فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ: تأملات في آيتي سورة الذاريات (50–51)

يحي فوزي نشاشبي في الأربعاء ١٧ - سبتمبر - ٢٠٢٥ ١٢:٠٠ صباحاً

بسم  الله  الرحمن  الرحيم.

******

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ: تأملات في آيتي سورة الذاريات

 (50–51)

يعلم الله وحده كم مرة مررتُ على هاتين الآيتين من سورة الذاريات مرور الكرام، غير أنّ هذه المرة استوقفتني عبارة بليغة هزّتني: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾.

تساءلت: الفرار عادةً يكون من شيءٍ مخيف، مرعب، ممقوت… فكيف يكون الفرار إلى الله جلّ جلاله؟ ثم جاءت الآية الثانية حاسمةً مؤكِّدة: ﴿إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾، تكررت مرتين لتغلق باب التأويل وتفتح باب اليقين. وكأنها تصرح قائلة: إنّ النجاة لا تكون إلا عند الله، وأنّ التحذير صادر منه سبحانه مباشرة.

إنّ الملفت في التعبير القرآني أنّه لم يقل "اهربوا"، بل قال: "ففروا"، والفرار أدلّ على الشدّة والعجلة والانفلات من الخطر العظيم، بخلاف الهروب الذي قد يكون عاديًا أو مؤقتًا. لذا كان الفرار إلى الله فرارًا من كل ما يبعد عنه: من الشرك، والهوى، والباطل، والفتن.

وقد ورد لفظ "الفرار" في القرآن في مواضع أخرى تدل جميعها على الخوف والرعب، منها:

  1. ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾(نوح: 6).
  2. ﴿فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾(الشعراء: 20).
  3. ﴿لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾(الكهف: (18)

فالفرار إذن ملازم للخوف، لكنه في الآيتين (50–51) اتخذ بُعدًا جديدًا مغايرًا: إنه فرار من الخوف إلى الطمأنينة، من الضياع إلى الهداية، من النار إلى الجنة، من المخلوق إلى الخالق.

ولذلك ختمت الآيتان بالتحذير المتكرر: ﴿إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾، ليؤكد أن أعظم ما يُفرّ منه هو الشرك: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ﴾.

وهنا يتبين أن النجاة الحقيقية لا تكون إلا بالاعتصام بحبل الله كما قال تعالى:
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾سورة آل  عمران  رقم 103.وبالتمسك بالعروة الوثقى ﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ﴾(البقرة: 256.                

وعندما نبحث عن القدوة في هذا الفرار، لا نجد أعظم من خليل الله إبراهيم عليه السلام الذي اتخذه الله إمامًا، وأمر خاتم النبيين ﷺ أن يتبعه في قوله:
﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(النحل: 123.

فالفرار إلى الله ليس هروبًا سلبيًا، بل هو عودة إيجابية واعية، تجسِّد التوحيد الخالص، وتحرِّر الإنسان من كل عبودية سوى عبوديته لرب العالمين.

 ************

 

اجمالي القراءات 459