الفقه الوعظى في كتاب ( تلبيس إبليس ) لإبن الجوزى ( 5 / ج 20 ):كتاب ( الفقه الوعظى )
نستكمل الحديث ..
يقول إبن الجوزى في كتابه ( تلبيس إبليس )
موضوعات مختلفة
تحت عنوان :
( ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ترك الجمعة والجماعة بالوحدة والعزلة )
قال المصنف: كان خيار السلف يؤثرون الوحدة والعزلة عن الناس اشتغالا بالعلم والتعبد إلا أن عزلة القوم لم تقطعهم عن جمعة ولا جماعة ولا عيادة مريض ولا شهود جنازة ولا قيام بحق وإنما هي عزلة عن الشر وأهله ومخالطة البطالين .
وقد لبس إبليس على جماعة من المتصوفة فمنهم من أعتزل في جبل كالرهبان يبيت وحده ويصبح وحده ففاتته الجمعة وصلاة الجماعة ومخالطة أهل العلم . وعمومهم اعتزل في الأربطة ففاتهم السعي إلى المساجد وتوطنوا على فراش الراحة وتركوا الكسب .
وقد قال أبو حامد الغزالي في كتاب الأحياء : " مقصودة الرياضة تفريغ القلب وليس ذلك إلا بخلوة في مكان مظلم. وقال فان لم يكن مكان مظلم فيلف رأسه في جبته أو يتدثر بكساء أو أزار ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ويشاهد جلال حضرة الربوبية ".
قال المصنف رحمه الله قلت : أنظر إلى هذه الترتيبات والعجب كيف تصدر من فقيه عالم ؟ ومن أين له أن الذي يسمعه نداء الحق ؟ وأن الذي يشاهده جلال الربوبية ؟ وما يؤمنه أن يكون ما يجده من الوساوس والخيالات الفاسدة ؟ وهذا الظاهر ممن يستعمل التقلل في المطعم فإنه يغلب عليه الماليخوليا . وقد يسلم الإنسان في مثل هذه الحالة من الوساوس ، إلا أنه إذا تغشى بثوبه وغمض عينيه تخايل هذه الأشياء ، لأن في الدماغ ثلاث قوى قوة يكون بها التخيل وقوة يكون بها الفكرة وقوة يكون بها الذكر وموضع التخيل البطنان المقدمان من بطون الدماغ ، وموضع التفكر البطن الأوسط من بطون الدماغ ، وموضع الحفظ الموضع المؤخر . فإن أطرق الإنسان وغمض عينيه جال الفكر والتخيل فيرى خيالات فيظنها ما ذكر من حضرة جلال الربوبية إلى غير ذلك . نعوذ بالله من هذه الوساوس والخيالات الفاسدة .
أخبرنا .. قال كان أبو عبيد التستري إذا كان أول يوم من شهر رمضان يدخل البيت ويقول لامرأته طيني باب البيت وألق إلي كل ليلة من الكوة رغيفا فإذا كان يوم العيد دخلت فوجدت ثلاثين رغيفا في الزاوية ولا أكل ولا شرب ولا يتهيأ لصلاة ويبقى على طهر واحد إلى آخر الشهر .
قال المصنف رحمه الله هذه الحكاية عندي بعيدة عن الصحة من وجهين : أحدها بقاء الآدمي شهرا لا يحدث بنوم ولا بول ولا غائط ولا ريح . والثاني ترك المسلم صلاة الجمعة والجماعة وهي واجبة لا يحل تركها فإن صحت هذه الحكاية فما أبقى إبليس لهذا في التلبيس بقية.
النهي عن الإنفراد :
وقد جاء النهي عن الإنفراد الموجب للبعد عن العلم والجهاد للعدو أخبرنا .. قال : " خرجنا مع رسول الله في سرية من سراياه قال فمر رجل بغار فيه شيء من ماء قال فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه وفيه شيء من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا ثم قال لو أني أتيت نبي الله فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل فأتاه فقال
: يا نبي الله اني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى عن الدنيا قال فقال نبي الله اني لن أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة ."
التعليق :
كعادته تجاهل الرد بالقرآن الكريم الذى يكفر به . الآيات القرآنية تخاطب في تشريعاتها المؤمنين مجموعة متماسكة ، لا يعتزل فيها فريق عن البقية ، ويجعل إعتزاله دينا . نكتفى بقوله جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(103) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(104) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(105)آل عمران ). قوله جل وعلا ( ولتكن منكم ) ( من ) هنا ليست تبعيضية ، بل بيانية ، تتحدث عن الجميع طبقا للسياق في الآيات ، ويؤكد ذلك التواصى بالحق وبالصبر في سورة العصر : ( وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)).
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في التخشع ومطأطأة الرأس وإقامة الناموس
قال المصنف رحمه الله :
إذا سكن الخوف القلب أوجب خشوع الظاهر ولا يملك صاحبه دفعه فتراه مطرقا متأدبا متذللا وقد كانوا يجتهدون في ستر ما يظهر منهم من ذلك وكان محمد بن سيرين يضحك بالنهار ويبكي بالليل ولسنا نأمر العالم بالانبساط بين العوام فإن ذلك يؤذيهم .. وإنما المذموم تكلف التخشع والتباكي ومطأطأة الرأس ليرى الإنسان بعين الزهد والتهيؤ للمصافحة وتقبيل اليد قال المصنف رحمه الله
قلت وقد كان السلف يسترون أحوالهم ويتصنعون بترك التصنع .
التعليق
الأساس هنا أن الأديان الأرضية مؤسّسة على الشقاق والخلاف والتفرّق ، ومع ذلك يجمعها أن كلها تدين سطحى وإحتراف دينى ، وتسابق في الشهرة والرياء .
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ترك النكاح
قال المصنف النكاح مع خوف العنت واجب ومن غير خوف العنت سنة مؤكدة عند جمهور الفقهاء ومذهب أبي حنيفة واحمد ابن حنبل انه حينئذ أفضل من جميع النوافل لأنه سبب في وجود الولد قال عليه الصلاة والسلام تناكحوا تناسلوا وقال رسول الله " النكاح من سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني " أخبرنا ... عن أنس بن مالك أن نفرا من أصحاب رسول الله سألوا أزواج النبي عليه السلام عن عمله في السر فأخبروهم فقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا أنام الليل على فراش وقال بعضهم أصوم ولا أفطر فحمد الله النبي عليه الصلاة والسلام وأثنى عليه ثم قال ما بال أقوم قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ." قال ابن سعد .. قال ابن عباس رضي الله عنه إن خير هذه الأمة كان أكثرها نساء . قال ابن سعد .. قال شداد بن أوس زوجوني فإن رسول الله أوصاني أن لا ألقى الله عزبا . وأخبرنا .. قال دخل على رسول الله رجل يقال له عكاف بن بشر التميمي الهلالي فقال له النبي :" يا عكاف هل لك من زوجة قال لا قال ولا جارية قال لا قال وأنت موسر بخير قال وأنا موسر قال أنت إذا من إخوان الشياطين لو كنت من النصارى لكنت من رهبانهم إن سنتنا النكاح شراركم عزابكم وأراذل موتاكم عزابكم فما للشياطين من سلاح أبلغ في الصالحين من ترك النساء ." أخبرنا .. عن أبي هريرة قال لعن رسول الله مخنثي الرجال الذين يتشبهون بالنساء والمترجلات من النساء المتشبهات بالرجال والمتبتلين من الرجال الذين يقولون لا نتزوج والمتبتلات من النساء اللاتي يقلن ذلك . أخبرنا .. احمد بن حنبل يقول ليس العزوبة من أمر الإسلام في شيء النبي عليه الصلاة والسلام تزوج أربع عشرة امرأة ومات عن تسع
نقد مسالك الصوفية في تركهم النكاح :
وقد لبس إبليس على كثير من الصوفية فمنعهم من النكاح فقدماؤهم تركوا ذلك تشاغلا بالتعبد ورأوا النكاح شاغلا عن طاعة الله عز وجل وهؤلاء وإن كانت بهم حاجة إلى النكاح أو بهم نوع تشوق اليه فقد خاطروا بأبدانهم وأديانهم وان لم يكن بهم حاجة اليه فأتتهم الفضيلة وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله Aأنه قال وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر قالوا نعم قال وكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ثم قال أفتحتسبون الشر ولا تحتسبون الخير.
ومنهم من قال النكاح يوجب النفقة والكسب صعب وهذه حجة للترفه عن تعب الكسب . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي انه قال دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار أنفقته في الصدقة ودينار أنفقته على عيالك أفضلها الدينار الذي أنفقته على عيالك .
ومنهم من قال النكاح يوجب الميل إلى الدنيا .. قال المصنف رحمه الله قلت وهذا كله مخالف للشرع .. وكيف لا يتزوج وصاحب الشرع يقول تناكحوا تناسلوا فما أرى هذه الأوضاع الا على خلاف الشرع فأما جماعة من متأخري الصوفية فانهم تركوا النكاح ليقال زاهد والعوام تعظم الصوفي اذا لم تكن له زوجة فيقولون ما عرف امرأة قط فهذه رهبانية تخالف شرعنا .. واعلم انه اذا دام ترك النكاح على شبان الصوفية أخرجهم إلى ثلاثة أنواع :
النوع الأول المرض بحبس الماء فان المرء إذا طال احتقانه تصاعد إلى الدماغ منه منيه قال أبو بكر محمد بن زكريا الرازي أعرف قوما كانوا كثيري المنى فلما منعوا أنفسهم من الجماع لضرب من التفلسف بردت أبدانهم وعسرت حركاتهم ووقعت عليهم الكآبة بلا سبب وعرضت لهم أعراض الماليخوليا وقلت شهواتهم وهضمهم قال ورأيت رجلا ترك الجماع ففقد شهوة الطعام وصار أن أكل القليل لم يستمره وتقايأه فلما عاد إلى عادته من الجماع سكنت عنه هذه الأعراض سريعا .
النوع الثاني : الفرار إلى المتروك فان منهم خلقا كثيرا صابروا على ترك الجماع فاجتمع الماء فأقلقوا ..فلامسوا النساء ولابسوا من الدنيا أضعاف ما فروا منه فكانوا كمن أطال الجوع ثم أكل ما ترك في زمن الصبر .
النوع الثالث : الإنحراف إلى صحبة الصبيان فان قوما منهم أيسوا أنفسهم من النكاح فأقلقهم ما اجتمع عندهم فصاروا يرتاحون إلى صحبة المرد .
فصل وقد لبس على قوم منهم تزوجوا وقالوا انا لا ننكح شهوة فان أرادوا أن الأغلب في طلب النكاح إرادة السنة جاز وان زعموا انه لا شهوة لهم في نفس النكاح فمحال ظاهر .
فصل :
وقد حمل الجهل أقواما فجبّوا أنفسهم ( أي قطعوا عضوهم الذكرى )وزعموا انهم فعلوا ذلك حياء من الله تعالى وهذه غاية الحماقة لأن الله تعالى شرف الذكر على الأنثى بهذه الآلة وخلفها لتكون سببا للتناسل . والذي يجُبُّ نفسه يقول بلسان الحال الصواب ضد هذا.
ثم قطعهم الآلة لا تزيل شهوة النكاح من النفس فما حصل لهم مقصودهم
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ترك طلب الأولاد
أخبرنا.. قال سمعت أبا سليمان الداراني يقول الذي يريد الولد أحمق لا للدنيا ولا للآخرة ان أراد أن يأكل أو ينام أو يجامع نغص عليه وان أراد أن يتعبد شغله .
قال المصنف رحمه الله قلت وهذا غلط عظيم وبيانه انه لما كان مراد الله تعالى من إيجاد الدنيا إتصال دوامها إلى ان ينقضي أجلها وكان الآدمي غير ممتد البقاء فيها إلا إلى أمد يسير أخلف الله تعالى منه مثله فحثه على سببه في ذلك تارة من حيث الطبع بايقاد نار الشهوة وتارة من باب الشرع .
التعليق
بغض النظر عن الكثير من ثرثرته ـ وحذفنا منها الكثير ـ فإن إبن الجوزى يعطى حقائق تاريخية عن صوفية عصر ـ مسكوتا عنها .
شاهد قناة ( أهل القرآن / أحمد صبحى منصور )