مشاهد و تأملات .
رحلة إلى إيران ..

سعيد علي في السبت ١٩ - يوليو - ٢٠٢٥ ١٢:٠٠ صباحاً

رحلة إلى إيران ..
مقدمة : رحلة إلى إيران هي مجرد مشاهدات لزيارتي قبل سنة و تحديدا في شهر مايو ٢٠٢٤ لهذا البلد الجميل .. أُسجل فيه ما لمسته بيدي و شاهدته بعيني و سمعته بأذني .. و تبقى المشاهد وصفها و تحليلها ناقصة و غير مكتملة عطفا على خلفية الكاتب الثقافية و على عدم اطلاعه على كامل المشهد الإيراني الكبير .
ما قبل الرحلة : تعرضت لعملية نصب و احتيال من شخص ( ليس إيرانيا ) و لكنه مقيم بايران و متزوج من إيرانية فقررت مقاضاته بايران و من هنا بدأت فكرة الرحلة .. كانت لدي قناعة حول محتوى الإعلام العربي عندما يتناول قضية معينة و هي أنه لا يُظهر الصورة الكاملة و أحيانا يشوهها عمدا و بالتالي تتولد لدى المشاهد العربي صورة غير حقيقية و ربما مشوهه عمداً ! و القاري المنصف عندما يبحث في مسالة ما عليه أن يبحث في الاتجاهين ما استطاع إلى ذلك سبيلا ليقترب من الحقيقة و من أسف أن قناعاتنا تنشأ من تلك الصورة الغير حقيقية التي من أسف ( كانت ) هي مصادر و منابع تكون أفكارنا و ثقافاتنا و لذا وقعنا في التعميم و أخطأنا في عدم التحليل و احكام العقل في المحتوى الذي من أسف لم يكن هناك ما يضاده و هذا واحداً من معضلات العقل العربي !
كانت الصورة النمطية في الإعلام العربي عن إيران و ربما في الإعلام الغربي المعادي لايران أنك سنذهب لدولة دينية يكسوها السواد .. لا حرية للمرأة.. إلى آخره عزز ذلك لدى المخيلة العربية مظاهر المناسبات الدينية في إيران و ما يصاحبها من ممارسات مذهبية و ثقافة الحزن لدى المتشيع متناسين أن الإنسان الإيراني جذوره ضاربة في أعماق حضارة قديمة ٧٠٠٠ ق . م .. وفي فترات لاحقة من التاريخ وحد ( الميديون ) هذه البقعة الجغرافية ٦٢٥ ق . م ثم جاء قورش الكبير ليؤسس قوة عظيمة عام ٣٣٠ ق . م هذا التاريخ و تلك الحضارة موجودة في هذا الإنسان الذي يحب الحياة و الفرح و البهجة و يحاول جاهدا القفز متجاوزا الحواجز الأسمنتية القاسية التي فرضها المذهب الشيعي الذي غيّر من طبيعة الإنسان الإيراني و البسه رداءاً ليس بردائه و حاول اعادة رسم تجاعيد وجهه التي كانت طبيعية إلى حزينة شاحبة !
في الطائرة من مطار مسقط إلى مطار شيراز الرحلة لم تتجاوز الساعة ! المسافة أقصر من مسقط إلى صلالة ! كنت طوال الرحلة القصيرة أتخيل مشاهد السواد و الحزن مع استحضار ممارسات التطبير و أشكال الضرب على الصدور و شج الرؤوس و نزف الدماء !! وصلت مطار شيراز .. لاحظت نياشين الأمن عبارة ( خياطة بالبدلة العسكرية ! و ليس نيشانا مستقلا عنها !! ) قلت لعله توفيرا لميزانية الأمن و هي فكرة صائبة ربما .. لم يتم ختم الجواز وتم الاكتفاء بتسجيل البيانات آليا ! و عندما سألت لماذا لا يتم ختم الجواز فقيل لي حتى لا تتعرض لأي اشكالية عندما تسافر لأي دولة أخرى لا سيما إذا كانت الدولة معادية لايران .. مطار شيراز صغير و ما ان تهبط من الطائرة ما هي إلا أمتار قليلة تجد نفسك خارجه !! إجراءات الدخول سهلة و بسيطة و ميسرة و لا أحد يسألك لماذا قدمت لايران .. استقليت السيارة ( مرشد سياحي يتقن العربية و محب لعمان لدرجة وجود علم عمان بسيارته و شعارها ( الخنجر العماني ) .
ايران تقع في الضفة المقابلة للخليج ( الفارسي / العربي ) و هي بقعة جغرافيا مترامية الأطراف تبلغ مساحتها ١٦٥٠٠٠٠ كم٢ و يبلغ تعداد سكانها حوالي ٩٢٤٠٠٠٠٠ نسمة في الطريق للفندق تلمس أول مظاهر اللانظام ! حيث لا التزام بالقواعد المرورية !! لا توجد شرطة مرور !! الطرق جيدة و نظيفة بدرجة مقبولة .. السيارات الصغيرة جُلها لونها أبيض و أغلبها بيجو الفرنسية لا سيما موديل ٤٠٥ لكنها صناعة إيرانية أو تجميع إيراني .. بالطبع هناك سيارات أخرى صناعة إيرانية كذلك لكن الملاحظ و الطاغي هو البيجو و هي السيارة الشعبية الأولى في ايران .. نادرا ما تشاهد تويوتا أو نيسان أو هوندا مثلا .. توقفنا لتعبئة البنزين .. البنزين رخيص للغاية في إيران و أرخص بكثير من عمان و دول الخليج المصدرة للبترول فمثلا قام السائق بتعبئة سيارته البيجو ٤٠٥ بما يعادل ٤ دولارات أميركية و نفس تلك الكمية في عمان مثلا ب ٣٠ دولارا ( تقريبا ) .. وصلت للفندق .. من الوهلة الأولى الفندق جميل و نظيف .. استقبال لطيف .. و الأسعار ممتازة مع وجبة افطار ( بوفيه مفتوح ) و لكن لا توجد شبكة إنترنت !! و هنا تبدأ المعاناة في توفير شبكة إنترنت و إذا ما اشتريت شريحة جوال عليك بتنزيل برنامج VPN و إلا لن تستطيع فتح اليوتيوب مثلا .. الإنترنت عموما رخيص لكن لا يخلو الأمر من تنقيص كبير في الحصول على الشبكة نفسها و فتح بعض البرامج .. بمعنى هناك معاناة حقيقية في استعمال الإنترنت و توجد أماكن شاسعة لا تصل الشبكة ناهيك عن مراجعتك المعتادة لمحلات الهواتف من أجل شراء برنامج VPN ! لا يمكنك استخدام بطاقتك البنكية !! و العملة الإيرانية متقلبة ! و هذه معاناة حقيقية .. الشائع و الغالب عدم استخدام النقد الورقي حيث يتم استخدام البطاقة البنكية المحلية فالكل يستخدم البطاقة البنكية و هذا تقدم جيد في المعاملات المالية حيث يتم الاستغناء عن العملة الورقية و ما يصاحبها من اخطار و الاستعاضة عنها بالبطاقة البنكية و بالتالي تسهيل عملية الشراء و البيع و التخلص من مشاكل النقد .. المواطن الإيراني اصبح لزاما عليه تعلم استخدام البطاقات البنكية حتى لو كان بائعا للتين في أعالي الجبال أو راعيا للأغنام في السهول و الهضاب .. تنتشر في شوارع المدن الإيرانية ( المقاهي الحديثة ) و هي دخيلة على الثقافة الإيرانية .. يحدثني صديقي الإيراني فيقول : لم نكن نعرف الايسبربسو إلا من وقت قصير .. قدمت لعمي قهوة اسبريسو و هو الذي قضى عمره بين حقول الأرز و القمح مزارعا و مازال رغم عمره الذي ناهز التسعين فلم يستسغها و رفض شربها !! تعّود على شرب الشاي الأحمر بالزعفران .. و الزعفران نبات ذو أوراق بنفسجية يحتاج لعناية و رعاية خاصة و ينمو بكثرة في إيران و يدخل في جُل مأكولاتهم و مشروباتهم كالشاي و الأرز و الحلويات و العصائر.
في يوم ١٩ مايو ٢٠٢٤ كنت في حديقة جميلة بشيراز مر بجانبي مواطن إيراني رث الملابس يتمتم بكلمات ساخطة على الرئيس إبراهيم رئيسي بعد انتشار خبر مقتله برفقة عدد من الشخصيات الإيرانية منها حسين أمير عبد اللهيان وزير الخارجية و مالك رحمتي محافظ أذربيجان الشرقية و سيد موسى موسوي قائد وحدة حماية إبراهيم رئيسي .. هذا المواطن الإيراني الفقير المريض نفسيا صرخ قائلا : ظالم ظالم .. رئيسي ظالم .. فكانت مناسبة عابرة نتحدث فيها عن لماذا إيران منبوذة عالميا ؟ لماذا كل هذا الحصار على ايران ؟ لماذا تتدخل ايران في جنوب لبنان و اليمن و العراق و سوريا - قبل سقوط بشار الاسد - و لماذا نمط التدخل يكون حربا و دمارا ؟ لماذا هذا الخط الدموي الإيراني ؟ لماذا الاتجاه إلى صنع قنابل نووية و صواريخ باليستية ؟ لماذا عندما جاء الخوميني عام ١٩٧٩ حول المنطقة من منطقة - دول الخليج - آمنة و دولا تسعى للتنمية و إسعاد شعوبها و توفير الخدمات الضرورية و مواكبة التقدم و نشر العلم من خلال بناء المدارس و الجامعات و الاهتمام بالبنية الأساسية كالطرق و المواني و المطارات و المستشفيات فنحن نتحدث عن دولاً عاشت قرونا من التخلف و المرض و الحروب الاهلية و جُلها ( عمان و الإمارات و قطر و البحرين لم يمض على نهضتها سوى ٩ سنوات ) و حتى العراق و الكويت و السعودية في بدايات النهضة و انظر تاثير عودة الخوميني على هذه البقعة الجغرافية و كم من المليارات صرفت تحت بنود ( حرب الخليج الأولى ) .. محاربة فكرة تصدير الثورة الإيرانية و هو ما أدى إلى بعث الحنبلية المتشددة من جديد و ظهور ما يسمى بالصحوة و جماعة التبليغ مع انتشار فكر الإخوان لا سيما في الكويت و الإمارات و قطر و البحرين و بشكل سري في عمان إلى تم كشفهم و الإعلان عن ذلك رسميا عام ١٩٩٦ .. كانت صدفة أن يمر من أمامي ذلك المقهور لتقفز إلى عقلي كل تلك المآسي بسبب البعد عن القران الكريم ! ماذا لو لم تقم تلك الثورة بتلك الشعارات الدينية ! كم من الملايين قضوا في الحرب العراقية الإيرانية و لماذا ؟ يحدثني صديقي الإيراني عن مشهد مؤلم شاهده أثناء الحرب العراقية الإيرانية و هو عملية إعدام بشعة لجندي إيراني في العراق حيث يتم ربط ساقي الجندي بشاحنتين عسكريتين ثم تتحرك الشاحنتين ! يقول صديقي : كان الأولى نحن الإيرانيين أن نعزي هذا الجندي البطل لا أن نقيم العزاء لال البيت .
نكتفي بهذا القدر عن الرحلة الجميلة لايران .. فايران الجميلة بشعبها المسالم الذي شوهه الإعلام عطفا على توجهه حكومته .. الشعب الإيراني شعب سُرقت منه حضارته و بُدلت شخصيته و لكن جذوره لم تيبس و مازالت قطرات ندى حافظ الشيرازي تشق التربة لتصل للجذور فتنمو ساق جميلة و أوراق جميلة كأوراق الزعفران .