على شفا جبل شاهق، في غابة منسية، تدحرج طفل من ذرى الحياة إلى حضيض المجهول، إذ زلت قدمه عن والديه، وكان في عامه الخامس، لا يدري من الدهر إلا لهوه، ولا من العالم إلا دفء كف أمه.
تدحرج الصغير حتى ألقى به القدر فوق غصن نافر من شجرة عتيقة، وفقد وعيه، فشهقت الطبيعة، وهمست الرياح :
(لقد سقط إنسان).
تقدمت نحوه زمرة من القردة، فوجدوا في حضن الشجر بشرياً صغيراً، لا يُدرى أهو طيف غاز، أم زائر سقط من السماء صدفة.
حملوه بخفة الغريزة، ومضوا به إلى مخبأهم في كهف بين الجبال، هناك حيث لا يصل الصدى، ولا يجرؤ ظل على الإقتراب.
وسرعان ما جاءت فرق البحث تفتش عن الغائب، ولكن عبثاً حاولت .. فلا أثر، ولا خبر، فظن الناس أن وحشاً قد افترسه، أو أن الجبل قد طواه، وغاب اسمه في زوايا النسيان.
مرت السنون كأحلام تنام على رموش الليل، فعاش الصغير بين الحيوانات، يتعلم لغاتهم، ويحفظ قوانينهم، ويرتقي بفكره فوق أعشاش العقول.
كان منهم، لكنه ليس منهم ... فالعقل إنساني، ولو وضع في قفص الوحوش.
عشرة أعوام خلت، صار فيها (الشاب الضال) حكيم الغابة، وفيلسوف الوحوش، وملهم المفترسات، حتى قرروا أن ينصبوه واحداً منهم، له ما لهم، وعليه ما عليهم.
وفي حفل تنصيبه، دارت بينه، وبينهم حكاية تروى :
قال النمر :
يا ابن الإنسان، قررنا أن تكون لك حصة من فرائسنا، تأكل مما نأكل، وتشرب من دمائنا.
الشاب الضال :
ويحَكُم،، كيف آكل لحم من صحبت قبيلته، وعاشرت عشيرته، إن في فطرتي رحمة لا تعرفها أنيابكم.
رد الذئب :
عن أي رحمة تتحدث، لسنا مفترسين عبثاً، نحن إن لم نأكل اللحوم، هزل الجسد، وانكسرت العظام، وماتت الحياة.
الشاب الضال :
لكنكم تفترسون حتى في غير الجوع، تقتلون إن استغنيتم، وتنهشون إن شبعتم.
رد الفهد :
ما نحن بقتلة إلا لضرورة، حتى نعيش، فلا نقتل طيشاً، ولا نخون خلقاً.
الشاب الضال :
فلمَ لا تصيرون كالبشر، تنوعون أرزاقكم، وتأكلون من النبات، واللحم سواء.
رد الأسد :
لسنا كأبناء جنسك، أنتم تموتون من التخمة، ونحن نقتل بسبب الجوع .. خلقنا مفترسين، لكن بقانون.
فلا نقتل إلا بحساب، ومن تجاوز القانون، حكم عليه بالموت أو النفي.
أما أنتم (بني البشر) فما أكثر احتلالكم، وما أشد غزوكم، تذبحون بلا سبب، وتطلقون الرصاص على من لا يملك إلا الزئير، ولم يسلم منكم حتى المفترس.
الشاب الضال (مفكراً):
يبدو أن العدو في الأرض ليس سواي من البشر.
رد الضبع :
أجل، لم نعرف الظلم إلا منكم .. فأنتم البشر جميعاً، بلا استثناء (قتلة).
الشاب الضال :
فما العمل، وأين المفر من دمي.
رد الأسد :
لا تشغل فكرك، فأنت لك مكان بيننا، على مائدة لا نعلم إن كنا سنلقاها غداً أم لا .. أما بنو الإنسان، فهم بلا قانون، وإن وُجِد القانون .. تحايلوا عليه، فلا أمان في قربهم، ولا وفاء في جوعهم.
وهكذا .. عاش (الشاب الضال) الذي صار كالحيوان، قلبه صاف للوحوش، لكنه اشتد قسوة على إخوته من البشر.
وفي ذات يوم، شاءت الأقدار أن تنزل (أمه) إلى الغابة، فقلبها يحدثها أنها يوماً ستجد (ابنها الضال)، حتى التقيا مصادفة، عرفها من ملامح خبأها الزمن، وعرفته من وجه نسجته الذكرى.
ودار بينهما هذا الحديث الرفيع، كأنه نسج من ألياف التناقض، يجمع بين رقة العاطفة، وقسوة الحقيقة، يتأرجح بين رحمة تداوي، وجراح تعيد فتح الذاكرة.
كان صراعاً بين الكلمة، والسكينة، بين الحنان الذي يلامس القلب، والشدة التي توقظ الضمير ..
الأم (بدموع متدفقة) :
سبحان من جمعنا .. أنت ولدي، نعم أنت.
الشاب الضال :
وأنا ما نسيتك، لكني بت أخشاكِ.
الأم : أحقاً تخشى أمك.
الشاب الضال :
بل أخشى جنسكِ، فإنكم جميعاً قتلة.
الأم :
وكيف ذاك، ومن قتلنا.
الشاب الضال :
قتلتم البراءة في الغابات، وأهدرتم دماء الأبرياء، ليس طمعاً في القوت، بل طمعاً في القوة.
الأم :
(لا تزر وازرة وزر أخرى)، ليس كل البشر سواء.
الشاب الضال :
بل أنتم سواء، حتى أنتِ يا أمي .. ألم أضِع منكما يوم جئتما للصيد، من يحمل في قلبه نية القتل، لا تُغتفر خطاياه.
الأم :
أترفض العودة إلى من حملتك في رحمها، وأرضعتك.
الشاب الضال :
لا عودة .. لا دفء في حضن القتلة.
الأم :
لمَ يا ولدي.
الشاب الضال :
لأنكم جميعاً .. قتلة.
ورحل الشاب إلى عمق الغابة، حيث وجد :
في الوحوش قلباً.
وفي الطبيعة صدقاً.
وفي القانون عدلاً.
بينما تخلى عن بشر فقدوا كل هذا، وأبقوا على القسوة وحدها.
قصة : شادي طلعت
#شادي_طلعت
#جميعكم_قاتلون_قصة_قصيرة