تضمنت وثائق الفاتيكان المسرّبة رسائل مرفقة بصكوك من رجال أعمال إيطاليين كبار وشخصيات إعلامية معروفة يطلبون فيها خدمات أو لقاءات مع البابا، وتحذيرات من الفساد وجّهها مسؤول كبير في الفاتيكان أُنيط به إصلاح ماليته.
بابا الفاتيكان وخادمه الشخصي |
إعداد عبد الإله مجيد: أعجب ما كُشف عنه خلال الفضائح التي طالت الفاتيكان أخيرًا هو سعة ما أُميط عنه اللثام. فإن سلسلة من المعلومات الضارة هزت مؤسسة الفاتيكان المعروفة بتكتمها عادة، لتوحي بأن الفاتيكان فقد السيطرة على صورته أمام الرأي العام.
وكانت متاعب الحبر الأعظم تبدت في 17 أيار/مايو بصدور كتاب "صاحب القداسة: الأوراق السرية لبنديكتوس السادس عشر"، الذي أعاد فيه الصحافي الإيطالي جيانلويجي نوزي نشر عشرات الرسائل والمذكرات والبرقيات المسرّبة، بينها العديد من داخل مكتب البابا نفسه.
ثم أعقبت ذلك إقالة رئيس بنك الفاتيكان إيتوري غوتي تديشي لأسباب، منها الاشتباه بتسليمه وثائق سرية إلى مَنْ كشفها. وأخيرًا جاء اعتقال واحد من أقرب القريبين إلى البابا، وهو خادمه الشخصي باولو غابرييل، الذي ضُبطت بحوزته وثائق حساسة. وقال ساندرو ماجستر، رئيس تحرير موقع "كييسا" (كنيسة باللغة الإيطالية)، "إن كل شيء انكشف بطريقة عنيفة للغاية من حيث الشكل، وأن هذا يحدث تحت ضوء الشمس الساطعة".
وتشير الفوضى المرئية إلى أمور كانت تحدث عميقًا تحت السطح. ويروي نوزي في كتابه كيف بحثت عنه مصادره التي أطلق عليها مجتمعة اسم "ماريا"، لتفضح ما كان بنظرها فسادًا وسوء إدارة. وقال نوزي لمجلة تايم عن مصادره "إن هؤلاء الأشخاص تروس صغيرة في آلة كبيرة هي الفاتيكان، وقد انهكمهم الغبار".
تتضمن الوثائق رسائل مرفقة بصكوك من رجال أعمال إيطاليين كبار وشخصيات إعلامية معروفة يطلبون فيها خدمات أو لقاءات مع البابا. وتتضمن وثائق أخرى تحذيرات من المحسوبية والفساد وجّهها مسؤول كبير في الفاتيكان أُنيط به إصلاح ماليته، ثم نُقل إلى موقع آخر لاحقًا.
وتكهن العديد من المراقبين بأن الدراما هي نتيجة صراع على السلطة بين رجل البابا الثاني أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال ترسيسيو برتوني وكرادلة منافسين ودبلوماسيي الفاتيكان المخضرمين، الذين نظروا إليه بارتياح منذ اليوم الأول لمجيئه. وقال ماجستر "إن برتوني عمليًا تحت النار، وإذا كانت حكومة الكنيسة في مثل هذا الوضع الكارثي، فمن الواضح أن رئيس الدولة يجب أن يكون مسؤولاً".
ولا يُعرف إلى أي حد يرتبط عزل رئيس بنك الفاتيكان بسيل التسريبات. لكن مذكرة موجّهة إلى تديشي بقلم كارل أندرسن رئيس منظمة "فرسان كولومبُس" في الولايات المتحدة وعضو الفريق الذي صوّت بالإجماع لمصلحة عزله، تطرح أسباب إقالته، ومن بينها "فشله في أداء واجباته الأساسية"، و"عدم تقديم أي إيضاح رسمي لنشر وثائق كان رئيس البنك آخر من أصبحت بحوزته".
ورفض أندرسن الحديث للصحافيين، ولكنه قدم من خلال متحدث باسمه رابطًا إلى المذكرة ذات العلاقة. وقال أندريه تورنيلي من موقع "فاتيكان إنسايدر" الالكتروني إنه لم يطَّلع على مذكرة بهذه القسوة من مسؤول بهذا المستوى، واصفًا المذكرة بأنها "شيء لا سابق له، وهي بكل تأكيد مؤشر إلى أن هناك معارك داخلية ضارية وعلى مستوى عالٍ جدًا. وإلا فليس هناك تفسير آخر لما يجري".
وإذا كان اعتقال غابرييل خادم البابا الشخصي في اليوم التالي محاولة للسيطرة على الموقف فإنها كانت ذات مردود عكسي. وكان غابرييل (46 عامًا) وهو رجل من العامة متزوج وله ثلاثة أطفال، يُعرف في الفاتيكان باسم باوليتو تصغيرًا لاسمه الحقيقي باولو.
وبدأ باولو، الذي يصفه أشخاص يعرفونه بالخجل، مهنته في الفاتيكان عاملاً بسيطًا، وخدم لفترة من الوقت في منزل البابا يوحنا بولس الثاني. وكان غابرييل بصفته خادم البابا بنديكتوس الشخصي من القلائل الذين هم على اتصال منتظم بالبابا، ولهم حرية مطلقة لدخول مكاتبه وشققه، وهو أول من يلقي التحية على الحبر الأعظم في الصباح، وآخر من يتمنى له نومًا هانئًا في الليل. ويُقال إنه يشعر بحزن شديد منذ اعتقاله، ويمضي كثيرًا من وقته في الصلاة. والتهمة الوحيدة الموجّهة إليه حاليًا هي "السرقة"، ولكنه يمكن أن يواجه حكمًا بالسجن 30 عامًا إذا أُدين بحيازة وثائق رئيس دولة بصورة غير قانونية.
وأطلقت الحقيقة الماثلة في أن أقرب شخص إلى البابا، الشخص الذي يقدم له الفطور في الصباح، ويحمل له مظلته في المطر، معتقل في زنزانة داخل الفاتيكان، موجة من التكهنات والشائعات في الصحافة الإيطالية، حتى إن إحدى الصحف ذكرت أن الشكوك تحوم حول كاردينال أيضًا.
وذهب كثيرون إلى أن غابرييل ليس وحده وراء تسريب الوثائق، وأنه كان يعمل مع آخرين، ربما استخدموا الوثائق بالنيابة عن مسؤول رفيع المستوى. وفي الوقت الذي أقرّ الفاتيكان باستمرار التحقيق فإنه نفى ضلوع كاردينال في القضية.
وأيّد الصحافي نوزي، الذي لم يعلق على هوية مصادره، نفي الفاتيكان، على الأقل بالقول إن أحدًا من أمراء الكنيسة ليس من بين مصادره. وقال نوزي لمجلة تايم إنه لم يعرف كاردينالاً قط في حياته. وبعدما وافق غابرييل على التعاون مع محققي الفاتيكان، كما قال أحد محاميه، فإن الأمر الوحيد المؤكد هو أن اللثام سيماط عن المزيد من الخفايا.