الفساد في البر والبحر:
" ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون "( الروم )-41
عندما نتدبر معاني هذه الاية العظيمة ، مثلها مثل معاني كل اية في هذا الكتاب العظيم ، لابد لنا من ان ندرك في بداية تدبرنا أن معظم هذه الايات لها دلالة الحاضر والماضي والمستقبل ،و هي من قوانين وسنن خالق الكون ، الذي ومن رحمته بنا أرسل لنا هذه الايات حتى نستطيع من خلالها كشف ودراسة الافاق والانفس والبحث عن اسباب ما يصيبنا من ابتلاءات أو أقدار ، نحن السب&Egravave; في حدوثها ،لنصل دائما وابداً وفي كل زمان ومكان الى تسخير هذه القوانين ودفع الاقدار باقدار أخرى،حتى يذهب الزبد والوهم ،ويبقى ما ينفع الناس.
ولكي نحيط بمفهوم ومعاني كلمات هذه الاية ، لابد لنا من العودة الى التفسير والموروث ، لاستقرائه ومعرفة تأويل السلف لها . وهنا أحب أن أذكر أن السلف قاموا مشكورين بفعل عظيم تناسب ومستواهم المعرفي ،واستخدموا انذاك الادوات المعرفية التي كانت بحوزتهم وكان تأوليلهم لعصرهم صحيح ،لكنه نسبي ، وعلينا أخذه من هذا المنطلق ،فإن طابق مواصفات عصرنا أخذنا به وإلا سيبقى هذا التأويل في حكم التاريخ ،وعلينا نحن استقراء الاية واسقاطها على العصر الذي نعيشه ،لنخلق تأويلاً جديدا ، للاجيال المعاصرة ،وأساسا تاريخياً للاجيال المتعاقبة . وهذه هي عظمة القرآن (النص ثايت ،والتفسير متغير في حركة صعود نحو الحقيقة المطلقة).
كيف فهم السلف هذه الاية:
جاء في تفسير أبن كثير :
" قال ابن عباس وعكرمة والضحاك وغيرهم – المراد بالبر هنا الفيافي وبالبحر الامصار والقرى،وفي رواية ابن عباس وعكرمة: البحر الأمصار والقرى وما كان منهما على جانب نهر وقال اخرون المراد بالبر هو البر المعروف وبالبحر البحر المعروف". وقال زين بن رفيع " ظهر الفساد يعني انقطاع المطر عن البر يعقبه القحط، وعن البحر تعمى دوابه .
وجاء في تفسيره ايضاً" ومعنى قوله ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس –أي بأن النقص في الزرع والثمار بسبب المعاصي.وقال أبو العالية: من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الارض والسماء بالطاعة". ..ونتابع تفسير ابن كثير فيقول " وقال عطاء الخرساني المراد بالبر ما فيه من المدائن والقرى وبالبحر جزائره" وجاء في التفسير أيضاً " رواه بن ابي حاتم وقال حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد بن المقري عن سفيان عن حميد بن قيس الاعرج عن مجاهد (ظهر الفساد في البر والبحر – قال : فساد البر قتل ابن آدم وفساد البحر أخذ السفينة غصباً " ويصل ابن كثير الى تأويل ( ليذيقهم بعض الذي عملوه) فيقول " روى مالك عن زيد بن أسلم أن المراد بالفساد ها هنا الشرك وفيه نظر وقوله تعالى ( ليذيقه بعض الذي عملوا) أي يبتليهم بنقص الاموال والأنفس والثمرات اختباراً منه ومجازاة صنيعهم(لعلهم يرجعون).
وبقراءة استقرائية لما سبق من تفاسير فإننا ، لانستطيع إيجاد ترابط منطقي مابين مدلول الاية وما نحن عليه اليوم من واقع. وعند اسقاط ما توصل إليه السلف على عصرنا الحاضر سنجد أنفسنا مضطرين الى البحث عن تفسير جديد يتناسب والمشكلات المستجدة والتي ظهرت للعيان واصبحت في حكم الواقع،وعلينا بحثها ووضع الحلول العملية لها . وفي أكثر الاحوال نستطيع ادراج تأويل أو تفسير السلف ضمن الموروث التاريخي ، الذي يجب الحفاظ عليه للاستدلال على صحة المعجزة القرآنية في ثبوت النص وحركة التأويل نحوالمطلق.
مداخلة في تفسير السلف :
إن موضوع تلوث البيئة ، بفعل الانسان في عصرنا الحاضر ، يعتبر من أخطر المشاكل التي تواجه البشرية ، ولهذا أستطيع أن أؤكد أن عصرنا الراهن هو عصر الثورة البيئية ،حيث تقوم المؤسسات الدولية ومنظمات المجتمع المدني في كل انحاءالعالم الى التنبيه الى خطر ثلوث البيئة ، مطالبة المسؤولين بوضع الحلول السريعة قبل حدوث الكوارث التي قد تدمر مكتسبات البشرية ،وقد تدمر الانسان نفسه. وموضوع تلوث البيئة هو موضوع عصري ، لم يشهده السلف لهذا فإن موضوع البيئة بالنسبة لهم وتلوثها كان بحكم الغيب .وكون الاية لها وجود موضوعي ،بغض النظر عن وجود المشكلة وعدمها ، كان لابد للسلف من استقراء الاية حتى توصلوا الى ماتوصلوا إليه ،لهذا ربطوا ما بين الفساد والمعصية ، وكون البيئة كانت على درجة كبيرة من النظافة لهذا اتجهوا في تأويل الفعل البشري الى أن الفساد المعنوي هو الشرك وارتكاب المعاصي. فهل نلومهم على ذلك؟ أبداً وجزاهم الله خيراً.
في الحقيقة الاية تخاطب كل الاجيال ،وفهم القارئ لها قبل ألف سنة ،لن يكون كفهم القارئ لها الان ، وأرى كما يرى الكثير من الخلف أن الأية تشير إلى ظاهرة تلوث البيئة (البر والبحر). لكن البعض قد يتسائل هل يعقل أن تشير الاية الى ظاهرة التلوث البيئية ،وهي ظاهرة حديثة ، من نتاج التطور الحضاري والتقدم التكنولوجي.
القرآن الكريم في الكثير من الآيات ،تحدث عن امور غيبية ، ستحدث مستقبلاً، والقرآن الكريم بمجمله أرشد الإنسان الى سلوك الطريق القويم ، فنهاهه عن امور لو مارسها الانسان حاضرا أو مستقبلاً لكان فيها هلاكه ، فكيف لاينبه الى خطورة تلوث البيئة كفساد سيعم البشرية وهو العليم الخبير.
سألني أحد المدافعين عن البيئة . كيف كنتم تتعاملون مع البيئة في بلادكم قبل 50 سنة مثلاً؟ ضحكت وقلت له كنا نحافظ عليها بالفطرة ، سأل كيف هذا؟ قلت له كنا لانرمي شيئا ،إذا أكلنا، الفضلات تستهلكها الحيونات الآليفة ،فضلات الانسان كانت تعتبر سمادا طبيعيا. فضلات الحيوانات كنا نصنعها بشكل أقراص ،نجففها على الشمس ونستخدمها كوقود في الشتاء. حتى بزر الزيتون كنا لانرميه ،بل نصنع منه قلائد ، الورق وغيره من المواد المشتعل ةكنا نستخدمها كطاقة حرارية في المدافئ أو الافران....الحقيقة كنا نعيش على الفطرة والصناعة كانت خفيفة وبدائية . لهذا كان موضوع تلوث البيئة وإن وجد بشكله البسيط ،لكنه لم يكن مطروقاً أنذاك، لعدم تشكيله خطراً عينيناً .
نعود الى تدبر كلمات الاية القرانية .( ظهر الفساد ). هذا المعنى له أمتداد تاريخي. وهذه هي كلمات الخالق ،التي تعبر بدقة فائقة عن مضمونها. ظهر الفساد،أي أنتشر وعّم ،وهذا يقودنا الى أن الفساد قبل ظهوره كان قد بدأ بالحدوث ، دون ان ينتبه إليه الإنسان العادي ولا الإنسان المهتم بموضوع البيئة ... الى أن تطور الامر الى النقطة الحرجة ،التي صار تأثيرها سلبي على حياته... عند إذن ظهر للعلن ...وبدأ الناس يتحدثون عنه ككارثة طبيعية لو استمر هذا الفساد فإنه سيدمر العالم. وطبعا السبب في ظهور الفساد كما نعلم هو الاستخدام المتزايد للمواد الكيمائية وغيرها في الزراعة والصناعة ووسائط النقل ومحطات الطاقة الذرية . و نستطيع القول إن ظهور الفساد نتيجة التطور الحاصل ، في الصناعة والزراعة باستخدام الكثير من المواد المضرة بغية زيادة الانتاج ... والذي لا يتماشى بخط موازي مع موضوع الحفاظ على البيئة ، الهم الوحيد للمفسدين الربح ثم الربح ولو على حساب ثلوث البر والبحر.فظهور الفساد يعني أولا واخيراً ،انه نتيجة وليس سبب ،نتيجة لنشاط الانسان وسلوكه الجشع الذي سببت الاختلال في التوازن الطبيعي. وهنا يجب أن نلحظ ان الخالق قدم كلمة البر على البحر لأن الفساد حصل في البداية على البر ومن ثم أنتقل الى البحر ... (بما كسبت( عملت) أيدي الناس). الله عز وجل لايمكن له وحاشا الله أن يكون سببا في حصول هذا الفساد.... إنه الانسان ... بما عملت يداه ... ...ومن ثم سببه العلم الذي لايترافق مع الايمان ... هو الفكر الذي تحدى الطبيعة ، وجعلهاعدوة للإنسان... أماكلمة الكسب (بما كسبت) تعني الجمع والربح مع التحدي لنواميس الطبيعة وسنن الخالق .بغض النظر عن المضاعفات البيئية لهذا الكسب . فتلوثت الارض والمياه الجوفية ،ومياه البحار ....حتى وصل التأثير على الجو (الاوزون). وبعد ذلك ننتقل الى قوله عز وجل ( ليذيقهم بعض الذي عملوا). الله خلق الكون من خلال النواميس والسنن التي تضبط حركته. وضع المقادير والاوزان بدقة متناهية ، " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين لو اردنا أن نتخذ هزواً لاتخذناه من لدنا إنا كنا فاعلين) الانبياء16-17
الخالق من سياق هذه الاية يخبرنا إنه لم يخلق الكون من اجل الهزو... وهوقادر على ذلك ... خلقه بدقة وتوازن عجيبين. وجاء دور الانسان، وكان الخالق أراد أن يقول ، أن هذا الانسان الغير مسؤول ،يدأ يحدث الخلل في هذا التوازن ،وكانه يهزو ... لكن مشيئة الخالق وإرادته هي في استمرار الحياة ،و تتابع الخلق الى الوقت المعلوم.... وحتى لايتطاول الانسان بهزله وتخريبه للبيئة أكثر من المسموح له .. قال الله تعالى (ليذيقهم) هذا الكلمة هي بحد ذاتها قانون الهي رادع لهذا الانسان ، كي ينتبه الى ما عملته يداه.... وها نحن نرى اثار تلوث البر والبحر، وما له من انعكاسات على حياة البشر مرضية ،وكارثية ... وفي كل مرحلة تصل الامور الى النقطة الحرجة ،يدفع الإنسان ثمن إهماله لموضوع البيئة، يذوق ألم نتائج عمله واستهتاره وهزوه ،فيعو د الى التفكير الجدي في الحفاظ عليها وإصلاح ما افسد. (لعلهم يرجعون). أي بمعنى يتركون ما عملته أيديهم ويصلحون ما افسدوا ،وأشركوا ،لإن تحدي الانسان لنواميس وسنن الكون هو نوع من الاشراك والعياذ بالله. ولعلهم يرجعون ...وكأن الامر متروك للانسان ، وامامه الخيارات مفتوحة ...إما المتابعة في زيادة الفساد ... وهذا سيقود الى الهلاك الحتمي .... أو التوقف والاصلاح .... وهذا فيه استمرارية الحياة... والانسان بالفطرة ...همه الاول هو الحفاظ علىالبقاء. لهذا فإن الخالق اعلم بما خلق ،فقوله لعلهم يرجعون ..هو تأكيد أن الانسان سيختار الحل الذي يرجع به الى التصالح مع الطبيعة والحفاظ على التوازن البيئي.
ونستطيع ادراج الفساد الاخلاقي الى جانب البيئي أيضا، الذي عمّ على سطح الارض نتيجة التعدي على حدود الله عز وجل من قبل الإنسان...وكان من نتائجه مرض الايدز الذي يهدد البشرية في حال عدم معالجته أخلاقيا سيتسبب في كوارث إنسانية كبيرة .وها نحن أمام سيناروهات متعددة لعلاج هذا الانحلال الاخلاقي.... باستخدام الواقي.... واستخدام ابر معقمة للمخدرات.... وغيرها من العلاجات الوقائية الوقتية ...لكن في النهاية سيجد الانسان نفسه أمام خيار واحد من أجل خلاصه من خطر هذا الكابوس وغيره...الا وهو العودة الى شرع الله والتحرك ضمن حدوده المسموح بها.والله أعلم.