بينها وبين نظيرتها التي أتت في سورة البقرة, ولنتعرف على أنواع وفروق الآيات التي أحكمت لزمان ولمكان معين والآيات الأخرى التي أتت لكل زمان ولكل مكان:
من قراءة آيات سورة التوبة, ومن الآية الأولى إلى الآية الثامنة عشر منها نستشف آلية توجيه الخطاب لعصر الرسول بمن فيهم من المؤمنين ومع من كان بينهم من المنافقين, وممن كان حولهم من المشركين ذاكرة لنا ومبينة تلك المعاهدة التي كانت قد ابرمت بين مؤمنين ومشركي مكة في ذلك العصر, عصر الرسالة بدليل قوله تعالى : (إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ) فيشرع الله لرسوله بنود تلك الهدنة ويحدد له شروطها ومدتها بأربعة أشهر : (فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) والتي ستبدأ الآن .ولنسأل أنفسنا هذا السؤال (متى تمت هذه المعاهدة التي يخبرنا بها الله ؟. ) يقول الله تعالى (وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ ) ... ! متى كان يوم الحج الأكبر ؟ وما معنى الحج الأكبر ؟ وهل هناك حج أصغر ؟ ...
هذا ما أجبرنا على بحث طويل وشائك مرتبط بالشهر النسيء متى يأتي في كل عام ؟
*للحاشية : الرجاء الرجوع إلى كتاب (التقويم الهجري للسيد نيازي عزالدين في هذا الموضوع, والذي يتم عرضه الآن على هذا الموقع ).
فالحج كما أكد السيد نيازي عزالدين في مؤلفه هو أشهر معلومات :
(الحج أشهر معلومات) 2/197
وهي ثلاثة أشهر (شوال-ذو القعدة-وذو الحجة) وعندما يأتي النسيء في أخرها يصبح الحج أربعة أشهر ويحدث هذا كل ثمان سنوات تقريباً لأن شهر النسيء يضاف كل 32 شهر قمري مرة, فيأتي مرة مع أشهر الحج ويعتبر منها فيدعى الحج في تلك السنة بالحج الأكبر, ويأتي في المرة التالية مع أشهر الحرم الأربعة فيحسب منها ويحرمه الله ويأتي في المرة الثالثة بين شهر شعبان ورمضان ليدفع بشهر الصوم إلى أوائل فصل الخريف حتى لا يأتي في حر الصيف أبداً, ثم يعيد تكرار مجيئه من جديد مع أشهر الحج أي بعد مرور 32+32+32 شهر أي تقريباً ثمان سنوات.
وفي نهاية الحج أي شهر ذو الحجة تبدأ عادة الأشهر الحرم بشهر "صفر أول" الذي بدل اسمه وأصبح يدعى "محرم" إعلاناً على بداية الأشهر الحرم والتي تأتي بعد موسم الحج وهي أربعة متتالية محرم, صفر (والذي كان يدعى صفر ثاني) ثم ربيع أول وربيع ثاني والذي تأتي في فصل الربيع ولهذا دعيت بهذا الإسم أساساً .
ونحن نعلم أن سورة التوبة قد نزلت من السنة التاسعة للهجرة أي قبل فتح مكة بعام واحد والتي نحن بصدد تحديد تلك المعاهدة التي حدثت في ذلك الوقت مع المؤمنين والمشركين في ذلك العام وعندما أتى النسيء في ذلك العام بعد أشهر الحج دعي موسم الحج فيها بالحج الأكبر وبدأت شهور الحرم والتي حرم الله فيها القتال وصيد البر, وحلل صيد البحر:
يقول الله تعالى :(أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر مادمتم حرماً واتقوا الله الذي إليه تحشرون) 5-96
إن تفسيرات السلف لهذه الآية ولكلمة (حرماً) بالذات أنها أثناء الحج وفي الحرم المكي.. ومن المعلوم أن مكة ليست مدينة ساحلية أبداً لهذا فليس من المعقول أبداً أن يحرم الله علينا صيد البر فيها ويحلل لنا أثنائها وبمكانها صيد البحر .... !
فالمقصود هنا في هذه الآية بكلمة (حرماً) أي الأشهر الحرم وأثناءه زمنياً وليس مكانياً.
لأن كلمة (مادمتم) أساساً زمنية وليست مكانية.
لنعود إلى سورة التوبة لنرى ماذا سوف يحدث بعد إنتهاء فترة الهدنة والتي حددها الله لهم بأربعة أشهر فيأتي أمر الله مبيناً شروط انتهاء تلك الهدنة :
(فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ)
أي بدء القتال, على جميع المشركين الذين لم يرجعوا عن إشراكهم ولم يدخلوا في الإسلام ولم يبدءوا بدفع الزكاة وإقامة الصلاة وقد انتهت فترة المعاهدة بينهم فيستثني الله منهم التائبين : (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ثم يبين الله تعالى كيفية معاملة المشركين الذين طلبوا التريث من أمرهم ومن أمر قتالهم لأنهم لاحول لهم ولا قوة فيما أجبروا عليه من إيمان فرض عليهم من سادتهم فرضاً قسرياً فيقول الله :
(وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُون)
ثم يبين الله تعالى حيثيات معاهدة الهدنة تلك والتي جرت في تلك الفترة موضحاً بقوله تعالى :
(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ {7} كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ {8} اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {9} لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ )
ثم يعود سبحانه فيذكرهم بالتوبة كإنذار أخير وكَمَنفَذ لهم قبل أن يبدأهم المؤمنون بالقتال :
(فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)
ثم يبين سبحانه موقف هؤلاء التائبين الذين أصبحوا من صفوف المؤمنين إخواناً فيحذرهم الله من نكوثهم لأيمانهم : (وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ {12} أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ )
ويتمم سبحانه قوله الكريم : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ {14} وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {15}
لأن الله لا يغفل عن المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما لا يكنون في قلوبهم فاشتروا أمنهم بنفاقهم فيقول الله لهم :
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {16}
لأن الله لا يرغب في بناء أول مسجد للمسلمين على أساس هش وإنما رغبته تأتي في بناء أول مسجد على أساس التقوى حيث يقول الله تعالى :
(لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه, فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين) 9-108
ويقول الله هنا في ذات السورة في الآية 17
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ {17} إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ {18}.


أما موقف آيات سورة البقرة نجدها مختلفة تماماً كما تنص الآيات :

نجد من الآية الأولى قوله تعالى : (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) هذه الآيات متشابهات أي أنها آيات لكل زمان وكل مكان وهي تبين أمر الله تعالى بقتال المعتدين مذكرة المؤمنين بعدم بدء القتال والإعتداء لأن الله لا يحب المعتدين.
مبيناً سبحانه أنه في حال إعتداء المشركين أو الكفار وفي أي عام وفي أي لحظة فهذا ما يجب عليكم فعله (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) وهذا حق شرعي يوافق عليه كل البشر اليوم وفي كل البلاد وتحاول أمريكا وإبنتها اسرائيل طمس تلك الحقيقة فنراهم يخلطون الحابل بالنابل ويقولون أن المقاومة الشرعية في لبنان وفلسطين هي إعتداء وإرهاب ولكن العالم كله ينظر إليهم اليوم وكل يوم, نظرة ازدراء لما يفعلونه من جرائم في العالم كله, بدءاً من أفغانستان إلى العراق وفلسطين والسودان وكيف أنهم يحرفون الحقائق ويشرعون لأنفسهم ما يحرمونه على غيرهم ولا يحترمون أي قرار لمجلس الأمن ولا حتى لأي معاهدة من معاهدات السلام وحقوق الإنسان في العالم.
ثم يحرم الله تعالى الحرب في البيت الحرام إلا في حالة الإعتداء المباشر من الآخرين :
(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ) ثم يسمح الله لنا وفي أي وقت أن نبرم معاهدات مع المشركين إن توقفوا عن القتال وطلبوا السلم : (فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ )
ثم يذكرنا الله في القصاص في الحروب فمن يعتدي عليكم في حرمة شهر من الأشهر الحرم نسطيع الرد عليهم في الأشهر الحرم قصاصا عادلا من الله تعالى ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)

إن فهم آيات القتال في سورة التوبة على أنها مثل الآيات التي وردت في سورة البقرة هو ضرب من الخيال حيث أن الأشهر الحرم تأتي عادة كل عام مرة وتنتهي بعدها.

والسلام على من اتبع الهدى
والله ولي المؤمنين
وسام الدين اسحق

اجمالي القراءات 17204