المعتزلة

محمد مهند مراد ايهم في السبت ٢٠ - أكتوبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

مؤسسها : واصل بن عطاء الغزال: قال الإمام الذهبي في ترجمته في السير :" البليغ الأفوه أبو حذيفة المخزومي مولاهم البصري الغزال .. مولده سنة ثمانين بالمدينة، .. اعتزل الحسن البصري عن مجلسه لما قال عن مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر فانضم إليه عمرو واعتزلا حلقة الحسن فسموا المعتزلة "
عمرو بن عبيد: قال الذهبي في ترجمته في السير : " عمرو بن عبيد الزاهد العابد القدري كبير المعتزلة .. قال ابن المبارك دعا - أي عمرو بن عبيد - إلى القدر فتركوه، وقال معاذ بن معاذ سمعت ÚUacute;مروا يقول إن كانت { تبت يدا أبي لهب } في اللوح المحفوظ فما لله على ابن آدم حجة، وسمعته ذكر حديث الصادق المصدوق، فقال : لو سمعت الأعمش يقوله لكذبته، إلى أن قال ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لرددته .. مات بطريق مكة سنة ثلاث وقيل سنة أربع وأربعين ومائة "
مدخل الى المعتزلة
تطلق عبارة "الفتنة الكبرى"، في الاصطلاح العربي الحديث، على الصراعات السياسية/القبلية والمواجهات العسكرية التي أعقبت الثورة على الخليفة الراشدي عثمان بن عفان سنة 35 هجرية والتي استمرت إلى ما سمي بـ "عام الجماعة" عندما تنازل الحسن بن علي بن أبي طالب لمعاوية بن أبي سفيان سنة 40 هـ عن حقه في الخلافة. وإذا كانت الصراعات المسلحة لم تنته بهذا التنازل، إذ استمرت الثورات على الأمويين إلى أن سقطت دولتهم سنة 120 هـ، فإن ما ميز عهدهم عن سابقه هو قيام جدل فكري حول قضايا سياسية بمفاهيم دينية (سمي فيما بعد بـ "علم الكلام")، جدل عقلي لم يسبق له مثيل أدى في نهاية المطاف إلى كسر التطرف القبلي واللامعقول الموظف للدين، مما أفضى إلى قيام كتلة تاريخية بين الفئات والتيارات المختلفة المتواجدة على الساحة، كتلة كانت هي الجسر الذي مر عبره ذلك التحول التاريخي المتمثل في الانتقال من العهد الأموي إلى العصر العباسي، من منطق القبيلة والتكفير الإيديولوجي إلى منطق المعقول الديني والتفكير العقلاني. ويهمنا هنا أن نلقي بعض الضوء على الدور "الثقافي" في هذا التحول.
خلال المدة الفاصلة بين قيام الثورة على عثمان وانتصار معاوية لم تطرح أية قضية فكرية تعكس الصراع أو تعبر عنه. كانت مآخذ الثوار على عثمان تتركز على كونه جعل مستشاريه وعماله من قبيلته، بني مروان وأبناء عمهم بني أمية، الذين تصرفوا بمنطق قبلي، فاستأثروا بالحكم وامتيازاته الخ. أما معاوية الذي كان عاملا على الشام والذي خرج على الخليفة الرابع علي بن أبي طالب فلم يرفع سوى شعار واحد : "الثأر لدم عثمان"! أما القضية الفكرية الأولى التي طرحت خلال هذه "الفتنة الكبرى" فقد جاءت على لسان جماعة قاتلت إلى جانب علي بن أبي طالب، ثم خرجت عليه (فسموا خوارج) كما أسلفنا، احتجاجا على قبوله اقتراح معاوية بـتعيين حكَمَين يمثل أحدهما عليا ويمثل الآخر معاوية لينظرا في الخلاف ويحكما لصاحب الحق. ومع أن هؤلاء الخوارج كانوا ممن أيد فكرة التحكيم بإلحاح فإنهم لما رأوا العملية قد انتهت لصالح معاوية، حمّلوا صاحبهم علي بن أبي طالب مسؤولية ذلك باعتبار أنه قبل أن يحكم البشر في أمر كان محسوما شرعا لصالحه، فهو الرجل الذي تمت له البيعة بدون منازع. ومن هنا رفعوا شعارهم الشهير "لا حكم إلا لله".
"لا حكم إلا لله"، ذلك هو أول شعار إيديولوجي رفع زمن الفتنة الكبرى. وقد وصف علي بن أبي طالب هذا الشعار بأنه "كلمة حق أريد بها باطل". قال ذلك لأنه كان يعرف أن الدافع الحقيقي الذي دفعهم إلى ذلك هو من قبيل منطق: "إذا مت ظمآن فلا نزل القطر". لقد اكتشفوا أن حصر التحكيم في الاختيار بين معاوية وعلي معناه حصر الخلافة في قريش، وهم لم يكونوا من قريش، بل كان معظمهم من تميم وحنيفة وربيعة كما ذكرنا من وسط الجزيرة وشرقها.
أما معاوية الذي كان يعرف أنه اغتصب الحكم اغتصابا فقد رفع شعارا آخر دينيا –مظهريا على الأقل- يصدق عليه هو أيضا قول علي: "كلمة حق أريد بها باطل". لقد خطب معاوية في جنده فقال: "وقد كان من قضاء الله أن ساقتنا المقادير إلى هذه البقعة من الأرض ولفت بيننا وبين أهل العراق فنحن من الله بمنظر". وهكذا روج هو وأشياعه ومسايروه من "أهل السنة والجماعة" لفكرة أن ما حدث كان بقضاء الله وقدره. وأكثر من ذلك روجوا أحاديث تعفي معاوية ورجاله من العقاب يوم القيامة باعتبار أن ما أتوه من الكبائر كان بقضاء وقدر. وبالتالي فهم غير مدانين، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
كان من الطبيعي أن يثير هذا التبرير ، ردود فعل من أكثر من جهة. وكان أبرز من تصدى لهذه الجبرية العمياء أولئك الذي أطلق عليهم خصومهم اسم "القدرية"، أي الذين قالوا بقدرة الإنسان على إتيان أفعاله، الشيء الذي يعني أنه غير مجبر، بل مخير. لقد استند هذا التيار العقلاني إلى النقل والعقل معا. فمن جهة احتجوا بآيات عديدة في القرآن تؤكد حرية الإنسان واختياره وقدرته على إتيان أفعاله. ومن جهة أخرى ناقشوا مناقشة عقلية فكرة الجبر ذاتها وما تفضي إليه من نتائج تتعارض مع العقل والنقل معا. من ذلك أن القول بأن كل ما يفعله الإنسان هو مجبر عليه، قول يلغي المسؤولية؟ والقرآن يحمل الإنسان مسؤولية أفعاله، وعلى أساس المسؤولية كان الوعد بالجنة لمن آمن وعمل صالحا، والوعيد بجهنم لمن كفر... ومن هنا أثيرت مسألة "الوعد والوعيد": هل وعد الله ووعيده، كما هو منصوص عليه في القرآن، سيطبق في الآخرة ولا بد، أم أن الله حر مختار يعفو عمن يشاء ويعاقب من يشاء، وبالتالي يمكن أن يستثني منه من يشاء. لقد روج إيديولوجيو الحكام الأمويون لهذه الفكرة فكرة أنهم مستثنون من الوعيد الإلهي، فقالوا إنهم لن يدخلوا النار في الآخرة!
أما الخوارج فقد كان رد فعلهم مركزا لا على فكرة الجبر ذاتها بل على سلوك الأمويين الذين "ارتكبوا كبائر"، من قتل وعسف بغير حق. فقالوا إن "مرتكب الكبيرة" كافر يجب قتله. ثم ما لبثوا أن عمموا هذا الحكم على كل من خالفهم. لقد كان موقفهم يتلخص في :"أنا وحدي مسلم ومن ليس معي كافر". وهكذا أثير نقاش واسع حول حكم "مرتكب الكبيرة"، وحول حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر. هل الإيمان هو مجرد "القول" أي التصريح بالاعتقاد في "الله وكتبه ورسله واليوم الآخر" ، أم أنه لا بد، من العمل بما في الكتاب من أوامر ونواه؟
سنترك مسألة "الإيمان والكفر" وحكم مرتكب الكبيرة ، لنركز هنا على ذلك الدور الرائد الذي قام به من سموا بـ "القدرية" في التأسيس لنوع من المعالجة العقلانية لهذه المسائل التي حصرتها إيديولوجيا "التكفير الخارجي"، وربيبتها "الجبر الأموي" في منطق "إما... وإما"، المنطق الذي يلغي العقل والجدل والتجاوز وجميع القيم الوسطى.
تجمع المصادر على أن أهم شخصية في صفوف القدريين الأوائل هو غيلان الدمشقي وتنسب إليه دورا أساسيا في نشر فكر تنويري واجه به إيديولوجيا الجبر الأموي وإيديولوجيا التكفير الخارجي. كونه استطاع أن يستقطب أتباعا كثيرين من مختلف الأوساط، بما في ذلك حاشية الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي كان قد اختاره مؤدبا لولده سعيد. كما تبرز مصادرنا أن عمر بن عبد العزيز قد قربه واستمع إلى مواعظه واعتمد عليه في تنفيذ بعض إصلاحاته. على أن تواجده وسط حاشية بعض الملوك الأمويين لم يمنعه من نشر أفكاره التنويرية، بل لقد عرف كيف يبثها وسط هذه الحاشية نفسها ويستقطب فيها أنصارا ومؤيدين. أضف إلى ذلك أنه لم يقتصر على "الكلام" في الإيمان و"القدر" (حرية الإرادة)، بل تعدى ذلك إلى قضايا سياسية أساسية، وعلى رأسها قضية القضايا، قضية الخلافة.
كان الأمويون قد روجوا (من خلال حديث رواه معاوية) لفكرة أن "الإمامة في قريش"، وهو حديث يستبعد المعارضين للأمويين من غير قريش وفي مقدمتهم الخوارج. أما غيلان الدمشقي، وكان مولى لبني مروان، فقد قال بالعكس من ذلك: إن الخلافة "تصلح في غير قريش، وإن كل من كان قائما بالكتاب كان مستحقا لها بشرط اجماع الامة عليه، وهذا موقف متميز ومتقدم جدا: فهو يعارض الأمويين الذين يحصرون الخلافة في قريش وحدها، ويخالف الشيعة الذين يجعلونها في علي وذريته فقط، ويختلف مع الخوارج باشتراطه "الإجماع". ومعلوم أن الخوارج لا يعترفون بـ "الإجماع، بل يضعون جميع مخالفيهم من المسلمين في "دار الكفر. إن اشتراط الإجماع في اختيار الخليفة موقف متقدم جدا لأنه ينطلق من الاعتراف بالرأي المخالف، ويجعل مسألة الحكم من اختصاص الأمة وليس من احتكار القبيلة ولا من حق الورثة والأوصياء" وحدهم.
أما موقفه من إيديولوجيا الجبر الأموي فقد عبر عنه في عدة رسائل لم يصلنا منها سوى رسالة يعظ فيها عمر بن العزيز، وقد جاء فيها: (ولن تجد داعيا –يقصد الله- يقول : تعالوا إلى النار! إذن لا يتبعه أحد! لكن الدعاة إلى النار هم الدعاة إلى معاصي الله. فهل وجدت يا عمر حكيما يعيب ما يصنع، أو يصنع ما يعيب، أو يعذب على ما قضى، أو يقضي ما يعذب عليه؟ أم هل وجدت رشيدا يدعو إلى الهدى ثم يُضٍلُّ عنه، أم هل وجدت رحيما يكلف العباد فوق الطاقة ويعذب على الطاعة؟ أم هل وجدت عدلا يحمل الناس على الظلم والتظالم؟ وهل وجدت صادقا يحمل الناس على الكذب أو التكاذب بينهم"؟)
أما اعتراضات غيلان على الاحتكار والاستغلال الذين عرف بهما رجال الدولة الأموية فلقد كانت من الجذرية إلى درجة التحريض على "الثورة". وكمثال على ذلك ( أنه عندما عرض عليه عمر بن عبد العزيز أن يسند منصبا إليه طلب أن يتولى وظيفة "بيع الخزائن ورد المظالم"! تولى غيلان هذه الوظيفة بالفعل فأخرج يوما "خزائن" بعض رجال أهل الدولة وهي مما وقعت مصادرته، فأخذ يهتف في الناس : "تعالوا إلى متاع الخونة، تعالوا إلى متاع الظلمة، تعالوا إلى متاع من خلف في الرسول أمته بغير سنته وسيرته، من يعذرني ممن يزعم أن هؤلاء كانوا أيمة الهدى... وهذا متاعهم، والناس يموتون جوعا". وتقول الرواية إن هشام بن عبد الملك، الذي لم يكن قد أصبح خليفة بعد، مر به وسمع ذلك فقال: "إن هذا يعيبني ويعيب آبائي، والله إن ظفرت به لأقطعن يديه ورجليه"). بالفعل كانت نهاية غيلان على يد هشام بن عبد الملك عندما صار خليفة. لقد قطع يديه ورجليه، لكن غيلان استمر في انتقاد الأمويين فأمر هشام بقطع لسانه، فمات". مات غيلان الشخص، ولكن أفكاره بقيت حية تزداد انتشارا وعمقا...
عندما رفع الخوارج شعارهم "لا حكم إلا لله" طرحوا بذلك قضية ستكون مثار جدل وصراع خلال جميع عصور التاريخ الإسلامي إلى عصرنا هذا. والسبب هو أن ذلك الشعار شعار إيديولوجي من النوع الذي تُعَرَّف به الإيديولوجيا بأنها "الرأي المضاد لرأيي"، وهذا في مجال الصراعات السياسية خاصة. وبما أن السياسة -زمن خوارج "الفتنة الكبرى" وخوارج كل وقت- لا تمارس في مجال خاص بها مستقل عن المجالات الأخرى، بل تمارس ضمن مجال الدين ويتم "الكلام" فيها بمفاهيم دينية، فإن هؤلاء الخوارج لم يكونوا يمتلكون ما ينفصلون به عن خصومهم السياسيين، لا على مستوى الفكر السياسي ولا على مستوى الاجتهاد الديني، سوى تهمة "التكفير". "والتكفير" في هذا المجال يحمل معنى فصل الآخر عن الذات، طرده، إقصاؤه، حجبه، إخفاؤه. وهو ضد "التفكير" الذي هو ربط الشيء بالذات، كشف المعنى، استنباط، وأيضا: استذكار واستحضار...
التكفير من "الكفر". وليس ثمة في قواميس اللغة ما يربط هذه الكلمة بأصل لغوي سابق للإسلام، يفيد ما أصبحت تفيده زمن الدعوة المحمدية وبعدها. إن معظم القواميس تنطلق في تعريف الكفر بما هو ليس إياه، فنقرأ في لسان العرب عند أول الكلام عن مادة "ك.ف.ر" : "الكفر ضد الإيمان". وأيضا "والكُفْرُ: جُحود النعمة، وهو ضِدُّ الشكر". وفي مختار الصحاح "كل شيء غطى شيئا فقد كَفَرَهُ، قال بن السكيت ومنه سمي الكافِرُ لأنه يستر نعم الله عليه". أما صاحب "مقاييس اللغة" فيقول: "الكاف والفاء والراء أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على معنىً واحد، وهو السَّتْر والتَّغطية... والكُفْر: ضِدّ الإيمان، سمّي لأنّه تَغْطِيَةُ الحقّ، وكذلك كُفْران النّعمة: جُحودها وسَترُها". ومنه : الكَفَّارة في الفقه: "ما كُفِّرَ به من صدقة أَو صوم أَو نـحو ذلك: قال بعضهم؛ كأَنه غُطِّيَ علـيه بالكَفَّارة".
إن تحديد "الكفر" بضده -"الإيمان"- يطرح ضرورة "تعريف الإيمان" أولا. وبما أن الجدل والصراع بعد حادثة التحكيم لم يكن يدور في المجال الديني، كمجال مستقل، إذ كان المجال مجالا سياسيا، بالدرجة الأولى، فقد تركز الجدل ليس حول "الكفر" الذي يوصف به من يقع خارج دار الإسلام، كما كان الحال مع قريش خصوم الدعوة المحمدية، بل حول "الكفر" الذي يرمى به من يقع داخل "دار الإسلام"، وهذا هو معنى "التكفير"، أي إسقاط "الإيمان" عنه لارتكابه كبيرة من الكبائر (كالقتل والسرقة والزنا والقذف...). كان "ارتكاب الكبائر" هي التهمة الدينية/السياسية التي رمى بها الخوارج جميع الذين تسببوا في قتل المسلمين، بل مارسوه في حروب الفتنة الكبرى، قادة وجندا، ومن هم دون ذلك.
ومن هنا يمكن أن نتصور حجم "الفتنة الفكرية" التي أثاروها بإلصاقهم تهمة "الكفر" بمرتكبي الكبائر من هذا النوع. التهمة سياسية إذا نظرنا إليها في لحظتها السياسية. ولكن بما أن مضمونها ديني فهي تمتد إلى ما قبلها وما بعدها امتداد الدين نفسه. يتعلق الأمر إذن بتهمة تنسحب على السلف، انسحابها علىالخلف. ومن هنا ذلك الإرهاب الفكري الذي مورس من طرف الخوارج وأهل الدولة من الأمويين، سواء بسواء، عندما لجأوا إلى امتحان النوايا بمواجهة الناس بهذه الأسئلة: "ماذا تقول في معاوية وعثمان؟ وماذا تقول في علي؟ وما تقول في الحَكَمين؟ وفي "أهل صفين" جملة الخ؟
لقد سجلت لنا كتب "الفِرَق"، روايات تعكس مدى ثقل بدعة "التكفير" على الضمير الإسلامي، الديني منه والسياسي في ذلك الوقت. من ذلك ما سجله عبد القاهر البغدادي في كتابه "الفرق بين الفرق" حيث يقول: "كان الناس يومئذ (زمن قيام الخوارج) مختلفين في أصحاب الذنوب من أهل الإسلام، على فرق : فرقة تزعم أن كل مرتكب لذنب كبير أو صغير مشرك بالله، وكان هذا قول الأزارقة من الخوارج. وزعم هؤلاء أن أطفال المشركين مشركون ولذلك استحلوا قتل أطفال مخالفيهم وقتل نسائهم سواء كانوا من أمة الإسلام أو من غيرهم. وكانت الصفرية من الخوارج (أصحاب زياد بن الأصفر) يقولون في مرتكبي الذنوب إنهم كفرة مشركون، كما قالته الأزارقة، غير أنهم خالفوا الأزارقة في الأطفال. وزعمت النجدات (أصحاب نجدة بن عامر الحنفي) من الخوارج أن صاحب الذنوب التي أجمعت الأمة على تحريمها كافر مشرك، وصاحب الذنب الذي اختلفت الأمة فيه حُكِم على اجتهاد أهل الفقه فيه. وعذروا مرتكب ما لا يُعلم تحريمه بجهالة تحريمه إلى أن تقوم الحجة عليه. وكانت الإباضية من الخوارج (أصحاب عبد الله بن إباض) يقولون إن مرتكب ما فيه الوعيد (بالعقاب يوم القيامة) مع معرفته بالله عز وجل وما جاء من عنده كافر كفران نعمة وليس بكافر كفر شرك. وزعم قوم من أهل ذلك العصر أن صاحب الكبيرة من هذه الأمة منافق، والمنافق شر من الكافر المُظِهر لكفره. وكان علماء التابعين في ذلك العصر مع أكثر الأمة يقولون إن صاحب الكبيرة من أمة الإسلام مؤمن لما فيه من معرفته بالرسل والكتب المنزلة من الله تعالى بأن كل ما جاء من عند الله حق، ولكنه فاسق بكبيرته، وفسقه لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام. وعلى هذا القول الخاص مضى سلف الأمة
في مثل هذا الجو من الفوضى والشك والحيرة يلجأ الناس إلى طلب الفتوى من أهل المعرفة، المحايدين الذين استحقوا ثقة الناس بسلوكهم والنأي بأنفسهم عن الفتنة. وفي الإطار تروي كتب الفرق الحادثة التالية: كان الحسن البصري يحدث الناس كعادته في المسجد، وإذا بشخص يدخل ويطرح هذا السؤال: "قال: :‏ يا إمام الدين‏!‏ لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة! فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ صمت الحسن البصري وأخذ يفكر. "وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء‏:‏ أنا لا أقول‏:‏ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين‏:‏ لا مؤمن ولا كافر! ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن فقال الحسن‏:‏ اعتزل عنا واصل فسمي هو وأصحابه‏:‏ معتزلة"‏.‏
أما الحسن البصري وكثير من الشخصيات الدينية المستقلة المحايدة فقد كانوا يصفون "مرتكب الكبيرة" بأنه فاسق ارتكب معصية. ولكن دون أن يسقطوا عنه صفة الإيمان ولا الإسلام استنادا إلى أنه ينطق بشهادة بالإسلام، ولا يخرج نفسه من جماعة المؤمنين. وقد طرح هذا الموقف مشكلة "التحديد" مرة أخرى. تساءل كثيرون: هل صحيح أن الإيمان قول فقط، أي مجرد تصريح بالإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، أم أنه قول وعمل. أي تصريح بما تقدم والعمل بما في الكتاب والسنة من أوامر ونواه.
هنا انقسم الناس إلى ثلاث فرق رئيسة: خوارج، ومرجئة، ومعتزلة. الخوارج موقفهم معروف: الإيمان عندهم قول وفعل. وكل من لم يعمل بما أمر الله ولم ينته مما نهى عن –كما يفهمون ذلك- فهو عندهم كافر مباح الدم كما كان كفار الجاهلية. وأما الفرق أو الاتجاهات الأخرى فهي لا تكفر مرتكب الكبيرة وبالتالي لا تبيح دمه ولكنها تختلف في تحديد الفرق بينه وبين المؤمن، قولا وفعلا، وفي تحديد نوع المصير الذي يستحقه يوم القيامة.
كانت الإشكالية المطروحة على كل من يريد معالجة هذه المسألة بالعقل مع التزام الموضوعية والحياد هي تجاوز منطق "إما... وإما". ذلك لأن معارضة الخوارج في ذلك الوقت قد تفسر على أنها تأييد للأمويين، والعكس بالعكس. ولذلك كان الموقف العقلاني الصحيح يتطلب البحث عن قيمة ثالثة تتجاوز دعوى الخوارج والأمويين معا. وهذا ما حاول غيلان الدمشقي فعله في اول محاولة للخروج من موقف المرجئة والخوارج(كما أسلفنا) فمن جهة لم يجعل العمل شرطا في الإيمان كما فعل الخوارج، ومن جهة أخرى تجنب السقوط في تأييد دعوى الأمويين وأنصارهم الذين يقولون: الإيمان يكفي فيه القول وحده. وهكذا صاغ غيلان التعريف التالي للإيمان، قال: الإيمان "هو معرفة الله، معرفة صادرة عن تدبر واقتناع، ومحبته، والخضوع له، والإقرار بما جاء به الرسول. وأنه -أعني الإيمان- ليس خصلة واحدة إذا انفردت حصل بها، بل الإيمان اجتماع خصاله كلها، وأنه بالتالي لا يزيد ولا ينقص". أما عن تنفيذ الله وعيده يوم القيامة فقد وقف غيلان ضد فكرة "استثناء الخلفاء" التي روج لها الأمويون وغيرهم ممن يقولون إن الله إن شاء عاقب وإن شاء غفر... قال غيلان وأصحابه: "إن الله تعالى لو عفا عن عاص يوم القيامة عفا عن كل مؤمن عاص هو في مثل حاله، وإن أخرج من النار واحدا، أخرج من هو في مثل حاله"، لأن ذلك ما يقتضيه العدل". ويبدو أن هذا كان المنطلق في نظرية المعتزلة في "العدل"، إذ المقصود هو أن الله عادل، يجري حكمه على الناس بدون تمييز.
وقد ذكر بعض مؤرخي الفرق أن بعض المرجئة قالوا: "إن من شهد شهادة الحق (لا إله إلا الله…) دخل الجنة وإن عمل ما عمل"، حجتهم في ذلك أنه "كما لا ينفع مع الشرك حسنة كذلك لا يضر مع التوحيد سيئة". هذا بينما أعطى آخرون معنى آخر للإرجاء، هو طلب "الرجاء"، رجاء المغفرة. وهذا المعنى كان ينصرف أساسا إلى المسلمين الجدد الذين يجهلون فرائض الإسلام ومحرماته، فيرتكبون ذنوبا بسبب جهلهم.
واضح أن هذه المواقف كانت متأثرة إلى حد كبير بالظرف الذي قيلت في إطاره، فكانت مواقف دينية/سياسية، ولم تكن عقلية محض. ولكنها كانت بدون شك ممهدة لمحاولة واصل بن عطاء الذي أبدع موقفا جديدا، يتمثل في القول بقيمة ثالثة بين قيمة الكفر وقيمة الإيمان. إنها "المنزلة بين المنزلتين"، التي تمزق شرنقة منطق "إما...وإما". وهذا يتطلب قولا خاصا لبيان مضمونه وأبعاده، وتجلية آفاقه.

رأينا فيما ذكرنا آنفا كيف حاول غيلان الدمشقي، أحد رواد الحركة التنويرية في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، تجاوز منطق "إما... وإما"، المنطق الذي يلغي التفاعل بين المختلفات والمتقابلات والمتناقضات، وينكر على الآخر حقه في أن يكون له رأي خاص، مغلقا بذلك الباب نهائيا أمام التسامح. إنه المنطق الذي تبناه الخوارج، زمن الفتنة الكبرى، في مسألة مرتكب الكبيرة، والذي واجهه الحكام الأمويون وأنصارهم بمنطق موغل مثله في اللاعقلانية عندما قالوا إن جميع أفعال الناس هي نتيجة قضاء وقدر من عند الله، وأن ليس للإنسان فيها دور، هادفين بذلك إلى إسقاط المسؤولية عنهم فيما قاموا به من غصب للحكم، وعسف، وظلم...
على أن عملية التجاوز التي قام بها غيلان الدمشقي للمآزق التي أوقع الفكرَ الإسلامي فيها منطقُ "إما وإما"، الذي تعصب له الخوارج في أول أمرهم (حدث تطور في بعض فرقهم لاحقا، كالإباضية الذين اقتربوا من فكر المعتزلة)، كانت متجهة إلى الحاضر بالخصوص، بمعنى أن غيلان وأصحابه (أو على الأقل ما وصلنا عنهم) لم يتجاوزوا مستوى الفتوى التي تجيب عن نازلة تحمل معها زمنيتها، إلى مستوى الحلول النظرية العامة التي تصلح لتجاوز المشكل المطروح تجاوزا تاريخيا، يشمل الحاضر والماضي والمستقبل.
هذا التجاوز التاريخي العام حققه واصل بن عطاء عندما انتشل المسائل المطروحة من منطق "إما ... وإما" (من منطق ثنائي القيم)، ليطرحها على مستوى منطق آخر، متعدد القيم.
كان واصل بن عطاء تلميذا للحسن البصري، المرجعية الدينية المتفتحة المحترمة من الجميع. على أن الحسن البصري إذا كان قد قاوم "الجبر" الأموي بتقرير قدرة الإنسان على الفعل، وبالتالي مسئوليته على ما يفعل، فإنه في مسألة "مرتكب الكبيرة" لم يخرج من دائرة المنطق ثنائي القيم إلا بإحالة الحكم في هذه المسألة إلى المشيئة الإلهية، وذلك بتقرير أن مرتكب الكبيرة مؤمن عاص، إن شاء الله غفر له. وهذا الموقف إن كان يعبر في الوقت نفسه على رفض لإيديولوجية التكفير "الخارجية" وعلى إدانة للأمويين إدانة "خفيفة" : "مؤمن عاص إن شاء الله غفر له"، فإنه ينطوي في ذات الوقت على نوع من التساهل في مسألة الوعد والوعيد. ذلك أنه إذا كان الله سيغفر للمؤمن العاصي، فمعنى هذا أنه سيخلف وعيده، علما بان الله توعد مرتكبي الكبائر بالعقاب الشديد. ومثل ذلك يقال بالنسبة لوعده أصحاب الحسنات بالثواب. والتساهل في "الوعد والوعيد" يؤدي حتما إلى تزكية ادعاء الخلفاء الأمويين بأنهم لا يجري عليهم حساب ولا عقاب الخ. وهكذا نعود إلى وضعية : "إما.. وإما" : إما إيديولوجيا التكفير، وإما إيديولوجية الجبر وما يرتبط بها من القول باستثناء الخلفاء الأمويين من العقاب.
وللخروج من هذا المنطق الضيق الثنائي القيمة عالج واصل بن عطاء هذه المسألة على مستوى منطق ثلاثي القيم، فقال إن مرتكب الكبيرة يقع في بمنزلة بين منزلة الإيمان ومنزلة الكفر، هي منزلة "الفاسق" الذي هو: "لا مؤمن مطلقا ولا كافر مطلقا". وحسب ما نقله عنه الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل" فإن واصل كان يقرر "أن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سمي المرء مؤمنا، وهو اسم مدح. والفاسق لم يستجمع خصال الخير وما استحق اسم المدح، فلا يسمى مؤمنا. وليس بكافر مطلقا أيضا، لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه لإنكارها. لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من أهل النار خالدين فيها، إذ ليس في الآخرة إلا فريقان : فريق في الجنة وفريق في السعير. لكنه يخفف عنه العذاب وتكون دركته فوق دركة الكفار. معنى ذلك أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار ما لم يتب قبل وفاته. وبالتالي فما دام في الدنيا حيا يرزق من دون أن يتوب فحكمه حكم الكافر ولكن مع تمتعه بـ"وقف التنفيذ" إلى آخر لحظة في حياته. وإذا عرفنا أن استراتيجية "القدريين" الذين ينتمي إليهم واصل كانت ترمي من جملة ما ترمي إليه التأثير في الحكام الأمويين وممارسة الضغط السياسي-الديني عليهم أدركنا المغزى السياسي لاشتراط التوبة. إن التوبة هنا تعني تراجع الأمويين عن سياستهم وسلوك سياسة الشورى والمساواة… التي ينادي بها القدريون. بعبارة أخرى لقد جعل واصل بن عطاء شرعية الحكم الأموي معلقة على التوبة، والتوبة تقتضي الاعتراف بالخطأ مع الندم والالتزام بعدم العودة إليه والتعهد بالعمل الصالح مستقبلا. وواضح أن هذا الموقف ينطوي على إدانة السلوك الذي صدر عن الأمويين في الماضي وفتح المجال لإمكانية تجاوز خطايا الماضي إلى الصلاح في المستقبل بالقيام بما نعبر عنه اليوم بـ"النقد الذاتي" والالتزام بالصلاح والإصلاح.
ذلك على صعيد المصالحة مع الحاضر والمستقبل. وتبقى المصالحة مع الماضي، التي لم تكن تقل أهمية في ذلك الوقت، خصوصا وقد كان الموقف الحقيقي من الحاضر إنما يتحدد من خلال الموقف المتخذ من الماضي. ومن هنا، حملات الإرهاب الفكري الذي كان يمارس على الناس بطرح أسئلة محرجة من قبيل: ما قولك في عثمان؟ وما قولك في علي؟ وما قولك في معاوية الخ؟
لقد كان على واصل بن عطاء، إذن، أن يجد صيغة للحكم على صراعات الماضي تنسجم وتتكامل مع قوله بـ"المنزلة بين المنزلتين"، وذلك ما قام به فعلا. فبدلا من تخطئة معاوية وأصحابه بالذات، أو علي وأصحابه بالذات، وبدلا من القول بـ "الارجاء" الذي ينطوي على تأييد ضمني للأمويين، بدلا من ذلك كله قال واصل "في الفريقين من أصحاب الجمل (حرب الجمل بين علي من جهة وطلحة والزبير وعائشة من جهة أخرى) وأصحاب صفين (فريق معاوية وفريق علي)، إن أحدهما مخطئ لا محالة. وكذلك قوله في عثمان وقاتليه وخاذليه. قال : إن أحد الفريقين فاسق لا محالة، كما أن أحد المتلاعنين فاسق لا محالة، (والمتلاعنان هما الزوج يتهم زوجته بالزنى فتنكر، ولا شهود لأي منهما، فيتلاعنان: كل منها يحلف مدعيا الصدق أربع مرات ويختم بالخامسة : "ولعنة الله على الكاذبين"). وهكذا فما دام كل من الفريقين (فريق علي وفريق معاوية) يدعي أن الحق معه، وأن خصمه هو الظالم، فإن أحدهما لابد أن يكون مخطئا، ("لأن الحق لا يناقض الحق).
ومعنى ذلك، بلغة عصرنا، أن ملابسات الفتنة التي حصلت زمن عثمان، والحرب التي جرت بين علي وطلحة والزبير ثم بين علي ومعاوية ملابسات معقدة، يصعب إن لم يكن يستحيل تبين الخطأ من الصواب فيها خصوصا والروايات متناقضة… ولكن الواقع لا يرتفع : لقد تقاتل هؤلاء وتسببوا في قتل المسلمين، فالخطأ ثابت إذن. وبما أنه لا يمكن تحديد المخطئ بعينه فإنه من الضروري تجاوز ما حصل من خلاف وصراع واقتتال والاتجاه إلى المستقبل. أما الطرفان معا فسيبقيان محل شبهة وتهمة! والنتيجة المترتبة على هذا – في نظر واصل بن عطاء- "أن أقل درجات الفريقين ألا تقبل شهادتهما كما لا تقبل شهادة المتلاعنين من الواضح أن من بين ما يدخل في "الشهادة" رواية الحديث. ومن هنا كان واصل بن عطاء وغيره من المعتزلة لا يعتمدون الحديث أساسا ويقولون بأسبقية "العقل" على "النقل".
وكما "تكلم" واصل بن عطاء في مسألة "مرتكب الكبيرة" من منظور إثبات المسؤولية فعل الشيء نفسه في مسألة "القدر" سالكا مسلك زميليه معبد الجهني وغيلان الدمشقي وأستاذه الحسن البصري. ويلخص الشهرستاني رأيه في هذه المسألة كما يلي : كان واصل بن عطاء يقول. "إن الباري تعالى حكيم عادل لا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم، ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمر، ويحتم عليهم شيئا ثم يجازيهم عليه. فالعبد هو الفاعل للخير والشر والإيمان والكفر والطاعة والمعصية، وهو المجازي على فعله… ويستحيل أن يخاطب -الله- العبد بـ "افعل" وهو لا يمكنه أن يفعل ولا هو يحس من نفسه الاقتدار والفعل. ومن أنكره فقد أنكر الضرورة (=العقلية : المنطق). واستدل بآيات على هذه الكلمات وكما "تكلم" واصل في "القدر" ضد إيديولوجيا الجبر الأموي "تكلم" كذلك في "الصفات" –صفات الله- في الإطار نفسه والهدف ذاته. قال إن الله لا يوصف بالعلم والقدرة والإرادة والحياة كما يوصف البشر. وواضح أن نفي الصفات من مقتضيات القول بحرية الإرادة لدى الإنسان، ومن ثمة ثبوت المسؤولية، فالثواب والعقاب.
لم يقتصر هذا الاتجاه العقلي الذي دشنه واصل على مواجهة الجبر الأموي والإرجاء السياسي الذي يخدم قضيتهم، بل إنه واجه أيضا ميثولوجيا الإمامة فقال بالشورى ورد على القائلين بـ "الوصية" و"البداء" (الذي قالت به بعض فرق الشيعة، ومعناه : أن يكون الله قد أقر أمرا ثم "بدا" له أن يلغيه ويقر أمرا آخر، وهو في السياسة قرين النسخ في الأحكام الشرعية). كما تجند للرد على الثنوية والزنادقة والفرق الغنوصية الأخرى فناظر أصحابها وألف في الرد عليهم كتابا بعنوان "الألف مسألة في الرد على المانوية".
وهكذا نرى أن واصل بن عطاء، مؤسس فرقة المعتزلة، قد "تكلم" سياسيا في جميع القضايا التي أثيرت في عصره وحدد فيها وجهات نظر خاصة. ووجهات النظر التي حددها واصل في القضايا الأساسية التي ذكرنا هي التي سيطلق عليها فيما بعد مصطلح: "أصول المعتزلة"، وهي خمسة : 1) التوحيد (=التنزيه، نفي الصفات)، 2) والعدل (=الله لا يظلم، لا يجبر أحدا بفعل شيء ثم يعاقبه عليه)، 3) والمنزلة بين المنزلتين (مرتكب الكبيرة ليس مؤمنا مطلقا ولا كافرا مطلقا، هو في حكم الكافر ما لم يتب). 4) والوعد والوعيد (الله ينفذ وعده بالثواب ووعيده بالعقاب ضرورة). 5) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد التزم بهذا المبدأ جميع رجال حركة التنوير التي تحدثنا عنها، والتي أسست لعقلانية إسلامية أصيلة، كانت هي الجسر الذي جعل ظهور العلم والفلسفة ممكنا في الحضارة العربية الإسلامية.
خاتمة
على من يطلق مصطلح الاعتزال؟ أو من هم المعتزلون؟ لا يكون إنسان ما معتزل إلا إذا آمن بخمسة مبادئ: التوحيد/ العدل/ المنزلة بين منزلتين/ الوعد والوعيد/ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.و يعتقد المعتزلة أن المبدئيين الرئيسيين هما التوحيد والعدل لذا يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد
أولا: التوحيد
لمبدأ التوحيد مفهوم خاص عند المعتزلة, و هو يعني لهم: التنزيه المطلق والتوحيد بين الذات والصفات
التنزيه ليس كمثله شيء لا تشبيه ولا تجسيم وتنزيه الله تعالى عن أن يكون مثل الأجسام أو الموجودات الحسية ونفي أي تشبيه بين المخلوقات والله، والآيات التي تفيد التشبيه لا يقبلها المعتزلة على ظاهرها بل يقومون بتأويلها مثل "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" نخرج المعنى الظاهر لكلمة (وجه) ونقول أن المقصود بها الذات.
التوحيد بين الذات والصفات
الله ذات ووجود وهذا الوجود يتصف بصفات ذكرها الله في كتابه وصف الله بها نفسه بأنه عالم، كبير، قدير، سميع، خالق، بصير.
و يعتبر المعتزلة هذه الصفات مضافة للذات، مثلا: الإنسان لا يولد عليم ثم يصبح عليم، المعتزلة يقولون أن هذه الصفات ليست زائدة عن الذات إنما هي عين ذات الإلهية (العلم – القدرة – الإرادة – الحياة – السمع – البصر – الكلام) سبع صفات للذات
صفة الذات
هي الصفة التي لا يجوز أن أصف الله تعالى بها وبضدها فلا يجوز أن أصف الله بالجاهل×عالم، ولا بالعاجز×قادر الخ..
صفات الفعل
يجوز أن يوصف الله تعالى بضدها مثل الرزاق فأحيانا يرزق وأحيانا يمنع الرزق، والمعتزلة يقولون أن الكلام صفة الفعل وليست صفات الذات.
يقول المعتزلة أن صفات الله الستة لا تنفصل عن الذات وإنما هي عين الذات الإلهية. سميع بسمعه وسمعه هو عين ذاته، بصير ببصره وبصره هو عين ذاته وهكذا... لأنه إذا قلنا أن الصفات ليست عين الذات فمعنى ذلك أن هناك تعدد و تجزؤ في الذات الإلهية و هذا لا يجوز في رأي المعتزلة لأنه في رأيهم شرك لأنه عندي ذات قديمة وصفات هي عين الذات ومعنى ذلك أننا نقع في الشرك ونقول قولا أفظع من قول النصارى في الله. والخروج من هذا المأزق بالتوحيد بين الذات و الصفات فصفة العلم هي الذات نفسها، وخصوم المعتزلة يسمونهم المعطلة أو أهل التعطيل أي عطلوا أن يكون للصفات وجود متمايز. الشيعة والخوارج والإباضية أخذوا بهذا المبدأ، وهذا هو معنى التوحيد عند المعتزلة ويترتب على هذا المذهب بعض المواقف العقيدية مثل نفي رؤية الله لا فالدنيا ولا فالآخرة. "وجوه يوم إذن ناضرة إلى ربها ناظرة". إلى ليست حرف جر بل تعني النعمة/ ناظرة أي تنتظر تمشيا مع مبدأ التنزيه فإذا رؤي الله بالأبصار فهو جسم
ثانيا: العدل
و العدل مبدأ هام في فكر المعتزلة لأنهم يربطون بين صفة العدل الأفعال الإنسانية ويرون أن الإنسان حر في أفعاله وهم يقولون ذلك لكي ينقذوا التكليف الشرعي لأن الإنسان المسلم مكلف شرعيا والإنسان مسئول عن هذه الأفعال حتى يستقيم التكليف ويكون الثواب عدلا والعقاب عدلا. خلافا للجبرية الذين يعتقدون أن الأفعال من خلق الله والإنسان مجبور عليها. إلا أن المعتزلة ترى أن عدل الله يقتضي أن يكون الإنسان هو صاحب أفعاله. يترتب على القول بالعدل الإلهي بأن الله لا يفعل الشر فأفعال الله كلها حسنة وخيرّة، الشر إما أن يوجد من الإنسان، أو لا يكون شرا إنما لا نعرف أسبابها، أو لا نستطيع أن نجد لها مبرر لكنها ليست شرا.
يقول المعتزلة أن الله يفعل ما هو الأصلح لعباده و لا يمكن أن يفعل الشر لعباده. ويتمثل المعتزلون الذات الإلهية خيرا مطلقا، ويقولون باللطف الإلهي أن الله يهدي الناس إلى ما فيه الخير لطفا بهم.القول بالحسن والقبح الذاتيين أو العقليين، والمقصود بها أفعال الإنسان الحسنة وأفعال الإنسان القبيحة. مثلا الصلاة فعل حسن، التصدق فعل حسن، إطعام المسكين فعل حسن.../ الزنا فعل قبيح، الاعتداء.. أفعال سيئة قبيحة.
و بالنسبة لتحديد ما إذا كان الفعل حسن أو قبيح, هناك إتجاهان, الأول يقول (أن الشرع قد أخبرني ذلك) يجعل الأفعال حسنة (الشرع أخبرني عن ذلك) يجعل الأفعال قبيحة إذن الإخبار الشرعي هو المعيار و هذا مبدأ التيار السلفي النقلي الذي يأخذ بظاهر النصوص. و الإتجاه آخر يمثله التيار العقلي يقول أن العقل هو المسئول.
و يقصد بالحسن و الفبح الذاتيين أن الأفعال تحمل في طبيعتها الذاتية الحسن أو القبح ففعل الزنا في ذاته قبيح. ليس هناك تعارض بين ما هو نقلي وعقلي. فقه الأحكام يتسع وهذا مدخل من مداخل الاجتهاد الأساسية. يترتب على مبدأ العدل أيضا القول بخلق القرآن، فالقرآن كلام الله تعالى والكلام صفة من صفات الله فالله متكلم وكلم موسى تكليما وصفة الكلام هي إحدى الصفات التي يعتبرها بعض المسلمين صفات ذات (صفة الذات هي صفة يوصف الله بها ولا يجوز أن يوصف بضدها مثل الحياة والإرادة.) وهم جمهور الأشاعرة، أهل السنة. والمعتزلة يعتبرونها صفة من صفات الفعل (لماذا؟) لأنها من الصفات التي توصف بالحسن أو بالقبح وبالطبع توصف بالحسن لله.. يقول المعتزلة كلام الله مخلوق أو حادث أي أنه وجد بعد لم يكن موجودا وتكلم الله به بعد لم يكن متكلما. الخليفة المأمون فرض القول بخلق القرآن وطلب من الجميع أن يقروا بذلك و اعتبر القول بقدم الذات الإلهية ضرب من الشرك المضاد للتوحيد.
مفهوم الهرطقة: تعني أي عقيدة خارجة عن العقيدة الإسلامية أو العقيدة الصحيحة. القرآن يقول عيسى كلمة الله. س/ هل الكلمة قديمة أم حديثة؟ إذا كانت قديمة فعيسى قديم إذن عيسى إله، وإذا كانت حديثة فعيسى حادث فهو بشر. لذا المعتزلة قالوا بخلق القرآن وأنه حادث ومخلوق وليس قديم والذي لا يقولون بخلق القرآن يضاهون قول النصارى بأن عيسى إله. أهل السنة إجمالا يقولون كلام الله قديم وبعضهم يقول لا قديم ولا حديث ويسموون (الواقفة).
ثالثا: المنزلة بين منزلتين
ليس مؤمن ولا كافر فيظل على هذا الحال فإن تاب أصبح مؤمن وإن لم يتب حتى موته يخلد في النار.
رابعا: القول بالوعد والوعيد
الله وعد المؤمنين بجنة وتوعد الكافرين والأشرار بالعذاب وجهنم. س/ هل الله ملزم بإنفاذ وعده ووعيده أم أن الأمر ممكن أن يكون على وضع آخر؟ مثلا واحد يصلي ويصوم الخ... هل حتما يدخل الجنة؟/ واحد لا يصوم ولا يصلي الخ... هل حتما يدخل النار؟ يقول المعتزلة (نعم) الله ملزم بإنفاذ وعده والعدل يطلب ذلك ويشترط ذلك والوعد والوعيد فرعا من العدل، و الأشاعرة يقولون من القرآن أن الله قد توعد تقاة المؤمنين بالجنة فلا بد أن يدخلوها و توعد الكافرين بالنار فلا بد أن يخلدوا فيها أما عصاة المسلمين والمذنبين فهم تحت مشيئة الله فمنهم من يعذب في النار لفترة من الزمن ثم يدخل الجنة ويخلد فيها ومنهم من يغفر الله لهم كأن يشفع لهم النبي فيدخلون الجنة من غير أن يعذبوا في النار الله لا يلزم بشئ إنما ما توعد به لا بد أن ينفذ فهذه مشيئته ومشيئة الرحمن لا تتقلب. لقد قال أحد الباباوات أن الدين الإسلامي لا يخضع للعقل أما المعتزلة قالوا أن الله عقلاني وأفعاله تلتزم بمتطلبات العقل فوعد الله حق ووعيده حق والعدل الإلهي يوجب ذلك.
خامسا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إلزام أي يجب التدخل ومنع المنكر ومن واجبي أن أؤمر الآخرين بالمعروف. س/ ما هي درجات الأمر بالمعروف وهل يحق لي أن أتدخل بالقول (باللسان) مثلا أقول هذا عيب، حرام، لا يجوز، أكتب مقالة في جريدة.. أم أتدخل باليد بأن أدخل في معركة مع شخص يتحرش بفتاة بالطريق مثلا، أو الثورة والسلاح كآلية من آليات الأمر بالمعروف، أو القلب وهو أضعف الإيمان؟ س/ هناك بلدان جعلت من موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مؤسسة إسلامية (السعودية) ومن الذي يحق له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، القضية الأساسية هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجب الأفراد أو من واجب المؤسسات والدولة أو المجتمع؟ البعض يرى الأفراد استنادا للحديث "من رأى منكم...."، الغزالي يرى أنه من حق الدولة (أولي الأمر) لأنه ممكن أن يربك الأمن العام ويعمل صراعات شخصية ويترتب عليه فتنة وعصيان واضطرابات مدنية وأمنية. نظام الحسبة تجسيد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الدولة عليها مسؤولية فعل ذلك بسن القوانين. الأكثر شيوعا عند المعتزلة كان النصح والقول أي التغيير باللسان ولم يلجأ المعتزلة إلى اليد والثورة إلا مرة واحده سنة 144هـ. مع بشير الرحال في خلافة أبي جعفر المنصور حين خرجوا مناصرين للإمام الشيعي الزيدي (محمد بن إبراهيم بن الحسن بن علي الملقب بالنفس الزكية) وثاروا في وجه أبي جعفر المنصور فبعث لهم جيشا قضى عليهم جميعا. وهذه حالة واحدة وإجمالا كانوا يتبنون موقف النقد القوي.

اجمالي القراءات 6493