الخليل بن أحمد العبقرى العربى مبتدع علمى النحو و العروض
كتاب ( القرآن الكريم والنحو العربى )
الفصل الثالث : عن علم النحو
الخليل بن أحمد العبقرى مبتدع علمى النحو و العروض
مقدمة :
1 ـ وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي قواعد النحو العربي في أواخر العصر الأموى ، وتسلم الراية بعده فى بداية العصر العباسى سيبويه تلميذه في البصرة ، كما ظهر الكسائي إماما للمدرسة النحوية في الكوفة ، وتأسس علم النحو ما بين الكوفة والبصرة ثم بغداد .
2 ـ بدأ الخليل بجمع اللغة واستقراء ما أسماه ب ( الإعراب ) أى ضبط أواخر الكلمة ـ ليس من القرآن الكريم ـ بل من البوادي ، حيث كان الشائع أن البدو في الصحراء محافظون على فصاحتهم لم يتأثروا بعد بالاختلاط بالعجم ، ولم يفسد لسانهم بحياة الحضر .
3 ـ جمع الخليل بن أحمد الفراهيدى مفردات الألفاظ العربية ، كما أسّس ( علم العروض ) الذى يتتبع بحور الشعر ، وتبعه تلميذه سيبويه فكتب ( الكتاب ) المشهور فى قواعد ما أسموه باللغة العربية ، وتابعه ثعلب والكسائى والزجاج والمبرد ..الخ ..
نتوقف مع الخليل بن أحمد بن عمر بن تميم الأزدي الفراهيدي .
أولا : عبقريته
1 ـ طالما نتكلم عن العرب بالتحديد فإن الخليل هو أعظم عبقرية عربية فى كل العصور . ليس فقط لانتاجه العلمى ولكن أيضا لريادته ، فقد ظهرت عبقريته مبكرا قبل الإزدهار العلمى فى القرن الثالث الهجرى والعصر العباسى الثانى . الخليل مولود سنة 100هـ ، وعاش حياته وسط الاضطراب السياسى والفتن التى شملت الدولة الأموية خصوصا فى العراق حتى سقطت عام 132 . نشأ في مدينة البصرة عصاميا فقيرا ، لا يملك سوى عبقريته وذكائه النادر، وطفق يخترع العلوم اختراعا ليأتي بعده اللاحقون يسيرون علي دربه ويدورون في الفلك الذي رسمه لهم، ولم يستطع أحد أتي بعده أن يبلغ مبلغه في تأسيس المناهج . قالوا عنه ( كان آية في الذكاء ) .
2 ـ وليس أدل علي ذكائه من اختراعه لعلم العروض العربي واكتشافه لموازين الشعر ، وهو في ذلك الاختراع لم يعتمد علي اجتهادات غيره، إذ لم يسبقه أحد في ذلك . وإذا كان اليونانيون قد سبقوه في تقعيد بعض العلوم وسار علي دربهم بعض علماء العرب فإنه ليس لليونانيين فضل علي الخليل بن أحمد في اختراعه لعلم العروض الذي يعتبر اختراعا عربيا خالصا أنجزه الخليل بأكمله وبنفسه ، ولم يكن له من أدوات إلا مطرقة يضرب بها علي طست، وبذلك كان يعرف وقع الأنغام الشعرية ويفرق بينها ويكتشف دقائق الأوزان، وذلك يذكرنا بالفقر الذي كان يعيش فيه ذلك العبقري والذي استطاع بالرغم منه أن يخترع ويفكر ببطن خاوية أحيانا!!
3ـ كما أن هذا الذكاء النادر يتجلى في كتابه "العين" الذى حصر فيه ألفاظ العرب علي أساس مخارج الحروف ومنها إلي بناء الكلمة أو وزنها من الثنائي والثلاثي إلي الرباعي والخماسي ، وبلغ في حصر ألفاظ العربية إلي الآتي: الثنائي(765) الثلاثي(19650) الرباعي (491400) والخماسي (793600،11). وتلك مهمة تحتاج الى الحاسبات الإلكترونية ، ولكن قام بها الخليل وسجلها في كتابه العين معتمدا علي ذكائه الخارق.
4ـ وبذكائه الخارق وضع كتابا في الموسيقي والإيقاع وتراكيب الأصوات ، ويتعجب الجاحظ من ذلك لأن الخليل بن احمد حين وضع هذا الكتاب لم يمسك بيده آلة موسيقية ولا داعبت أصابعه أوتارا ولا استمع إلي مطربين.
5 ـ ووصل ذكاؤه إلي علم الصيدلة وتركيب الدواء. وقد حدث أنه كان عند رجل دواء للعين ينتفع به الناس. ثم مات الرجل وذهب سر تركيبة الدواء فجاءوا للخليل فقال : " أللدواء نسخة معروفة ؟ " قالوا :لا .. فقال: " إذن هاتوا لي الآنية التي كان يجمع فيها اخلاط الدواء " ، فجاءوه بالآنية، فأخذ يشمها ويستخرجها نوعا نوعا حتي جمع خمسة عشر نوعا، وخلطها بنفس النسبة فانتفع به الناس ، ثم حدث أن وجدوا في تركة الرجل سر التركيبة، فوجدوها تتكون بنفس ما توصل إليه الخليل ولكن تزيد نوعا واحدا فقط.
6 ـ وانشغل بعلم الحساب ليجعله في خدمة البسطاء من الناس ، وذلك يدل علي جانب من جوانب العظمة في شخصيته، إذ أراد أن يخترع نوعا من الحساب يستطيع به الفتي الصغير أن يمضي إلي البائع فلا يمكن أن يخدعه ، وكان يفكر منشغلا بذلك فدخل المسجد فصدمته سارية وهو غافل فوقع ومات سنة 160في أحد الأقوال.
ثانيا: مؤلفاته
1 ـ في عصر الرواية الشفهية كان الخليل بن أحمد رائدا فى تدوين ابتكاراته العلمية ، فقد قالوا عنه إنه اشتغل بالعلوم وصنف الكتب الكثيرة ، وأهمها كتاب " العين ، وكتاب النغم فى الموسيقى ، وكتاب الشواهد ، بالإضافة إلي كتاب العروض وكتاب الجمل .
2 ـ وقال عنه السيرافي : ( كان الغاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس فيه ، وهو أول من استخرج العروض وحصر أشعار العربية بها، وعمل أول كتاب العين المعروف المشهور الذي يتهيأ به ضبط اللغة .)
ثالثا : تلاميذه
1 ـ ويكفي أن سيبويه عالم النحو المشهور هو تلميذه، وبعضهم ينسب (كتاب) سيبويه المشهور في النحو باسم (الكتاب ) إلي وضع أستاذه الخليل بن أحمد . والواقع أن سيبويه كان يأخذ عنه وكان يعترف بذلك في "الكتاب" وهو يورد ذلك كثيرا ويقول : "وسألته" و"قال" ، وسيبويه يشير متحدثا عن أستاذه الخليل ، والأرجح أن الخليل هو الذى وضع المنهج الذى سار عليه تلميذه النجيب سيبويه ، وعلّمه كيف يسير علي المنهج . وكتاب سيبويه في النحو أهم ما كتب في هذا الباب. وقد كانت العلاقة بينهما علي أكمل ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين أستاذ وتلميذه ، يقولون إن الخليل كان إذا قدم عليه سيبويه يستقبله قائلا " مرحبا بزائر لا يمل".
2 ـ ولم يكن سيبويه تلميذه الوحيد في النحو ، إذ كان معه الأصمعي والنضر بن شميل ، وهارون ابن موسي ووهب بن جرير وعلي بن نصر الجهضمي.
رابعا : أخلاقه العالية ومفتاح شخصيته
1 ـ وكما أشاد المؤرخون بعبقريته الفذة فإنهم أشادوا أيضا بأخلاقه الحسنة فقالوا : " كان الخليل من أزهد الناس وأعلاهم نفسا وأشدهم تعففا" وقالوا : " كان الخليل رجلا صالحا عاقلا وقورا كاملا ، وكان متقللا من الدنيا جدا صبورا علي خشن العيش وضيقه، وكان ظريفا حسن الخلق"., ويبدو من تلك الصفات الإجمالية أنه جمع بين الزهد والعزة والصبر علي الفقر مع الصلاح والظُّرف وحسن الخلق . وقلما تجتمع هذه الصفات لشخص واحد.
2 ـ إلا أنه يمكن العثور علي مفتاح لشخصية تلك العبقرية الفذة من خلال فحص تاريخه العلمي والإنساني، واعتقد أن مفتاح شخصيته يتضح في تقديره للعلم الذي وهب حياته له والذي أبدع في مجاله.
2 / 1 : وتتجلي أحد نواحي العظمة في شخصية الخليل حين نعرف أن الصلة بالحكام كانت هي الطريق السريع أمام العلماء لكي يعيشوا حياة كريمة ، ولكن الخليل رفض هذا الطريق اعتزازا بما لديه من علم وحرصا علي أن يكون له استقلاله بعيدا عن تقلبات السياسة وأهوائها ، ورضي بأن يعيش في "خص" أي كوخ من " أخصاص" البصرة ، وكان يقول معبرا عن تفرغه للعلم " لا يجاوز همّي ما وراء بابي" . ولم يكن تلاميذه ليصبروا علي هذه الطريقة الخشنة الفريدة في الحياة.
2 / 2 : وقد كان سليمان بن حبيب المهلبي واليا علي الأهواز ، وقد سمع بعلم الخليل وفقره بالبصرة فكتب إليه يستدعيه ليعلم أولاده ولينادمه بالليل ، وأرسل له بألف دينار وجاء الرسول إلي الخليل، فأخرج إليه الخليل بعض كسرات الخبز الجافة وقال له : " إني ما دمت أجد هذه الكسرات فإني عنه مستغن"! ، ورد إليه الألف دينار، وقال للرسول " اقرأ علي الأمير السلام وقل له إني ألفت قوما وألفوني، أجالسهم طوال نهاري وبعض ليلي وقبيح لمثلي أن يقطع عادة تعودها إخوانه"
وكتب إليه بهذه الأبيات:
ابلغ سليمان أني عنه في سعة
وفي غني غير أني لست ذا مال
وأن بين الغني والفقر منزلة
مقرونة بجديد ليس بالبالي
سخي بنفسي أني لا أري أحدا
يموت هزلا ولا يبقي علي حال
والفقر في النفس لا في المال نعرفه
ومثل ذاك الغني في النفس لا المال
3 ـ وواضح مما سبق أنه بقدر أعراضه عن ذوى السلطان فأنه كان يحسن صحبة الإخوان ، وقد مر بنا كيف يحتفل بقدوم تلميذه سيبوبه عليه ويقول له : مرحبا بزائر لا يُمل..
وواضح أنه كان حسن الخلق مع أصحابه متواضعا معهم فى نفس الوقت الذى كان فيه عزيز النفس مع أصحاب الجاه والسلطان ، لذا وصفوه بأنه " كان خيرا متواضعا ذا زهد وعفاف".
ويدل علي تواضعه الزائد مع طلبة العلم أن إبراهيم بن سيار النظام عالم المعتزلة دخل وهو صغير علي الخليل بن أحمد فأراد الخليل أن يختبره وكان في يده قدح زجاج فقال له الخليل: صف هذه الزجاجة ، فقال له النظام : أبمدح أم بذم؟" قال : "بمدح " ، قال " تريك القذى ولا تقبل الأذى ولا تستر ما وراءها" ، قال : " فذّمّها " فقال النظام " : يسرع إليه الكسر ولا تقبل الجبر".. قال : "فصف لي هذه النخلة" ، قال : "بمدح أم بذم؟" قال : " بمدح" قال : " حلو جناها باسق منتهاها ناضر أعلاها " ، قال : " فذُمّها " قال : " صعبة المرتقي بعيدة المجتبي محفوفة بالأذي " فقال له الخليل : " يا بني نحن إلي التعلم منك أحوج" !!
ولا شك أن كلمة تشجيع مثل هذه آتت أكلها مع إبراهيم النظام في صغره وشحذت همته للعلم وتحصيله..
ويروي أن راهبا قال للخليل :" أنت الذي يزعم الناس إنك وحيد في العلم ؟ ، فقال له الخليل : " كذا يقولون ولست كذلك"..!!
خامسا : ما بقى من الخليل بن أحمد
1 ـ تاجر تلامذة الخليل بعلمه فاكتسبوا به الأموال كما قال النضر بن شميل ، وحققوا الشهرة في البلاط العباسي ، وكان أبرزهم في ذلك الأصمعي. ولو وجدنا لهم بعض العذر فأننا نعجز عن تبرير سرقات بعضهم لمؤلفات الخليل بن أحمد خصوصا كتابه " العين".
2 ـ وقد قال أحدهم يهجو بعض العلماء الذين سرقوا أفكار الخليل في كتاب العين:
ابن دريد بقرة
وفيه عجب وشره
ويدعي بجهله
وضع كتاب الجمهرة
وهو كتاب العين
إلا أنه قد غيره
الزهري وزغة
وحمقه حمق دغه
ويدعي بجهله
كتاب تهذيب اللغة
وهو كتاب العين
إلا أنه قد صبغه
في الخارزنجي بله
وفيه حمق ووله
ويدعي بجهله
وضع كتاب التكملة
وهو كتاب العين
إلا أنه قد بدله.
2 ـ علي أية حال فإن الذين انتحلوا أفكار الخليل كانوا أقل منه ومنها ، فظهر عجزهم ، وقد وضع ابن دستورية كتابا أوضح فيه الخلل الذي وقعوا فيه..
3 ـ ويكفيه فخرا أنه حين أنشأ علم العروض فقد أثبت أن الشعر العربي قد قيل بأوزان وقواعد بالسليقة ، وتلك موهبة عظيمة لا يدانيها إلا عبقرية الخليل التي اكتشفت قوانين الشعر وأوزانه.
ونفس الحال مع قواعد اللسان العربي الذى كان ينطق بها العرب بالسليقة دون ان يعرفوا ماهيتها وقواعدها، ولم يقم أحد قبل الخليل بن أحمد باستخلاص تلك القواعد من خلال استقراء لكل المنقول على العرب.
وإذا كان هناك تلاميذ للخليل جاءوا بعده وتخصصوا فيما عرف بعلم النحو وقاموا بتفصيله والزيادة عليه بعد الخليل إلا إن الخليل يظل وحده مخترع علم العروض ومكتشف أوزان الشعر العربى ، ولم يأت بعده من يدانيه أو يقترب من هامته وقامته فى هذا المجال. كان هو الرائد الذى لم يصل الى قامته أحد بعده.
أخيرا
عبقرية الخليل المتفردة وشخصيته الفذّة وإعتزازه بنفسه كان له أثر سلبى فى مسيرة علم النحو وعلم العروض . إقتفى اللاحقون فى البصرة والكوفة وبغداد منهجه فى النحو بإهمال الأخذ عن القرآن الكريم ، ولم يضيفوا شيئا يُذكر الى علم العروض .