دخلت تركيا مَـرحلة جديدة أخرى من التطوّرات المثيرة التي لا تزال تشهدها منذ أكثر من سنة، وبالتحديد منذ إنذار العسكر الشهير لحزب العدالة والتنمية في 27 أبريل 2007 لمنع انتخاب عبدالله غُـل رئيسا للجمهورية.
حتى ذلك التاريخ، مرّت تركيا منذ وصول الحزب إلى السلطة في نهاية عام 2002 في سنوات يـمكن اعتبارها حِـقبة ذهبية، إذ رغم تزامن وصول الحزب مع الانفجار في العراق واحتلاله من قِـبل الأمريكيين والتوترات الإقليمية التي رافته وتداعِـياته، خصوصا على تركيا، نفّـذت حكومة حزب العدالة والتنمية أوسع عملية إصلاح في العقود الأخيرة فتحت باب مفاوضات العضوية مع الاتحاد الأوروبي وشهد الاقتصاد ازدهارا غير مسبُـوق على مُـختلف المستويات وتحسّـنت علاقات تركيا مع مُـعظم دول الجِـوار، ونتيجة لذلك تضاعف دورها الإقليمي، بل حتى الدولي.
لكن كل ذلك لم يكُـن في نظر مراكِـز قوى "الدولة العميقة" سوى تهيِـئة البنية التحتية أو تركيب عناصِـر ديكور المسرح للتحوّل النوعي في اتجاه أخذ البلاد بعيدا عن ثوابت الأتاتركية وعمودها الفِـقري العلمنة وإقامة مجتمع إسلامي تحت شعارات وذرائع تمويهية، مثل الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية. وما لم تره أوروبا من تهديد إسلامي أو تقية كان بإمكان عتاة النظام الكمالي في تركيا أن يروه، فهم أهل البيت وأدرى بما فيه..
وهكذا بات الصِّـراع واضحا بين مشروعين: مشروع المحافظة على ثوابِـت الكمالية والذي يرى في كل إصلاحات رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان خطرا على وِحدة البلاد وطبيعة الدولة العلمانية، بل حتى الهوية التركية ومشروع التغيير في اتجاه تأسيس دولة حديثة يعلُـو فيها مفهوم المواطنة وتسود الديمقراطية ويمارَس فيها الفرد قناعاته الفكرية والدينية، والمجموعات هويتها التي هي حق من حقوقها.
كَـيّ دستوري وقانوني..
في الظاهر، كانت نقطة البداية لانفجار الصراع هو إنذار 27 أبريل 2007، لكن أحداث الأشهر الأخيرة، ومن ثم اعتقالات الأسبوع الأول من يوليو 2008 أثبتت أن "العين الساهرة" لقوى الدولة العميقة، أي المؤسسة العسكرية والقضاء وغيرها كانت حاضرة ليلا نهارا منذ اللحظة الأولى لوصول العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، بل أكثر من ذلك تبينِّ أن لمنظمة أو شبكة "أرغينيكون" المتّـهمة الرئيسية في الأحداث تاريخيا، يعود إلى منتصف التسعينات في خدمة أهداف الدولة العميقة.
يستطيع أن يصل أي حزب إلى السلطة ويشكّـل حكومة، بل ينفرد بالسيطرة على البرلمان وربما الوصول إلى رئاسة الجمهورية، لكنه يتحوّل إلى ولد ضالّ، بل إلى جرثومة يجب إبادتها إذا ما تعارضت سلوكياته مع ثوابت مراكِـز القوى.
ربما تمثل هذه إحدى أهم الخلاصات التي يخرج بها الباحث في التاريخ التركي الحديث، ومن لم يخرج بحرب إعلامية يطرد بمِـصفاة قضائية، حتى إذا فشل كل ذلك، فلا بأس بإنذار عسكري وإن لم ينفع فالكيّ الذي إسمه انقلاب عسكري هو الطريقة الأنجع للتخلّص من الوباء وحامليه ومحبّيه، وهو كيّ دستوري وقانوني. فالعسكر في تركيا خبراء في كل شيء، ولاسيما القانون، فكان أن حمَـوا دورهم ببنود قانونية ودستورية.
وصول عبدالله غُـل لرئاسة الجمهورية كان بداية العدّ العكسي للانقلاب الدستوري على العدالة والتنمية، حتى إذا جرى التعديل الدستوري حول الحِـجاب والسماح به في الجامعات تقطّب حاجبا "الدولة العميقة" وأعطى المدّعي العام عبد الرحمن يالتشينقايا إشارة البدء في أكبر عملية تصفية غير مسبوقة لحزب في السلطة يؤيِّـده 16 مليون ناخب وله 47% في الأصوات، متقدّما بفارق كبير على الحزب الثاني، الذي نال 20% فقط.
مع ذلك، لا تعني لغة الأرقام للعسكر والقضاة شيئا والجمهور التركي لم يُعرف عنه معارضة الدولة ولا محاسبتها في العمق، لذا، استمر العسكر في تجرُّئه ما دام واثقا من أن الشعب هو مجرّد أرقام تلتزم منازلها عند أول رصاصة. إنه الخوف الذي يمسك بالنفس التركية منذ بداية العهد الجمهوري، وهو "عادة" موروثة بنِـسبةٍ ما من العهد العثماني، فلا شيء يعلو الدولة فيما دورها الطبيعي أن تكون ناظمة وحامية للجميع ولمصالح الناس وخياراتهم، وليست طرفا ضد طرف.
"الدولة العميقة"
ربما فكّر حزب العدالة والتنمية بالدّعم الجماهيري الذي يحظى به وباحتضان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لتجربته الرائدة، أنه يستطيع المواجهة هذه المرّة وبنفس الأسلوب الذي تتّـبعه الدولة العميقة، أي من داخل الأطُـر القانونية.
خارج الانتخابات النيابية، عثر حزب العدالة والتنمية على "قاضيه". قد تكون الأمور منظمة جدا وقد تكون انسجام أمزجة، لكن اردوغان قال إن فتح التحقيق مع منظمة ارغينيكون والاعتقالات التي حصلت، هي من فعل القضاء، وكما أن هناك قاضيا فتح دعوى لإغلاق حزب العدالة والتنمية، هناك قاض فتح تحقيقا حول شبكة أو عصابة تُـريد زعزعة السلطة السياسية.
من تركيبة أعضاء المنظمة المذكورة، يتبين أنها ليست مجرّد منظمة، بل هي أقرب إلى ائتلاف شبكات لا يمكن إدارتها إلا من عقل مدبّـر مركزي. فمن بين المعتقلين، جنرالات كبار متقاعدين في الجيش كانوا ضمن الحلقة الضيِّـقة من القيادة العليا للجيش، مثل قائد قوات الدّرك شينير اراويغون وقائد الجيش الأول خورشيد طولون، ومنهم أيضا رجال أعمال، مثل رئيس غرفة تجارة أنقرة سنان إيغون وصحفيون كبار ومفكّـرون وما إلى ذلك. فهل يمكن حينها إطلاق صفة "منظمة" أو "عصابة" على مثل هذا الخليط من الشخصيات والمصالح؟
بالتأكيد لا. وكما أظهرت التحقيقات أن "ارغينيكون" قد استخدمت منذ منتصف التسعينات منظمات أخرى لتنفيذ مخطّـطاتها للتّـمويه، فهذه الشبكة اليوم ليست سوى قِـناعا للشبكة الأم أي "الدولة العميقة"، وفي ذلك، يلجأ كل طرف إلى استخدام كل الأساليب في الحرب المفتوحة بينهما.
إنه صراع الدولتين: دولة المؤسسات المنتخبة، ودولة مؤسسات "الدولة العميقة"، وهو ليس مجرد تبايُـن في وجهات النظر بين طرفين، بل صراع بين خيارين يختلفان جِـذريا في النظر إلى كل الأمور.
الفارق هذه المرة أن تيار التغيير لم يستسلم لضغوطات التيار الكمالي المتشدّد من دون أن يعني ذلك أنه سينجح في مقاومته، لكن تركيا اليوم في عصر العولمة غير تركيا الأمس في عصر الجدار الحديدي.
صيف ساخن
لقد اعتبر البعض أن هناك صِـلة بين توقيت الاعتقالات في اليوم نفسه لتقديم المدّعي العام مرافعته الشفوية أمام المحكمة الدستورية، أي في غرّة يوليو 2008، ومن بعدها بيومين تقديم حزب العدالة والتنمية مرافعته الشفوية، وأن الاعتقالات محطة انتقامية من المسار القانوني لدعوى إغلاق حزب العدالة والتنمية وقُـرب صدور قرار المحكمة الدستورية بهذا الخصوص، لكن ذلك لا يغيِّـر من واقع أن معركة شحذ الأسلحة للمواجهات الكبرى اللاحقة السياسية والشعبية.
إن الاعتقالات لا تغيِّـر من واقع أن الطرفين بقيا على موقفهما. فالمدّعي العام يالتشينقايا كرّر في مرافعته أمام المحكمة الدستورية طلب إغلاق حزب العدالة والتنمية بذريعة أنه "بُـؤرة معادية للعـلمانية"، فيما فنّد مُـمثل حزب العدالة والتنمية جميل تشيتشيك بُـطلان الاتِّـهام وذكّر بأن التصريحات التي تصدُر تدخُـل في باب حرية الرأي وأن معظم الاتهامات غير قانونية ولا أساس لها من الصحة وتنقصها الأدلة وما إلى ذلك.
إنه صيف ساخِـن في تركيا، لكن كل فصول تركيا منذ سنة ونصف ساخنة.
إذا أُغلِـق حزب العدالة والتنمية من قِـبل المحكمة الدستورية، وهو ما يرجِّـحه معظم المراقبين، فإن مرحلة جديدة من الصِّـراع السياسي ستبدأ، ولا يمكن تحديد معالِـمها إلا في ضوء طبيعة القرار الذي سيصدر، وما هو وضع مُـعظم قادة الحزب، ولاسيما رجب طيب اردوغان وما إذا كان سيُـمنع لمدة خمس سنوات من العمل السياسي كحزبي فقط أم كمستقل أيضا؟ وهل ستذهب البلاد إلى انتخابات نيابية مبكّـرة مع حزب جديد أم سيواصل حزب العدالة والتنمية تحرّكه تحت اسم جديد وبالنواب الذين سيبقون منه وعددهم كافٍ، ليظل الحزب منفردا بالسلطة.
لقد خاض رجب طيب اردوغان بنجاح معظم معاركه، والتساؤل المطروح اليوم عمّـا إذا كانت معركته هذه المرة ستنتهي بنجاح، حتى لو حُـظِـر من العمل السياسي، فمسيرة اردوغان لا تشي أبدا بأنه يستسلم ولو من داخل السجن، والتغيير في تركيا عملية معقّـدة وطويلة وتحتاج إلى صبر أو.. ثورة.
ومع استبعاد خيار الثورة، فإن تركيا ستبقى ذلك البلد الذي يغرق في كوب من المشكلات المصطنعة فيما كل الإمكانات والظروف تخوّله ليكون قوة إقليمية ودولية فاعلة ووازنة.