ما الفرق بين الفعل والعمل في القرآن؟
لخطورة هذا الموضوع أحب أن يضع القارئ في ذهنه قاعدة أعتبرها من القواعد الثابتة لفهم كلمات القرآن التي علينا أن نفهمها من ذات القرآن، إذا دققنا مثلا في كلمة قوم التي تكررت في القرآن: 380 مرة، بإمكاننا أن ندرك أنها قد وردت وهي تحمل معنيين مختلفين، يمكن أن نلاحظها في النماذج القرآنية التالية: 1- (القوم الكافرين) (القوم الظالمين) (القوم الصالحين) (القوم المجرميـن) (القوم الخاسرون). ( قوم يعلمون) ( قوم يفقهون) (قوم يؤمـنـون) ( قوم مســرفون) ( قوم يسمعون) (قوم يعقـلــون). 2- ( قوم نوح) ( قوم هود) ( قوم صالح) ( قوم لوط) ( قوم عاد) ( قوم ثمود) ( قوم إبراهيم). في المجموعة الأولى نجدها قد أتت بمعنى فريق أو مجموعة منسجمة تجمعهم صفات مشتركة. بينما نراها في المجموعة الثانية قد أتت بمعنى قبيلة أوعشيرة كل رسول من أولئك الرسل، مع غض النظر عن الإختلافات الموجودة بين أفراد القوم الواحد في العقيدة، كافرين كانوا أو مشركين أو مؤمنين. لذلك إذا قرأنا آية قرآنية تقول كما في الآية التالية: (يا أيها الذين أمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيـرا منهم ) 11-49. نفهم عندها أن كلمة قوم هنا تنتمي للمجموعة الأولى، وأتت تفيد معنى فريق أو مجموعة من الناس يرون أنهم متميزون عن غيرهم، لذلك فهم يعطون أنفسهم الحق بالسخرية من أفراد مجموعة أخرى يرون أنها أقل تميزا منهم.
كما نلاحظ من نماذج تلك المقاطع التي إستخرجناها من القرآن التي إستطعنا أن نعلم ما يعنيه سبحانه بكلمة قوم وما نجده اليوم من تعميمنا عندما نقول: القومية العربية أو القومية الفرنسية أو القومية الإنكليزية، التي لاوجود لها في لغة القرآن، بل نجد بدلا عنها كلمة شعوب وقبائل.
بينما إذا بحثنا عن معنى كلمة أمة، ماذا نجد لها من معنى في القرآن الكريم؟ نلاحظ مثلا قول الله تعالى بأن إبراهيم كان أمة. ( إن إبراهيم كان أمة) 120-16. وهنا علينا أن نتساءل: كيف كان الرسول إبراهيم وحده أمة؟ لكننا بالطبع لن نجد الجواب لذلك التساؤل أو غيره مهما بحثنا إلا في القرآن العظيم:
( أم تقولون إن أبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب .....* تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعـمـلـون*) 140-141-2. وقوله تعالى وهو يخاطب خاتم أنبيائه المرسلين: محمد عليه الصلاة والسلام: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)110-3. كل تلك الآيات السابقة تشير في القرآن، إلى مجموعة الرسل من نسل إبراهيم الذين تعاقبوا وحملوا رسالات الله تعالى خلال آلاف السنين مابين إبراهيم ومحمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين، وهؤلاء الأنبياء والرسل هم الذين يشكلون تلك الأمة. لو لم نتبع هذا الأسلوب الخاص لفهم آيات القرآن لظننا كما تظن الأغلبية اليوم أن المقصود به هي الأمة العربية أو الأمة الإسلامية بينما المقصود القرآني لا هذا ولا ذاك. باتباع هذا الأسلوب في فهم كلمات القرآن، نكون فعلا قد أوجدنا طريقة عملية وسهلة لفهم كلمات القرآن، مستنبطة من ذات القرآن، غفل عنها أغلب المسلمين لأنهم توقفوا بالفعل عن التفكر في آيات الله، ظنا أن السلف الصالح قد أدى تلك المهمة وعلينا إتباع ما قالوه أو كتبوه كما رسخوا في فكرنا أننا مهما بلغنا من العلم والذكاء لن نبلغ أبدا ما بلغه السلف الصالح، بالتالي نحن أقل من أن ننتقد أو نصحح أي شيء قالوه أو رووه أو كتبوه.
بينما كما لاحظنا قبل قليل، عندما تفكرنا من جديد في كلمة قوم أو كلمة أمة بالأسلوب الذي توصلنا إليه من ذات القرآن اكتشفنا مباشرة مقصد الرحمن من تلك الكلمتين، كما استطعنا أن نميزها عن المعني الذي تطورت إليه كلمة قوم أو كلمة أمة خلال العصور المختلفة التي مرت على المسلمين، فحمل (بتشديد الميم) كلمة الأمة القرآنية المعنى الذي تطورت إليه الكلمة في اللغة العربية مع الزمن ليعني مانعنيه اليوم عند قولنا: الأمة العربية، بينما المعنى الذي عرفناه من القرآن وجدناه مختلفا تماما. كما فهمنا ما قصده سبحانه وتعالى عندما قال: ( إن إبراهيم كان أمة). وعلمنا أن الأمة المباركة التي قصدها الرحمن عندما قال:
( كنتم خير أمة أخرجت للناس...) 110-3. هي أمة الأنبياء المباركة التي أتت من نسل نبي مبارك واحد هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام. إنطلاقا من هذا الإستنتاج يمكننا القول أن معنى كلمة أمة في لغة القرآن أتت لتعني مجموعة متجانسة من الأفراد اختارهم سبحانه من ذرية رجل صالح مختار، عبر عنه القرآن بكلمة: إصطفى. وفي مثالنا هذا كانت مجموعة الأنبياء من ذرية رجل صالح اصطفاه الله هو النبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام. كما أن كلمة أمة قد تأتي أيضا في القرآن بمعان مختلفة يمكن معرفتها من سياق النص وحده كما في قوله تعالى في الآية الكريمة التالية: ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه؟ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون*)8-11. حيث أتت في تلك الآية بمعنى فترة محددة من قبل الله تعالى: أو قوله تعالى في الآية الكريمة: ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة*) 118-11. حيث أتت هنا أيضا بمعنى مختلف يقصد شعبا واحدا لهم لغة واحدة. من خلال هذه المقدمة أحببت أن أقول بطريقة غير مباشرة أنه ليس بإمكاننا أن نفهم الكلمات في آيات القرآن إذا كان مرجعنا لفهمها على الدوام هو فقط ما كتبه السلف من كتب تفسير أو معاجم للغة العربية، التي إستحدثت إعتبارا من العصر العباسي، لتكون مرجعا لغويا لكل القبائل والشعوب العربية بمختلف لهجاتها. علما أني لا أطالب أحدا هنا بإلغاها أو إجتنابها بشكل كامل، بل أقول أن الأساس في فهم القرآن هو التفكر في كلمات الله تعالى وآياته للوصول إلى المعنى المقبول على أنه المقصود من الرحمن من سياق النص مع الإستئناس بما كتبه الأولون دون أن يتناقض ذلك مع العقل والمنطق الإنساني، الذي يعتبر النعمة الكبرى من الله تعالى لعباده المؤمنين المتقين.
وهذا ما يفسر سبب وجود مترادفات كثيرة للشيء الواحد في اللغة العربية الفصحى، لدرجة جعلت أبو العلاء المعري يرد على الشاعر الذي مر به وهو واقف على باب الخليفة العباسي في بغداد ليدخل قبله عليه قائلا: من هذا الكلب الأعمى الذي ببابك يا أمير المؤمنين؟ فيرد عليه أبو العلاء منفعلا بما سمع: الكلب من لا يعرف ثمانين إسما للكلب.* * مشيرا بذلك إلى سعة إطلاعه وعلمه في مفردات اللغة العربية الفصحى. لذا علينا أن ننتبه إلى عدم وجود أي مترادفات في لغة القرآن الذي نزل بلسان قريش، لسبب بسيط وهام هو أن الله تعالى لم ينزله على رسولنا بألسنة العرب أجمعين، بل أنزله بلسان قوم الرسول نفسه: ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ...*) 4-14. هذه القاعدة التي توصلنا إليها من خلال التفكير في كلمات الله التي وردت في آياته بإمكاننا أن نعتبرها الآن قاعدة أساسية من قواعد فهمنا للقرآن الكريم. لكن علينا أن ننتبه ونلاحظ أن الكلمة الواحدة في لسان قريش يمكن أن تأتي كما قلنا سابقا وهي تحمل معنى مختلفا يمكن تمييزه من سياق النص للآيات القرآنية وحدها، مثل كلمة: الكفار، مثلا، التي قد تأتي أحيانا بغير المعنى المألوف فتصبح بمعنى الزراع من أهل الكفر، ورجالا، التي قد تأتي أحيانا بمعنى المترجلين، وكلمة النساء، التي قد تأتي أحيانا بمعنى: الأحفاد الذكور، كما ذكرنا سابقا وهكذا. والآن بعد تلك المقدمة بإمكاننا العودة إلى موضوعنا الأساسي لنعيد صياغته كما يلي: ما الفرق بين الفعل والعمل بحسب كلمات القرآن؟ لنعتمد في حصولنا على الأجوبة الصحيحة من خلال إعتمادنا على لغة القرآن قبل الإعتماد على ماقاله المفسرون من السلف في كتب التفسير. دعنا ندقق في معاني كلمات الآية التالية: ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لانضيع أجر من أحسن عملا *) 30-18. إن فكرنا في عبارة: ( إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) التي أتت جوابا لقوله تعالى: ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ). نستنتج أن الله تعالى قد إستخدم كلمة: أجر، لكل من أحسن عمله في الدنيا. ونحن في حياتنا العملية نعلم أن كلمة العمل إذا إقترنت بكلمة الإحسان التي تعني الإتقان في ألسنة عربية أخرى وتقترن عادة بكلمة الأجر ( أجرة العامل) الذي يقابل عادة ماقام به المؤمن من عمل صالح خدمة لفرد من أفراد مجتمعه أو لمجموعة منهم. وكلمة الأجر(الأجرة) هذه التي تأتي عادة مقابل كل الأعمال تضعنا مباشرة في مجال أجور العمل الصالح الذي يؤديه الناس مقابل أجور متفق عليها سلفا.
الآن دعنا ندقق في آيات أخرى فيها وعد من الله تعالى للمؤمنين الذين قاموا خلال حياتهم في الأرض بأعمال صالحة مقابل أجور قبضوها من مستخدميهم في الحياة الدنيا. كيف يعبر سبحانه عن ذلك في القرآن المعجز في سهولة الفهم والحفظ في الذاكرة: ( وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم )57-3. نلاحظ أن الله تعالى قد إستخدم في تلك الآية أيضا كلمة: ( أجورهم ) إن أحببنا أن نعلم كيف سيوفي سبحانه أجور العاملين والعمال من المؤمنين، هل ستكون نقدا أم عينا؟ علينا أن ندقق في أيات أخرى مثل قوله تعالى: (... ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون *) 43-7. نلاحظ في الآية السابقة أن وراثة جنة الرضوان في الآخرة لا تكون إلا مقابل الأعمال الصالحة التي قام بها الإنسان وهو مؤمن. أي أن العمل الصالح مع الإيمان يكونان المبدأ والأساس لوراثة جنة الرضوان كأجرة للمؤمن في مقابل مساهمته بعمله الذي كان في الأصل مصدر رزقه على بناء جنة المؤمنين الأولى في الأرض. إذ أن توريث الأرض في الحياة الدنيا لا تكون إلا للعاملين المصلحين المتقنين لأعمالهم يرثونها عن قوم أصيب أفراده بالكسل والإهمال مع التوقف عن التفكير والإبداع والعمل المثمر الصالح، لتكون من نصيب قوم آخر غيرهم كان أفراده أنشط وأعلم كما حصل مثلا للهنود الحمر القدماء الذين سلبت منهم أرضهم بإذن الله تعالى ليورثها سبحانه للقادمين الجدد الذين قدموا إلى تلك الأرض من كل بقاع العالم، ليعملوا فيها بنشاط أعمالا صالحة ومفيدة للناس، ليبنوا على أرضها حضارتهم التي هي جنتهم الأولى: ( ....أن الأرض يرثها عبادي الصالحون *) 105- 21.
( وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم، وأرضا لم تطئوها...*) 27-33. وليرث المؤمنون منهم في مقابل ماعملوا وبنوا جنة الآخرة أجرا من ربهم الكريم: ( ..... ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون *) 43-7. قد يعترض القارئ قائلا: لكن أغلب الأميركيين من النصارى الكافرين، فكيف يدخلون الجنة وهم ليسوا من المسلمين؟ أقول له ألم تقرأ قوله تعالى في القرآن الكريم: ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون*) 62- 2. أو كما قال سبحانه: ( من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون*) 69-5. أو قوله تعالى: ( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين من آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون*) 48-6. أو قوله سبحانه في موضع آخر: ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون* أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون*) 13-14-46.
وكما نرى في كل تلك الآيات، فإن دخول الجنة سواء كان في الدنيا أو ستكون في الآخرة هي في الحالتين مقابل عمل المؤمنين الصالح في الأرض الدنيوية وليس مقابل عباداتهم وكثرة دعائهم وابتهالاتهم.
تلك الآيات تبرهن لنا حقيقة فهمنا للدين عن آبائنا كان بشكل معكوس، حيث لم يذكروا لنا أي شيء عن العمل ولا عن الأعمال، بل لم يفرقوا لنا أصلا بين الفعل والعمل إلى هذا اليوم. بل اعتبروا في الأحاديث التي نسبوها للرسول الكريم أن الصلاة عمل، وحك الأذن عمل، وهكذا نسبوا كل الأفعال للعمل. نتيجة ذلك التجهيل الذي كان وراءه بعض شياطين الإنس، من الحاسدين الحاقدين، يستطيع كل مبصر منا أن يرى، كيف سهل حكامنا سيطرة الغرب على ثرواتنا، ممهدين السبيل بدلا من تحويل شعوبهم إلى جماهير واعية متعلمة ومنتجة تركوا الموضوع لرغبة المستعمرين الذين أبقوها جموعا جاهلة مستهلكة لما تنتجه الشعوب الواعية الأخرى والقاطنة حولنا من الجهات الأربع: شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، دون أن يفكر أحدنا ليتساءل: كيف يمكن أن نحول شعوبنا المتشرذمة، إلى أمة منتجة، مثل الصين او اليابان أو كوريا، التي نهضت من غفوتها وسبقت غيرها من دول أوربا الناهضة خلال عشرات السنين، لتصنع بأيديها على الأقل كل إحتياجاتها اليومية من أدوية وملابس وأدوات ثم لتلتفت بعدها لصناعة الآلات والعربات والقطارات والسفن والطائرات ووسائل الإتصال، والأسلحة المختلفة للدفاع عن نفسها وأرضها وكرامتها.
أغلبنا اليوم، كأفراد من شعوب مسلمة، مازلنا في مرحلة الرعي والزراعة البدائية، وهذا لا يصنفنا اليوم في سلم الحضارة الفعلية بأكثر من تصنيف الهنود الحمرالذين كانوا في مثل حالنا تقريبا قبل مئات السنين، ونحن إن بقينا نائمين كما نحن اليوم في القرن الحادي والعشرين، لن يكون مصيرنا أفضل من مصيرهم. فلسطين كانت البداية ثم الجولان كانت فقط العضة الأولى من تفاحة سوريا، والعراق هي التفاحة الحالية ألا نرى ماذا يجري حولنا في لبنان وغزة والضفة الغربية من فلسطين، وما يجري في السودان من محاولات تقسيم وما يجري في الصومال، فماذا ننتظر؟ لا يمكن أن نكون من الصالحين إن لم نصلح أنفسنا أولا. ولن تصلح نفوسنا إن لم نصلح ديننا بالعودة إلى قرآننا المهجور، ليس من أجل التغني به ولا من أجل كتابة الحجب بآياته بل من أجل أن يكون منهجا ونورا نستضيء به لتعلم علوم الدنيا قبل علوم الآخرة، ومن أجل بناء جنتنا الأولى على أرضنا قبل أن يورثها ربنا لغيرنا نتيجة تواكلنا وكسلنا: ( إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده...*) 128-7. ( أن الأرض يرثها عبادي الصالحون...*) 105-21. ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات، لا نكلف نفسا إلا وسعها، أولائك أصحاب الجنة هم فيها خالدون*) 42-7. علينا أن نعترف أننا لسنا من المصلحين، بدليل تحوله سبحانه عنا، إذ لم يعد ينصرنا على أعدائنا في معاركنا، كما بدأ سبحانه يبدل لنا نعمه الأولى من الإتحاد والصحة والعلم والقوة والغنى إلى نقم كثيرة منها: التفرق والمرض والجهل والضعف والفقر التي سكنت واستقرت في بلاد المسلمين وأصبحت من الأمراض المستعصية فيها.
وسنة الله تعالى في خلقه أنهم إذا بدأوا يفسدون في الأرض بعد إعمارها، يسحب سبحانه مقابل ذلك كل نعمه السابقة ثم يبدلها لهم إلى نقم أولا، وإذا لم يعودوا إلى صراط ربهم وسبيله المستقيم في الأرض، يدمرهم بعدها تدميرا، كما حصل للذين كانوا من قبلنا ومازلنا نقرأ قصصهم في القرآن الكريم وفي تاريخ الحضارات القديمة: ( وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون* ... * ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون* فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين* فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون*) 48-52- 27. كي لا يقول أحد: ما ذنب الذين آمنوا منهم وأعمالهم تشهد لهم أنهم كانوا من الصالحين؟ يقول سبحانه مستدركا في الآية التي تأتي بعدها مباشرة بقوله الكريم: ( وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون* ) 53-27. فالعمل الصالح مع الإيمان هوالسبيل الوحيد لضمان جواز سفر ومرور يمكن للمؤمن أن يدخل به إلى الجنة سواء في الدنيا أو في الآخرة وإلا فلم قال سبحانه في كتابه المبين: ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا*) 124-4. ولولا وجود جنة أخرى في الدنيا للمؤمن الذي يعمل في الدنيا عملا صالحا لما قال سبحانه: ( ولمن خاف مقام ربه جنتان*) 46-55. يعقب سبحانه على تلك الآية التي يعد بها المؤمن الذي أحسن عمله في الأرض جنتي الدنيا والآخرة بقوله: ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان*) 60-55. بينما إذا دققنا النظر في الآية التالية ماذا نلاحظ؟: ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم، ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون*) 12-32. نلاحظ في هذه الصورة البيانية التي يصورها لنا ربنا سبحانه وتعالى عن مجموعة من الناس كانت قد أجرمت في حق نفسها وفي حق الناس وهم يقفون على أبواب الجنة بعد أن رفض الملائكة المكلفين بتدقيق وثائق مرورهم وقد إكتشفوا أنهم لا يحملون معهم في ميزان أعمالهم الصالحة ما يسمح لهم بدخولها، فالتجأوا إلى ربهم وهم ناكسي الرؤوس خزيا، راجين منه السماح بالعودة إلى الحياة الدنيا ليصلحوا ما أفسدوا وليعملوا فيها أعمالا صالحة من التي كانت تفيد الناس وتصلح أمورهم، ويفهم القارئ من هذه الصورة أن طلبهم هذا قد أتى متأخرا، ولن يفيدهم يومها ندم ولا رجاء.
الآن تعال نرى آيات أخرى لم يذكر فيها عبارة: العمل الصالح، هل يتغير موقفه سبحانه؟ ( من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين*) 18-9. الله أكبر، لقد إختفت كلمة الجنة لأنها لم تعد مؤكدة لعدم وجود العمل الصالح بينها. كذلك نستطيع أن نستنتج من كل الآيات التي قبلها أن الأعمال الصالحة التي يقوم بها أفراد أو مجموعات من المؤمنين مقابل أجور قبضوها في الحياة الدنيا عينا كان أو نقدا عن أعمالهم التي كانت صالحة ومتقنة خدمة للناس في مجتمعهم، هي أساس مهمة الإنسان المؤمن في الأرض، كما يعتبرها الله تعالى أهم ما يقوم به المؤمن في حياته من عبادات أو أفعال. بعبارة أخرى العمل الصالح المتقن المفيد للناس هو عماد دين الله في الحياة الدنيا هو أيضا في مقام العبادة الكبرى التي كلف بها آدم ونسله من بعده في مهمة الإستخلاف لإعمار الأرض أصلا. كل ما سبق يشير بوضوح لا لبس فيه أننا كأمة إسلامية قد ضللنا عن أهمية موضوع العمل في حياتنا كشعوب، لكن كيف يمكننا التمييز بين عمل فرد من الناس لنصفه أنه عمل صالح، وعمل فرد آخر لنقول عنه أنه: عمل فاسد؟ يمكننا ذلك إذا علمنا أن : ميزان الأعمال، هو لنتائج الأعمال وثمارها، فالأعمال يمكن أن تكون صالحة إذا كانت مفيدة ومتقنة ومطلوبة ولايتضرر منها أحد من الناس أومن المخلوقات الأخرى بشكل مباشر أو غير مباشر، وحصلت كما يحصل اليوم نتيجة التصنيع أو أثناءها، مشكلة أضرارا جانبية وغير مباشرة لمخلوقات الأرض عامة، نتيجة ما صنعت أيدي الناس من أدوية أوأسمدة زراعية أونتيجة إستخدام النفط بكميات هائلة في وسائل النقل أو محركات الطاقة مما يسبب تبدلا في المناخ العالمي بازدياد درجة حرارة الأرض المسببة لذوبان ثلوج المناطق القطبية وارتفاع منسوب المياه في المحيطات التي ستسبب اختفاء كثير من الجزر في البحار مع تقلص حجم القارات الحالية : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون *) 41-30. هذه الآية كانت إنذارا مبكرا للعلماء الحقيقين من الذين نفتقدهم في ثقافة العلم المتداولة بين المسلمين. كما يمكن للأعمال أن تكون فاسدة أيضا إذا كان فيها ضررا مباشرا للناس مثل العمل في مجال الخمور والمخدرات والميسر (القمار) بأنواعه المختلفة والفحشاء: (بيوت الدعارة)، أو كانت في مجال التجارة بالأسلحة، حيث يكون كبارهم وراء إشعال نار الفتن والحروب بما يصرفونه من أموال طائلة لخلق المشاكل بين أمم العالم لفتح أسواق جديدة لأحدث ما أنتجته مصانعهم من أسلحة الفتك للأحياء والدمار للعمران. أوغيرها من الأعمال السيئة الفاسدة، التي يمكن للمؤمن أحيانا أن يقوم بها إما نتيجة جهل أونتيجة طمع بمكسب حرام قد يكون أسهل عادة من الأعمال الصالحة عموما، عبر عنه سبحانه في القرآن بقوله الكريم: ( وبدا لهم سيئات ما عملوا ) 33-45. كما أن الذين يقومون بأعمال فاسدة، ستصيبهم سيئات أعمالهم، مثل تاجر الخمور أو المخدرات الذي يكتشف بعد فوات الأوان أن إبنه أو إبنته قد أدمنا على شرب الخمور أو تعاطي المخدرات، فيندم عندما لاينفعه ندم يقول عنهم سبحانه: ( فأصابهم سيئات ما عملوا ) 34-16. ولما كانت غاية الذين يعملون السيئات هي الكسب، يقول سبحانه لإدراك هذه الحقيقة في آية أخرى للذين يبحثون عنها في القرآن العظيم، أعظم كتب الأرض جميعا: ( فأصابهم سيئات ما كسبوا) 51-39. بعد فهمنا لمعنى كلمة العمل والأعمال ننتقل إلى كلمة الفعل لنرى كيف يمكننا تمييزها عن العمل والأعمال. كما ذكرت من قبل، كل نشاط يؤديه الإنسان ولا يرجو من ورائه أجرا، هو فعل من الأفعال مثل كل أفعال الخير المطلوبة من المؤمنين عامة، أو مثل كل أفعال الشر التي يقوم بها الكافرين عن علم أو يقوم بها المشركون من المؤمنين عن جهل. طالما إلتزمت أن لا آتي ببرهان من خارج القرآن أو بما لا يقبل به العقل والمنطق العلمي الذي أعتبره المنحة الإلهية لكل إنسان كي يميز به الحق عن الباطل، أستطيع أن أقول مطمئنا أن الله تعالى قد ميز الفعل عن العمل بأنواعه في القرآن بأن جعل سبحانه لفعل الخير ثوابا، بينما جعل للعمل الصالح أجرا يقابل ما أخذ العبد مقابل عمله في الحياة الدنيا من أجر دفعه له صاحب العمل: ( هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ) 36-83. ( وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم )57-3. هاتين الآيتين توضحان ما قد يكون غامضا علينا من قبل. لكن كي يطمئن القارئ الكريم للبرهان لا بد أن أسوق له أمثلة أخرى: الدعاء مثلا، من الأفعال وليست من الأعمال: ( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فـعـلـت فإنك إذا من الظالمين*)106-10. والقيام بتكسير الأصنام هو فعل من الأفعال لأن من يقوم بها لا يتوقع أجرا من أصحابها في الحياة الدنيا، بل قد يتوقع العقاب: ( قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون *) 62-63-21. والقتل فعل، كما قال سبحانه متحدثا عن موسى عليه الصلاة والسلام:
( وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين* قال فعلتها إذا وأنا من الضالين*) 19-20-26. ورمي يوسف عليه الصلاة والسلام في الجب كان فعلا، لذا نجد يوسف يقول لإخوته: ( قال هل علمتم مافعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون*) 89-12. والمنكرات أفعال: ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه) 79-5. وتنفيذ مواعظ الله أفعال: ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم) 66-4. وتبليغ رسالة الله تعالى من قبل الرسل والذين آمنوا معهم وجهادهم تعتبر من الأفعال لأنهم جميعا لم يطلبوا من أحد أجرا على ما فعلوا في سبيل الله: ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) 67-5. والرسل أعلنوا بأمر من الله تعالى أنهم لايطلبون أجرا من الناس كما يشهد القرآن لهم بما قالوه لشعوبهم تنفيذا لأمر الله تعالى: ( وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين*) 29- 26. وكل خير يؤتيه العبد بين يدي ربه هو فعل: ( وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) 215-2. كل خلق الله تعالى في عباداتهم ونسكهم وصلاتهم وتسبيحهم يفعلون ولايعملون: ( كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون*) 41-24. كل ما يقوم به الملائكة تنفيذا لأمر الله لا أجر لهم فيها لذلك فهي من الأفعال وليست من الأعمال: ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) 6-66. هكذا عشرات الآيات في القرآن تشهد بأن الفرق بين الفعل والعمل أن الفعل يقابله إن كان حسنا الشكر في الدنيا والثواب في الآخرة، بينما الأعمال في الدنيا والآخرة تقابلها أجور:
( وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ) 57-3 .