حوار الهوية أم فخ البلبلة؟ قراءة في دعوات مناقشة بلغيث

عادل بن احمد في الأحد ٠٤ - مايو - ٢٠٢٥ ١٢:٠٠ صباحاً

في تطور لافت لقضية التصريحات المثيرة للجدل للباحث محمد الأمين بلغيث، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً تعليقات لمواطنين تساند الطرح الراديكالي، بل وتطالب بالعفو عنه أو، على الأقل، بفتح حوار وطني معه حول الهوية. هذه الدعوات، وإن بدت في ظاهرها منادية بالحوار والانفتاح، تثير تساؤلات عميقة حول جدواها الحقيقية والأهداف الكامنة وراءها.

 أن الهدف الحقيقي من إثارة حوار حول الهوية بهذه الطريقة – هل نحن عرب أم أمازيغ؟ – ليس البحث عن تفاهم أو إثراء للنقاش الوطني، بل هو أقرب إلى السعي لإحداث "البلبلة" وزعزعة استقرار الجبهة الداخلية. فإعادة فتح نقاش حول موضوع خلافي بهذه الحدة، خاصة عندما ينطلق من أرضية نفي مكون أصيل من مكونات الأمة، لا يمكن أن ينتج عنه، في هذا السياق، سوى المزيد من الاستقطاب والمشاكل، وتعميق الشرخ بدلاً من رأبه.

وهنا يطرح السؤال المنطقي: لماذا لا نناقش بلغيث وأمثاله إذن؟ الإجابة قد تكمن في طبيعة الطرح نفسه. فعندما يكون الموقف مبنياً ليس على أفكار قابلة للأخذ والرد والتصحيح، بل على "عقيدة" أيديولوجية راسخة ومتصلبة، يصبح الحوار شبه مستحيل أو على الأقل عديم الجدوى. فالشخص المعتنق لعقيدة إقصائية لا يدخل النقاش بنية الوصول إلى حلول وسط أو الاعتراف بخطأ محتمل؛ هو يسعى لترسيخ عقيدته وكسب الأنصار لها. الدخول في حوار رسمي أو إعلامي موسع معه لا يُتوقع أن ينتهي برفعه للراية البيضاء واعترافه بتهافت أفكاره، بل على العكس، سيمثل فرصة ثمينة له لمنحه منصة أوسع، وتوسيع دائرة تأثيره، وجلب المزيد من الأنصار لقضيته، مما سيستفز بالضرورة الطرف الآخر ويدفعه لحشد أنصاره أيضاً.

وبهذا، فإن ما قد يبدو كأزمة محدودة التأثير (لنفترض أنها في نطاق 10%)، يمكن أن يتحول بفعل "الحوار الديمقراطي" المفتوح حول قضية محسومة دستورياً ووجدانياً لدى الكثيرين، إلى أزمة واسعة النطاق (قد تصل إلى 90%)، تتحول فيها الهوية إلى قضية رأي عام متفجرة ووقود لصراعات لا تنتهي.

من هذا المنظور، قد يبدو الحل الأمثل، وإن كان غير تقليدي ديمقراطياً، هو في الاتجاه المعاكس تماماً: أي غلق باب هذا النوع من الحوار الهدام. ما اقترحه هنا هو إصدار قرار بمنع النشر أو التداول الإعلامي لهذه الأطروحات المتطرفة، ليس بهدف قمع حرية التعبير بشكل عام، بل كإجراء وقائي لمنع تحويل نقاش أكاديمي منحرف إلى فتيل لأزمة وطنية. الهدف من هذا الإجراء ليس كتم الأفواه، بل منع استخدام "الحوار" كحصان طروادة لإثارة البلبلة وزرع الفتنة وجعل مسائل محسومة قضايا خلافية مصيرية قد تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه.

قد تتخوف السلطة من اتخاذ مثل هذا القرار، حرصاً على صورتها كراعٍ للديمقراطية وحرية التعبير. لكن المفارقة هنا، أن الدول التي تضطر لإصدار قرارات منع نشر صريحة هي غالباً تلك التي تتمتع بهامش ديمقراطي فعلي، أما الأنظمة التي تسيطر بالفعل على مفاصل الإعلام بشكل شبه كامل، فليست بحاجة لإصدار مثل هذه القرارات العلنية. وبالتالي، فإن قراراً من هذا النوع قد يُقرأ، بشكل غير مباشر، كإشارة إلى وجود مساحة حقيقية للنقاش تستدعي الضبط، وليس العكس.

في النهاية، تبقى الأولوية القصوى هي حماية الوحدة الوطنية وتحصين الجبهة الداخلية من محاولات التفكيك، حتى لو تطلب ذلك أحياناً اتخاذ قرارات صعبة للحد من انتشار الخطابات التي تهدف بوضوح إلى زرع الفرقة تحت ستار النقاش الفكري.