تحويل الأفكار إلى واقع
الأفكار لا تكفي وحدها

د.محمد العودات في الجمعة ١٢ - سبتمبر - ٢٠٢٥ ١٢:٠٠ صباحاً

 

لقد بينّا أن النموذج القرآني – القائم على الوقف والتكافل – يقدم بديلًا حقيقيًا عن الأنظمة الضريبية الحديثة التي تستنزف دخل المواطن وتضعفه أمام مصاريف العلاج والتقاضي، بل وتتركه أسيرًا لعجز الدولة المدنية عن حماية أبسط حقوقه. لكن تبقى هذه الرؤية – مهما كانت نقية وواضحة – حبرًا على ورق إذا لم تجد من يحملها ويحوّلها إلى مؤسسات قائمة ومشاريع ملموسة.

لقد رأينا في التاريخ كيف أن أفكار بعض القادة لم تكن لتترجم إلى سياسات مؤثرة لولا وجود دوائر ومؤسسات وجماعات تبنّت تلك الرؤى، ونقلتها من عالم التنظير إلى أرض الواقع.
 
ومن الأمثلة البارزة على ذلك كتاب بنيامين نتنياهو:
A Place Among the Nations: Israel and the World (مكان بين الأمم: إسرائيل والعالم).
مؤلف الكتاب هو بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل في فترات متعددة ابتداءً من عام 1996. ومن المعلوم أن نتنياهو ينتمي إلى التيار اليميني المتشدد، ويُعدّ وريثًا سياسيًا لخط كل من إسحاق شامير وأريئيل شارون.
 
في هذا الكتاب يبرز نتنياهو فكرة أن أمن إسرائيل يجب أن يكون الركيزة الأولى لأي سياسة، حيث يركز على التهديدات الإقليمية المحيطة، ويرفض تقديم التنازلات التي قد تُعرّض الدولة للخطر. كما يشدد على أهمية بناء علاقات دولية قوية لضمان الاستمرار والبقاء. غير أن ما يجعل الكتاب ذا دلالة تاريخية ليس ما كُتب فيه فقط، بل كيفية تحوله إلى واقع عملي، إذ لم يكن ليجد طريقه إلى التنفيذ لولا وجود من تبنّى تلك الرؤى وسعى إلى ترجمتها. فقد انعكست أفكار نتنياهو بوضوح في السياسات الإسرائيلية تجاه الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي المواجهة مع حركة حماس والنظام السوري بقيادة بشار الأسد، حيث سعى لترسيخ ما طرحه بأن البديل عن الحسم سيكون الإرهاب. وهنا يبرز دور شخصيات صنيعة للأنظمة، مثل أحمد الشرع الذي ارتبط اسمه بالأجهزة الأمنية السورية، وكان جنديًا في منظومة النظام تلقى تدريباته في معسكرات "الفوج 101" التابعة للحرس الجمهوري.
 
وبذلك يتضح أن كتاب نتنياهو لم يكن مجرد تنظير سياسي، بل وثيقة وجدت من يحملها إلى التطبيق العملي، لتصبح مثالًا على أن الأفكار وحدها لا تكفي مهما كانت قوتها النظرية، بل تحتاج دائمًا إلى من يؤمن بها ويعمل على تنفيذها في الواقع.
 
 
وكذلك الحال مع مدرسة احمد صبحي منصور: لا يكفي أن نتحدث عنها في كتب أو مقالات، بل لا بد من إيجاد شركاء واعين يساهمون في تأسيس كيانات مستقلة، تعيد إحياء المجتمع و  تمويل التعليم والصحة والبنية التحتية.
 
إن دعوة "أهل القرآن" لإنشاء كيان قانوني علني – سواء كان جمعية، أو رابطة، أو وقفًا – ليست مجرد تنظير فكري، بل هي محاولة لإيجاد وعاء عملي يضمن استمرارية الفكرة، ويحميها من الاضمحلال. فهذا المشروع لن ينجح بجهد فردي معزول، وإنما بعمل جماعي منظم يتبناه أفراد يؤمنون بالعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية كقيمة عليا.
 
وهنا تكمن دعوتي إليكم: إن المشروع بين أيدينا اليوم ليس مجرد فكرة إصلاحية أو تنظير مثالي، بل فرصة حقيقية تحتاج إلى من يؤمن بها ويشارك في تطبيقها. تمامًا كما لم يكن لأي كتاب أو فكر سياسي أن يُغيّر وجه التاريخ لولا وجود من تبنّاه، فإن نموذج اهل القرآن لن يُحدث الفرق ما لم يجد شركاء أوفياء يحملون همّه ويحوّلون رؤيته إلى مؤسسات حية تخدم المجتمع.
 
الخلاصة: لو اكتفى المسلمون عبر التاريخ بمجرد الوعظ والكلام النظري دون تأسيس أوقاف ومدارس ومستشفيات، هل كان للوقف أن يصبح قوة اقتصادية واجتماعية صنعت حضارة كاملة؟ كذلك اليوم، إن لم ننهض جميعًا بشراكة واعية، سيظل المشروع مجرد فكرة عابرة في كتاب أو مقال.
اجمالي القراءات 144