عندما انتقد الرئيس تبون ما أسماه بـ"الفلكلور الإعلامي"، داعيًا الحكومة إلى التركيز على العمل الميداني الصارم والتكفل الفعلي بالانشغالات الحقيقية للمواطنين، شعرت بأن كلماته قد لامست وترًا حساسًا في وعي كل مواطن غيور على هذا الوطن. فالوزير، في مفهومي، هو منصب سياسي بامتياز؛ أي أن السياسي هو من يضع السياسات العامة، ويرسم الاستراتيجيات، ويبتكر الحلول للمشاكل التي تؤرق المواطن.
لكن، صراحة، أندد بشدة عندما أرى وزيرًا يختزل دوره في التقاط صور "سيلفي" هنا وهناك. منصب الوزير، في رأيي، هو منصب صعب، معقد جدًا، ويحمل مسؤولية جسيمة أمام الله والوطن والشعب. المواطن يتوق لأن يرى الوزير "يعرق، يتعب، مهموم، يتمرمد" وهو يسعى جاهدًا لحل مشاكل المواطنين. للأسف، ما أراه غالبًا هو وزير يتنعم في الصالونات الفخمة، يلتقط "سيلفي" في مكتبه الأنيق، ويُستقبل بمآدب العشاء في كل ولاية يزورها.
يا معالي الوزير، يجب عليك أن تفهم شخصية المواطن الجزائري وطبيعته. أحيانًا، تصرف بسيط منك – "سيلفي" مثلاً – يمكن أن يستفز المواطن أيما استفزاز، لأنه يراه دليلاً على عدم جديتك أو اكتراثك بمعاناته. المطلوب منك هو الإبداع في إيجاد الحلول لمختلف المشاكل العالقة. لا يُعقل أن ينتقل الوزير من ولاية إلى أخرى، وبعد الزيارة أجد في حساب الوزارة على فيسبوك أكثر من أربعين "سيلفي"! صورة أو اثنتان توثق الحدث تكفي، فهذه ليست حفلة زفاف!
ولعل ما يفسر التهافت الملحوظ، أو الطموح الجامح لدى شريحة واسعة من المواطنين، ويا للأسف، لشغل منصب الوزير أو حتى الوزير الأول، هو تلك الصورة النمطية التي ارتسمت في الأذهان. صورةٌ تُظهِر مهامًا تبدو في ظاهرها بسيطة ومقتصرة على جوانب بروتوكولية بحتة: كإلقاء التحايا، والنزول المهيب من سلم الطائرة، ومصافحة المسؤولين المحليين، والتقاط صور "السيلفي" في المكاتب الفخمة، أو القيام بجولات تفقدية شكلية عبر الولايات، دون إدراك لثقل الأمانة وعمق المسؤولية الحقيقية."
المضمون هو الأهم: لماذا انتقلت أيها الوزير لتلك الولاية؟ ما هي الحلول التي قدمتها للمشاكل التي يعاني منها السكان؟ ما هي الإضافة الحقيقية التي قدمتها للولاية؟
لنفترض أن الوزير يكلف خزينة الدولة مليار سنتيم شهريًا. السؤال المطروح: ما الذي قدمه هذا الوزير للدولة؟ هل يجلب فائدة تفوق المليار سنتيم الذي يُصرف عليه؟ الجزائر اليوم متجهة نحو سياسات معينة – الرقمنة مثالاً – ويجب على كل وزير أن يتأقلم مع سياسة الدولة ويعمل على تنفيذها بكل كفاءة واقتدار. عندما يعطي الرئيس تعليمة لوزير التربية والتعليم مثلاً، لا يجب على وزير التكوين المهني أن يقول إن لا علاقة تربطه بقطاع التربية والتعليم أو إن التعليمة لا تعنيه. التكامل الوزاري ضرورة حتمية.
المشكلة أن بعض الوزراء، للأسف، إما أنهم غير قادرين على فهم ما يجب عليهم القيام به، أو يتعللون بنقص الإمكانيات لعدم قدرتهم على العمل. وهنا أتساءل: هل الدماغ والقدرة على التفكير إمكانية أم لا؟ أليس اسمك كـ"وزير" بحد ذاته إمكانية هائلة؟ بمجرد أن يُمنح الشخص صفة "وزير"، فقد مُنح إمكانية كبيرة، وأصبحت كل حركة يقوم بها تحت الأضواء، ويمكنه استغلال هذا الاهتمام لخدمة الصالح العام.
حتى لو افترضنا أن الحكومة لم تمنح الإمكانيات الكافية للوزير، ففي هذه الحالة يجب عليه أن يبدع ويفكر خارج الصندوق. أتذكر جيدًا والدي رحمة الله عليه، عندما عُيّن سنة 1996 مديرًا لمستشفى في إحدى ولايات الصحراء. كان السكان هناك يشربون مياهًا غير عذبة، مائلة للملوحة. وبسبب الظروف الأمنية الصعبة التي كانت تمر بها البلاد آنذاك – الإرهاب وانخفاض سعر برميل البترول – كانت الميزانيات شحيحة. والدي رحمه الله لم يقف مكتوف اليدين، بل بادر وربط علاقات مع مؤسسة ألمانية تعمل في استخراج الغاز الطبيعي، وتمكن بفضل الله ثم بجهده من إقناعهم بالتبرع بآلة ألمانية الصنع لتحلية مياه الجوفية. هذا العمل أنهى معاناة المرضى وقسم كبير من السكان، رغم عدم امتلاك الإمكانيات الرسمية.
ولنفرض جدلاً أن الوزير لا يملك مكتبًا ولا إدارة تساعده، فبرغم هذا، هو قادر على عمل المعجزات إن كان يمتلك عقلاً مفكرًا، عقلاً قادرًا على الإبداع. انظروا إلى رحلة دكتورنا الفاضل أحمد صبحي منصور، فبرغم قلة الإمكانيات أو انعدامها، ورغم كيد ومكر الأعداء من أساتذة وشيوخ وحتى جهات أخرى، تمكن الدكتور أحمد من النجاح وعمل ما يشبه المعجزات من خلال موقع إلكتروني وقناة على يوتيوب، ونشر العديد من الكتب والمقالات.
يجب على الوزير أن يخلق وسائله الخاصة للعمل، وهذا هو الإبداع الحقيقي، وهذا هو رجل الدولة الذي يتأقلم في كل الأمكنة ويظل قادرًا على العطاء تحت كل الظروف.
آن الأوان لتغيير هذه الصورة، ولنرَ وزراء بحجم التحديات التي تواجه الجزائر، وزراء يبدعون، يبتكرون، ويضعون مصلحة المواطن فوق كل اعتبار، بعيدًا عن "الفلكلور الإعلامي" الذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع.