في لحظات الحزن والفقد التي تتجاوز الحدود الجغرافية والدينية، تُصبح لفتات التعزية بين قادة وشعوب العالم تعبيراً عن المشترك الإنساني، وركيزة من ركائز الدبلوماسية التي تسعى لتقريب المسافات وتضميد الجراح. وعندما يُقدم رئيس دولة، مثل الرئيس الجزائري، تعازيه - على صفحة رئاسة الجمهورية في الفايسبوك - في شخصية دينية عالمية بارزة البابا فرنسيس، فإن هذا يُعد موقفاً بروتوكولياً وإنسانياً متوقعاً في عالم اليوم. لكن ما يتبع هذه اللفتات الرسمية على منصات التواصل الاجتماعي غالباً ما يكشف عن واقع موازٍ وأكثر تعقيداً.
-
الرحمة كأساس: يبدأ القرآن بـ "بسم الله الرحمن الرحيم"، ويصف الله نفسه بأنه "أرحم الراحمين". ويُعرّف مهمة النبي محمد بأنها رحمة للعالمين كافة، مسلمين وغير مسلمين: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الأنبياء: 107). فأين هذه الرحمة الشاملة من قسوة القلوب التي تستكثر كلمة مواساة أو ترفض مجرد لفتة إنسانية دبلوماسية؟ إن هذه التعليقات تجافي أولى صفات الله التي يتعبد بها المسلمون.
-
العدل والبر مع غير المحاربين: القرآن واضح في توجيه المسلمين نحو التعامل الحسن والقائم على العدل مع غير المسلمين الذين لم يبدأوا بالعدوان ولم يظاهروا على إخراج المسلمين من ديارهم: "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (الممتحنة: 8). "البر" كلمة جامعة تشمل كل أنواع الخير والمعاملة الحسنة، و"القسط" هو العدل. فأي بر أو قسط في لغة الشماتة والرفض القاطع لأي تعامل إنساني حتى في مناسبة حزينة؟ -
الحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن: حتى في مقام الدعوة والخلاف العقائدي، يأمر القرآن بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالأسلوب الأفضل: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل: 125). وفي التعامل مع أهل الكتاب تحديداً: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (العنكبوت: 46). فكيف يستقيم هذا مع لغة السباب والتكفير والتحقير التي تظهر في التعليقات؟ -
النهي عن سب المخالفين: يصل الحرص القرآني على تجنب الفتنة والحفاظ على حد أدنى من الاحترام المتبادل إلى حد النهي عن سب الآلهة التي يعبدها غير المسلمين، حتى لا يكون ذلك سبباً في سب الله جهلاً وعدواناً: "وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ" (الأنعام: 108). هذا التوجيه ينم عن فهم عميق للنفس البشرية ويسعى لقطع الطريق على دائرة الكراهية المفرغة، وهو ما يتناقض كلياً مع الاستخفاف والازدراء الظاهر في بعض التعليقات. -
العفو والصفح الجميل: يزخر القرآن بالدعوة إلى العفو والصفح والإعراض عن الجاهلين: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ" (الأعراف: 199)، "فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ" (الحجر: 85). هذه الروح المتسامحة، التي تدعو لتجاوز الأذى والتعالي عن الصغائر، تبدو غائبة تماماً في ردود الفعل التي تتمسك بالغلظة والرفض. -
لا إكراه في الدين وتكريم الإنسان: يقرر القرآن مبدأ "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة: 256)، ويشير إلى تكريم الله لبني آدم بشكل عام: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" (الإسراء: 70). وإن كان الإيمان شرطاً للنجاة الأخروية في المنظور الإسلامي، فإن هذا لا يلغي التعامل الإنساني القائم على الاحترام والعدل في الحياة الدنيا، ولا يبرر لغة الإهانة والتحقير.
أن روح العفو والتسامح والصفح الجميل التي تتكرر في آيات الذكر الحكيم، والدعوة إلى الرحمة التي هي صفة الله الأعظم واسم من أسمائه الحسنى، تبدو بعيدة كل البعد عن لغة الإقصاء والتكفير والتشفي التي طغت على تلك التعليقات. هذا التباين يطرح تساؤلاً عميقاً حول كيفية فهم وتطبيق هذه النصوص السامية في الواقع المعاصر، وإلى أي مدى يتم تغييب هذه المبادئ لصالح تفسيرات متشددة أو ردود فعل عاطفية تبتعد عن جوهر الرسالة الإسلامية الداعية لأن تكون رحمة للعالمين.