الكسائى : تلميذ الخليل ومؤسّس مدرسة الكوفة النحوية

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٠٩ - أكتوبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

                   

الكسائى : تلميذ الخليل ومؤسّس مدرسة الكوفة النحوية

أولا :

1 ـ بعد سيبويه جاء إلي الخليل بن أحمد تلميذ آخر هو الكسائي ، وهو الذي أرسي مدرسة الكوفة النحوية.

2 ـ وكان بين المدرستين النحويتين تنافس وخصومة فكرية اتخذت ميادين لها في بغداد والعراق في القرنين الثاني والثالث من الهجرة ، وحفلت كتب الأدب واللغة بوقائع تلك المنافسة ، وتعدد المتنافسون بين المدرستين كان سيبويه والكسائي ، ثم كان المبرد وثعلب .

3 ـ ومن أبرز مسائل الخلاف النحوي بين المدرستين ما أسموه ب : " الشذوذ اللغوي " . فاللسان العربي يمتاز بأنه في أغلبه قياسي ، أى يسير على قاعدة واحدة ، فالأغلب أن يكون الفاعل مرفوعا والمفعول منصوبا ، والشاذ القليل أن يكون الفاعل منصوبا والمفعول مرفوعا  ، وذلك علي سبيل المثال .  ولأن اللسان البشرى كائن متحرك متغير فلا بد أن يلحقه التغيير ، حسب الزمان والمكان ، فتتعدد الألسنة ، وتتعدد فى داخلها اللهجات . ولم يسلم اللسان  العربي مع شدة انضابطه وكثرة قياسه من وجود بعض التغيير ، وتمثل ذلك في مشكلة ما أسموه ب (الشذوذ اللغوي ) ، أو وجود حالات تخرج عن القياس في لسان العرب .

4 ـ واختلف  موقف المدرستين النحويتين في التعامل مع ذلك الشذوذ اللغوي .

4 / 1 : فمدرسة البصرة تأثرت بطبيعة البصرة المنفتحة على العالم ، حيث كانت الميناء الذى يصل بالعرب الى الهند والشرق , بهذا الانفتاح اعترفت بالشذوذ ( اللغوي) وعاملته علي أساس أنه ظاهرة ( لغوية) مستقلة أو ( يُحفظ ولا يُقاس عليه ) ، وذلك هو التعبير المأثور عندهم . اى مع كونه ( أقليّة ) ومع عدم جريانه على القياس فهو مُعترف به شأن ما يجرى على القياس.

 4 / 2 :    أما مدرسة الكوفة فقد تأثرت بموقعها الداخلى الصحراوى و تجاهلت ذلك الشذوذ وأخضعته لأسلوب القياس .

5 ـ وكان الكسائي الكوفى هو أول من طبق هذا المنهج .

والطريف إنه إستفاد من شيخه الخليل بن أحمد ( البصرى ) فى أُسُس المدرسة الكوفية ، أخذ عنه منهجه فى إستقراء الألفاظ العربية من البادية ، والكوفة أقرب للبادية ، كما إستفاد من كتاب ( العين ) للخليل وتجميعه للألفاظ العربية وإشتقاقاتها . وإستغل هذا فى صناعة وتغيير  في نمط اللهجات العربية المعروفة وقتها ، بأن تجاهل بعضها ، واستحدث مشتقات لم تكن معروفة في لسان العربي ، ولكن أنتجها بالقياس . وذلك موضوع طويل يخرج عن موضوعنا  .

ثانيا :

ولكن من هو الكسائي  إمام المدرسة النحوية في الكوفة ؟

1 ـ هو علي ابن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز ، أي أنه فارسي الأصل ، وتوفى عام 182

2 ـ ليس  غريبا أن يكون أغلب رواد النحاة من الفرس والموالي ، إذ أصبحت لهم مكانة فى الدولة العباسية التى كان لهم الإسهام الأكبر فى تأسيسها ، لذا إحتلوا أبرز المناصب ، ومنهم البرامكة ، ومن له طموح فى المناصب كان عليه تعلم اللسان العربي ، وكان يُعاب عليهم اللحن أى الخطأ فى النطق العربى . والكسائى الفارسى أبرز مثل لهذا .

3 ـ تعلم  الكسائى النحو لنفس السبب الذي جعل سيبويه يتجه إلي النحو ، ذلك إنه وقع في اللحن وعيب عليه ذلك ، فاستعظم الأمر وقرر أن يتفوق في العربية ، ويكون فيها إماما ـ     يقول تلميذه الفراء إنه مشي حتي تعب من المشي ثم جلس إلي بعض الناس فقال لهم: ( قد عييت ، فقالوا له : أتجالسنا وأنت تلحن ؟ فقال : كيف لحنت ؟ فقالوا له : إن كنت أردت من التعب : فقل أعييت ، وإن كنت أردت من انقطاع الحيلة والتحير في الأمر فقل عييت .) فاستكثر الكسائي أن  يقال له ذلك فسأل عن من يعلمه ( اللغة ) فأرشدوه إلي معاذ الهرا فلزمه حتي استنفد ما عنده ، ثم خرج إلي البصرة فجلس في حلقة الخليل بن أحمد فقال له رجل من الأعراب  تركت أسد الكوفة وتميمها ــ أى قبائل أسد وتميم في الكوفة ــ وعندها الفصاحة وجئت البصرة ؟ فذهب الكسائي إلي الخليل بن أحمد وسأله : من أين أخذت علمك هذا ؟ . فقال له الخليل : من بوادي الحجاز ونجد وتهامة ، فخرج الكسائي إلي البوادي يجمع ( اللغة ) ويدونها ويحفظها ، ثم رجع إلي البصرة فوجد الخليل بن أحمد قد مات وقد جلس مكانه يونس النحوي فتناظرا .. وأقر له يونس بالسبق .

4 ـ أسّس الكسائى مدرسة الكوفة النحوية ، واصبح أهل الكوفة يفاخرون أهل البصرة بعلم الكسائي ،  واستفادت مدرسة الكوفة النحوية من وجود الكسائي في البلاط العباسي ، وبذلك استطاع الكسائي أن يهزم سيبويه في المناظرة التي عقدت بينهما في حضور الوزير يحيي بن خالد  البرمكي. وكان العباسيون يميلون بالسليقة إلي الكوفة لأن بها شيعتهم ولأنها كانت العاصمة الأولي لهم ، أما البصرة فتاريخها مع العباسيين لا يشجعهم علي مناصرتها أو مناصرة مدرستها النحوية . وبالكسائى انتشرت الآراء النحوية لمدرسة الكوفة في حاضرة الخلافة العباسية.

5 ـ ، وصاغ الكسائي مذهبه النحوي شعرا حين يقول:

  إنما النحو قياس يتبع

   وبه في كل أمر ينتفع

  فإذا ما أبصر النحو فتي

   مر في المنطق مرا فاتسع

 6 ـ  وكان من الطبيعي أن تهاجمه مدرسة البصرة ، فاتهموا الكسائي أنه لا يقيس ( اللغة ) عن كل العرب وإنما عن مجموعة من الأعراب ينزلون حول مدينة " قطر بل" ، يقول في ذلك أبو محمد اليزيدي:

كنا نقيس النحو فيما مضي

علي لسان العرب الأول

فجاء أقوام يقيسونه

علي لغي أشياخ قطر بل

فكلهم يعمل في نقض ما

به نصاب الحق لايأتلي

 إن الكسائي وأصحابه

 يرقون في النحو إلي أسفل

 وقال فيه أيضا :

أفسد النحو الكسائي

وثني ابن غزالة .

7 ـ وبالغ أتباع الكسائى فيه فيما بعد ، فرووا إجتماع الناس حوله من الأفاق وهو في بغداد يجلس علي كرسي فيقرأ لهم القرآن من أوله إلي آخره وهم يستمعون ، ونسبوا له أنه الذى قام بتنقيط المصحف ، نفس الأسطورة التى قيلت فى الخليل بن أحمد . ووجدوا فى إنحياز الخلافة العباسية نصيرا لهم .

ثالثا :

صلة الكسائى بالخلافة العباسية

إزدحم الطموحون على أبواب الوزير يحيى بن خالد البرمكى ، لكى يصلوا من خلاله الى الخليفة . واستمر هذا بعده . وكان من الطموحين علماء النحو ، ومنهم الكسائى ، وفاز عليهم الكسائى بذكائه ودهائه وفهمه للبروتوكول .  

والروايات ـ مع إفتراض صحتها ـ تعطى لمحة عن شخصية الكسائى فى البلاط العباسى :

1 ـ يروي أنصاره عنه إنه كان مع تبحره في العلوم حريصا علي التثبت والرجوع عن الخطأ إذا أخطأ ، وتلميذه الفراء يحكي عنه إنه اشتكي له من الوزير يحيي بن خالد البر مكي ، وإنه يبعث إليه فجأة يسأله عن الشيء ، فإذا أبطأ في الجواب لحقه العيب ، وإن أسرع بالإجابة لم يأمن الخطأ ، فقال له الفراء :( قل ما شئت ، ومن يعترض عليك وأنت الكسائي ).!، فأخذ الكسائي لسانه بيده وقال :( قطعه الله إذا إن قلت ما لا أعلم ).

2 ـ  ويروي الكسائي عن نفسه أنه صلي إماما بالخليفة هارون الرشيد فأعجبته قراءته فاخطأ في آية ما يخطيء فيها صبي ، أراد أن يقول " لعلهم يرجعون " فقال: " لعلهم راجعين " ، ويقول أن هارون الرشيد لم يجتريء أن يقول له : أخطأت ، وبعد الصلاة سأله : ( يا كسائي أي لغة هذه ؟ ) فقال : ( يا أمير المؤمنين قد يعثر الجواب )، فقال له الرشيد: ( أما هذه فنعم .). أى إنه على هذا كان إماما في الصلاة لهارون الرشيد ، وأن الوزير يحيي بن خالد كان يبعث إليه يستشيره .

3 ـ  وهناك خبر طريف ـ نرجّح صدقه ـ إذ أورده الخطيب البغدادي فى موسوعته ( تاريخ بغداد ) في تعليل وصوله إلي قصور الخلافة ، فالخليفة المهدي ـ والد هارون الرشيد ـ كان لديه معلم لأولاده ، وحدث أن كان المهدي يستعمل السواك . فدعا ذلك المعلم وقال له : كيف تأمر شخصا بأن يستاك ؟ فأسرع المعلم يقول ( إستك ) ففزع المهدي مما قال لأن كلمة : ( إستك ) تعنى مؤخرتك ،  وقال : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ، التمسوا لنا من هو أفهم من هذا ) . فقيل له : رجل يقال له الكسائي من أهل الكوفة جاء من البادية قريبا وهو أعلم الناس ، فجيء بالكسائي للمهدي ، فقال له : يا علي بن حمزة  فقال : لبيك يا أمير المؤمنين؟ قال : كيف تأمر شخصا بالسواك : قال : سك يا أمير المؤمنين . فقال له الخليفة : أحسنت وأصبت ، وأمر له بعشرة آلاف درهم . وجعله معلما للرشيد. ثم علّم الأمين ابن الرشيد بعده.

والواقع أن المعلم الذي كان  قبل الكسائي لم يخطيء علميا ، ولكنه أخطأ في البروتوكول حين قال تلك الكلمة التي تحمل معنيين أحدهما بذيء ، وواجه الخليفة بهذا ففزع ، بينما كان الكسائي لبقا عارفا بأصول الخطاب مع الملوك فأفلح ، وحاز مكانة عالية لدي الرشيد حتي صار إماما له في الصلاة ، وأصبح يحضر جلساته الخاصة .

4 ـ وكان يحدث تنافس فيها مع القاضي الشهير أبى يوسف ، وهو الأثير لدى هارون الرشيد  ، وكان أبو يوسف يتضايق من مكانته لدي الرشيد ويقول عنه محتقرا : ( إن هذا الكائن لا يحسن إلا شيئا من كلام العرب )، فبلغ الكسائي ذلك فقال له إمام الرشيد: ( يا يعقوب ، ما تقول في رجل قال لامرأته أنت طالق طالق طالق ؟ ) ، قال أبو يوسف: ( تكون طالقا طلقة واحدة )،قال : ( فإن قال لها : أنت طالق أو طالق أو طالق ؟  )قال أبو يوسف : ( واحدة أيضا ) ، قال : ( فإن قال لها : أنت طالق وطالق وطالق ؟ ) ، قال : ( واحدة ) فقال: ( فإن قال : أنت طالق ثم طالق ثم طالق ؟ )، فقال : ( واحدة ). فقال الكسائي : ( يا أمير المؤمنين أخطأ أبو يوسف في اثنين وأصاب في اثنين . أما قوله : أنت طالق طالق فواحدة لأنها تأكيد كما تقول أنت قائم قائم قائم  ، وأما قوله أنت طالق أو طالق أو طالق ، فهذا شك ، وتقع الأولي التي فيها تيقن ، وأما قوله : أنت طالق ثم طالق ثم طالق فهي ثلاث طلقات لأنه نسق ، وكذلك : طالق وطالق وطالق ).  وبذلك غلب الكسائي في النحو أبا يوسف في الفقه .

أخيرا

1 ـ فى رأينا إن أكبر خطيئة للكسائى هى إنغماسه فى ذلك الكفر المسمى بالقراءات . وهو تلاعب بقراءة القرآن الكريم ، وشغل للناس عن تدبره . إن للقرآن الكريم قراءة وحيدة ، نفهم هذا من  قوله جل وعلا : ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴿١٨. لم يقل : فإذا قرآناه فإتبع قراءاته . بدأ هذا الكفر على يد مجموعة من الأفّاقين إختلفوا فى قراءاتهم ، وكانوا سبعة ثم ارتفع عددهم الى عشرة . وقد ناقشنا هذا الخبل الكافر مرات من قبل . ونطرح سؤالين : هل من كان قبلهم حتى عصر النبى محمد عليه السلام على علم بهذه القراءات ؟ وهل كان معهم جهاز تسجيل سجلوا عليه صوت النبى محمد بهذه القراءات ؟ وإذا كان معهم فلماذا إختلفت قراءاتهم ؟  

2 ـ قالوا عن الكسائى : (  تخصص في القراءات ، وكان حمزة بن حبيب الزيات مشهورا في القراءات في الكوفة فتعلم الكسائي قراءته ، ثم اختار لنفسه قراءة فأقرأ بها الناس ، وقرأ عليه بها خلق كثير في بغداد والرقة. وفي شهر شعبان كان يوضع له منبر فيقرأ علي الناس ويختم القرآن مرتين في ذلك الشهر ، لذا أصبح الكسائي أحد أئمة القراءات وجعلوه من القراء السبعة المشهورين .). 

اجمالي القراءات 686