الأم في القصص القرآني
أم موسى وأم عيسى (عليهما السلام)
1 ـ خاطبت الملائكة السيدة مريم في مناسبتين:
-الأولى دعوة الملائكة لها بالعبادة التامة وتبشيرها بأن الله تعالى اصطفاها واختارها وطهرها : (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ) "( آل عمران-42 )
-وفى المرة الثانية قبيل أن تلد المسيح ، وفيها بشرتها الملائكة ( إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ( آل عمران : 45)
2 ـ وليست السيدة العذراء هي الأم الوحيدة التي خوطبت بالوحي ، فقد سبقتها أم النبي موسى علية السلام التي لم تخاطبها الملائكة وإنما خاطبها الله تعالى وأوحى إليها وجاء ذلك صريحا في قوله تعالى : وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وفى قوله تعالى لموسى : ( إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ )( القصص -7 ، طه -38.)
إذن فهناك وحى من السماء لاثنتين من النساء أحداهما كانت على وشك أن تكون إما لطفل مبارك خلقه الله تعالى بدون أب ، والأخرى كانت إما بالفعل لطفل طبيعي له أب وأم ولكن أحاطت به ظروف غير طبيعية تهدد حياة المولود الصغير بالذبح وذلك الطفل قد أعده الله تعالى لدور عظيم وهائل.. ومن هنا كانت أهمية الوحي لاثنتين من أعظم النساء.. ومن أعظم الأمهات..
3 ـ لقد أحاطت المعجزات بولادة السيدة مريم لابنها عيسى علية السلام ، من الحمل السريع إلى المخاض والولادة ، ثم نطق الوليد المبارك يبرىء أمة ويدافع عنها وينفى التهمة الشنعاء " (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا )وما نطق به الطفل المبارك في المهد كان وحيا من السماء يخبر عن المستقبل ويعلن الحق للأجيال " قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا )( مريم- 27.) في ذلك الكلام المبهر لم ينس الطفل الناطق بالحق والوحي أن يذكر وصية الله تعالى له بالبر بوالدته ، ويأتي البر بالوالدة بعد الوصية بالصلاة والزكاة ...!!
4 ـ ومن معجزات عيسى في مولده إلى لون آخر من الحياة الواقعية في قصة أم موسى مع وليدها الذي ينتظره الذبح على يد فرعون وآلة.. ولكن القصص القرآني في تصويره لتلك الحياة الواقعية هو الإعجاز بعينة ..
في سورة اسمها (القصص) يتلو ربنا جلا وعلا نبأ موسى وفرعون ، وتبدأ القصة بفساد فرعون واستضعافه لطائفة من سكان مصر يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم ، وفى المقابل فان التدبير الإلهي هو نجاة المستضعفين وأهلاك المفسدين ، والذي سيقوم بدور البطولة في التنفيذ هو طفل ينتظره قرار الذبح الفرعوني .. ولكن التدبير الإلهي يجعل فرعون نفسه هو الذي يقوم برعاية الطفل وتنشئة ، ذلك الطفل الذي سيكون هلاك فرعون وجنده على يده (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (الأنفال – 30)
ويبدأ تنفيذ التدبير الإلهي بالوحي إلى أم موسى الخائفة على حياة رضيعها ويأتيها الوحي الإلهي بأوامر بعضها عادى والبعض الآخر عجيب ، ثم وعد من الله تعالى لام موسى ، ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ") " فأمر الرضاعة شيء سهل ومعروف ، ولكن المقصد منة أن يتعود الرضيع على لبن امة ، وعلى ملمس ثدييها وعلى دفء أحضانها . ولكن يستمر الوحي فيأتي بالغريب : ( فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ) لم يقل فإذا خفت علية فخذية في أحضانك ولكن القيه في ماء النيل .. ووقتها كان الفيضان أو اليم .. ولأنة من الطبيعي أن تخاف وان ترتعب من مجرد الفكرة فالوحي يقول لها "( وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي) وحتى تثق في نجاة ابنها الرضيع يأتيها الوعد الإلهي "( إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ).
فالوعد الإلهي لأم موسى له شقان : أن يرجع الطفل الرضيع لأحضان أمه آمنا مطمئنا وان تعيش أم موسى لتراه رسولا نبيا .. وأهمية التصريح هنا بما ينتظر المولود من مستقبل هو في زيادة الطمأنينة للأم اللهفى ولتتأكد أنه طالما سيكون ابنها نبيا مرسلا فان الله تعالى لن يتخلى عنة وسيمضى في تحقيق المهمة الموكلة إلية ، وان الوحي إليها هو وحى حقيقي من الله وهو جزء من تلك الرسالة الموعودة لذلك الطفل الموعود ، وما عليها إلا أن تتوكل على الله وتتشجع ، فإذا اقترب خطر الفرعون من ابنها سارعت بإلقائه في النيل ..
وتوكلت أم موسى على ربها وصدقت وعده ، وعندما اقترب من بيتها زبانية الطاغية أسرعت فألقت ابنها في النيل..
وجدير بالذكر أن سورة (طه) جاءت بتفاصيل أكثر عن الوحي الذي جاء إلى أم موسى ومنه أن الله سبحانه وتعالى أمرها أن تصنع له تابوتا وأخبرها بما سيكون من حال التابوت : (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ) طه – 39)
وإذن فالأوامر لم تكن فقط لام موسى وإنما كانت للنيل ، أن يحمل الهدية ويقوم بتوصيلها إلى قصر فرعون المطل على النيل .. وحينئذ فلا بد أن يلتقطه آل فرعون : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) . ويصل التابوت والطفل الملائكي في داخلة إلى زوجة فرعون – الفاضلة – فينشرح صدرها لمرآه ويتدفق من قلبها الحنان وتتوسل لزوجها غليظ القلب : (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وبدون أن يشعر فرعون والملأ رضي باستضافة الطفل المجهول ، وبذلك تمت المرحلة الأولى من التدبير الإلهي وأصبحت لموسى أم بديلة هي زوجة فرعون نفسه ، وأصبح فرعون نفسه هو القائم على حماية موسى ..
ويا لها من سخرية يصنعها المولى سبحانه وتعالى بالطغاة والمستبدين !!
5 ـ على أن التدبير الإلهي كان يشمل أم موسى أيضا ، صحيح أنها تؤمن بان الله تعالى لا يخلف الميعاد إلا أن قلب الأم هو قلب الأم ، وهى لا تدرى أن نبضات قلبها وقلقها على صغيرها تقع في إطار التدبير الإلهي ، ولذلك فإنها اندفعت فأرسلت ابنتها لتتبع مسيرة التابوت في النيل : (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) وظلت الأخت تتحسس أخبار القصر فعلمت أن الرضيع رفض المرضعات بعد أن تعود على صدر امة ، وهنا تتقدم الأخت بمرضعة جديدة هي أم موسى – فيلتقم ثديها وينقطع عن الصراخ وينام في أحضانها ويستريح فرعون وتستريح أكثر امرأة فرعون ، بينما تسبح أم موسى في دموع الفرح والإيمان والعرفان والحمد لله العلى القدير: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ )
إذن تكفلت أم موسى وأبوه بابنيهما وذلك تحت رعاية الفرعون نفسه ، وعاد الطفل المبارك بعد رحلته السياحية إلى بيته وأحضان أمه وقد تزود من الطاغية بحصانة تحميه من الذبح ، بل تعطيه الرعاية والمأوى .. وفى وسط أهله وبيته !!
وهكذا عاش موسى في بيته وقد عرف كل شيء عن قومه المستضعفين ، وظلت أمه هي الرابطة القوية التي تجمعه بأخيه "هارون" الذي جعله الله تعالى نبيا ووزيرا لموسى ..
6 ـ وكان بين الأخوين ود شديد نحسه من قول موسى لربة تعالى "(هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ) ( طه -30 ـ ) وقوله تعالى لموسى (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ )( القصص -35) . وهذه الأخوة الصادقة كان يفزع إليها هارون حين يأخذ الغضب موسى ، مثلما حدث حين عبد القوم عجل أبيس: (قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( الأعراف : 150 ـ ) قال له هارون يا ابن أم ..!! أي ذكره بأمة .. وفى سورة طه: (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) (طه 94 )
ويالها من أم عظيمة .. أنجبت اثنين من الأنبياء .. موسى وهارون .. عليهما السلام....