أُطلقت تسميةَ الإرهابِ على عدةِ ظواهرٍ خلال نصف القرنِ الأخير . فمثلاً أَطلق البريطانيون وصفَ الإرهابِ على عملياتِ الجيشِ الجُمهوري الأيرلندي كما أُطلق نفس الوصف على العديدِ من الحركاتِ مثل الحركةِ التي تَستهدف إستقلالَ إقليم الباسك بين أسبانيا وفرنسا كما أُطلق نفس الوصف على عملياتِ مُنظماتِ الألوية الحمراء (إيطاليا) وبادرماينهوف (ألمانيا) وحركات مماثلة في اليابان وأمريكا اللاتينية . أما اليوم , فعندما يُستعمل مصطلح الإرهاب فإن أولَ ما يتبادر للأذهانِ (خارج المُجتمعات العربية والإسلامية) أَن عرباً أو مُسلمين قاموا بعملٍ عنيفٍ . وقد تصاعد خلال السنواتِ الست الأخيرة الربطُ ما بين المسلمين والعمليات الإرهابية ، وهو الربط الذي أدى إلى ظهورِ ظاهرةِ الخوفِ الهوسي من الإسلام (الإسلامو فوبيا) . والذي لا شك فيه أن مُسلمين أو عرب يكونون عادةً منخرطين في العملياتِ التي يَصفها العالمُ اليوم بالإرهابِ . وبغض النظر عن أكبر مدرستين في تفسير ذلك وهما مدرسة تدين المسلمين بشكلٍ مُطلقٍ ومدرسةٍ (إسلامية) تبرر ذلك بما تعرض ويتعرض له المسلمون ، فإنني أودُ في هذا المقالِ أن أتناول منابعَ أو مصادرَ أو أعمدةَ تلك الظاهرة بشكلٍ قد يكون مُختلفاً عن مُعظم التناولاتِ السابقة لهذا الأمر الذي أصبح بمثابةِ الشُغل الشاغل لمئاتِ الباحثين والدارسين في العالم .
رغم تسليمي بإختلافِ ظاهرة الإرهاب التي ينخرط فيها عربٌ ومُسلمون عن غيرهِا من ظواهرِ الإرهابِ فيما يتعلق بالحجمِ ، أي كَون الظاهرة في حالتِها الإسلامية أكبر حجماً وأكثر إتساعاً من أي ظاهرةٍ أُخرى وُصفت بالإرهابية (مثل الظاهرة الأيرلندية) ، إلا أنني أرى أن الإختلافَ يتعلق بحجمِ وعددِ الأتباعِ في المقامِ الأول . وأعني أنه بينما يُعتَبَر عدد الدعاة قليلاً ومُشابهاً للدُعاةِ في أنساقٍ ثقافيةٍ ودينيةٍ أُخرى فإن أعدادَ الذين ينجذبون لأفكارِ الدُعاةِ في الحالةِ الإسلاميةِ أكبرُ بكثيرٍ جداً .
وفي إعتقادي أن الذين يتعاملون سياسياً وأمنياً وكذلك الذين يَدرسون ما يُسمى بالإرهاب الإسلامي يبدأون من نقطةٍ تتجاوز هذه التفرقة بالغة الأهمية بين "الدُعاةِ" و"الأتباعِ" . بينما يميل كاتبُ هذه السطور للإعتقادِ بأن هذه التفرقةَ هي كلمةُ السرِ التي تفتح أبوابَ الحلولِ والتعامل الناجع مع تلك الظاهرةِ التي يرى البعضُ خارج المجتمعات الإسلامية أنها تمثل التحدي الأكبر للبشريةِ وللإنسانيةِ وللمدنيةِ في القرنِ الحادي والعشرين .
فالدُعاةُ الذين يكتبون كُتباً ويَلقون محاضراتٍ ويحاولون التأثير في الناسِ بشكلٍ إيجابي أو سَلبي لا يَستطيعون جذب أتباع بأعدادٍ كبيرة إلا إذا كانت الحالةُ الذهنية والنفسية والظروف السياسية والإقتصادية والإجتماعية تجعل الأتباعَ في حالةِ إستعدادٍ لتلقي الدعوة . في كل الأديان والطوائف والمِلَل دُعاةٌ يحاولون الترويج لأفكارٍ بالغة التشدد وأحياناً بالغة العدوانية . ولكن حجمَ وأعدادَ الأتباعِ يتفاوتون . وعلى سبيل الِمثال ، فإن هناك من القادةِ الدينيين اليَهود والمَسيحيين من يدعون لأفكار بالغة التضاد مع الإنسانية والتسامح وقبول الآخر (بل ولقتل بعض الآخرين) . ولكن يبقى أن أعدادَ هؤلاء لا تشكل ظاهرةً تعكس إتساع وكثرة أعداد أتباع بعض الأفكار والدعوَات الإسلامية المُتشددة . وتتجه نظمٌ سياسيةٌ عديدةٌ (وللأسف ، تُؤيدها قِطاعاتٌ من المُثقفين) للتعاملِ الأمني مع أعضاءِ الدائرتين : دائرة الدُعاة ودائرة الأتباع ؛ ومن هنا تبدأ ثم تتوسع ثم تتفاقم الكارثةُ .
ففي إعتقادي أَن الدُعاةَ قد يُشكلون بعض الخطورة ، ولكنها خطورةٌ نسبيةٌ أو مَحدودةٌ لا توصل المُجتمعات إلى ما وصلت إليه عدةُ مُجتمعاتٍ إسلامية مُعاصرة ، وأَزعُم أن التعاملَ الأمني مع مُعظم الدُعاةِ لا يؤدي لأية نتائجٍ إيجابية . فقتلُ مُفكرٍ مثل سيد قطب على المشنقة سنة 1966 لم يَنتجُ عنه أي إنحسارٍ لأفكارهِ التي تعُد (في إعتقادي) بعد إندماجها مع التيار الوهابي بمثابةِ المصدرِ الفكري الأول لمعظمِ تياراتِ الإسلامِ السياسي العنيفةِ والرَاديكاليةِ . إن الطريقةَ الوحيدة للتعاملِ مع الدُعاةِ هي صحوةٌ فكريةٌ وثقافيةٌ تنخرط فيها النُخبُ المثقفة بمعنى أن يُقارع الفكرَ بالفكرِ والرأي بالرأي والكتابةَ بالكتابةِ. وهنا ، فإن فئةَ المثقفين الرسميين تكونُ غيرَ ذاتِ قدرةٍ على التأثيرِ بشكلٍ إيجابي لكون أفرادها "موظفين" أكثر من كونهم "مفكرين أو مثقفين" . ناهيك عن دلالات عدم المصداقية بالنسبةِ لمعظمهم .
وفي كل الأحوال , فإنني لا أظن أبداً أن الدُعاةَ هم حجر الأساس لظاهرةِ العُنفِ السياسي الموصوم بالإرهابِ الإسلامي .
إن الداءَ كله يكمن في "الأتباع" . وبداية الحلول تكمن في الإجابة عن السؤالِ التالي : ما الذي يجذب الشباب (بوجهٍ خاصٍ) في مُجتمعاتٍ إسلاميةٍ عديدةٍ للسيرِ وراء هؤلاء الدُعاة الذين صاغوا أفكاراً راديكالية تسوّغَ العُنف والإبتعاد عن مَسيرةِ المدنيةِ الإنسانيةِ . وفي إعتقادي أن مُجملَ الأسباب التي تُغري الشباب في المُجتمعات الإسلامية بإتباع الدعوات الراديكالية يمكن أن تنضوي تحت كلمةٍ واحدةٍ كبيرةٍ هى "الغضب" . وهو في إعتقادي غضب متعدد المصادر ، كما أنه في إعتقادي غضبٌ علينا أن نفهمهُ لا أن نَستهجنهُ ، ولا يهم إن أدى "الفهم" للتعاطف , فالتعاطف (عند العُقلاء أصحاب الرؤية الإنسانية والتاريخية) لا يعني "المُسايرة" أو "التبرير" أو "القبول" وإنما يعني إدراك أننا أمام مرض ومريض , وكلاهُما يحتاج لعلاجٍ أي لطبيبٍ ولدواءٍ وليس لتدابيرٍ أمنيةٍ أو عنفٍ وقسرٍ وتعذيبٍ .
ومصادر هذا الغضب عديدة لكن أهمها مايلي :
أولاً : الشُعور المَدعوم بمفردات الواقع بضيق آفاق الحياة وهو يشمل يأس المُتعلمين وغير المُتعلمين من العثورِ على عملٍ لائقٍ يسمح بحياةٍ إنسانيةٍ معقولةٍ .
ثانياً : التفاوت المُذهِل بين الذين "لديهم" والذين "ليس لديهم" . وأعتقد أن الغضبَ لا ينبع من التفاوت، وإنما من هول مساحاتِ ومسافاتِ التفاوت .
ثالثاً : عدم وضوح أسباب وشرعية ثراء الأثرياء وقوة الأقوياء وشُهرة المشاهير . لقد كان الناسُ يعلمون أن محمد طلعت حرب رجلٌ ثريٌّ ، ولكنهم لم يكن ظنهم يتجه لكون ثروته قد تكونت بسُبلٍ مُريبةٍ .
رابعاً : إختفاء العدالة في مُعظم مجالات الوظائف والعمل وأحياناً الأعمال التُجارية ، حيث تكون لقوةِ العضلاتِ السياسيةِ الداعمةِ للبعضِ (وغير المتوفرة للأكثرية) قوة "بُساط الريح" .
خامساً : ندرة الشخصيات القدوة في مُعظم المجالات .
سادساً : قُرب المسافة بين "سُلطان المال" وسُلطانين آخرين هما "السلطة التنفيذية" و"الإعلام" .
سابعاً : ما يشيع عن حالات الفساد دون إمكانية التأكُد من حقيقتها أو دون رؤية أية عواقبٍ لتلك "القصص" التي تلوكها الألسنُ .
خـاتـمـة :
إن دراسةَ هذه الأعمدةِ السبعة التي يرتكز عليها هيكلُ الغضبِ الذي يفُرّخ العُنف والرفض والعدوانية والإرهاب هى مسألةٌ سياسيةٌ وثقافيةٌ وإستراتيچيةٌ . أما إختزالُ الأمرِ في (التفسير الأمني) ثم (التعامل معه بالوسائلِ الأمنية) فهو ظُلمٌ للمُجتمعِ ولكلِ أطرافِ المسألةِ بما في ذلك هيئات الأمن ذاتها التي يُطلَب منها التعامل الأمني مع ظواهر مُتعددة الجذور السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية .