عن أثرالتصوف فى الحياة الاجتماعية فى مصر المملوكية : مدخل ، وعن العزلة وعلاقتهم بالتجار :

آحمد صبحي منصور في السبت ٠٦ - يوليو - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

عن أثرالتصوف فى الحياة الاجتماعية فى مصر المملوكية : مدخل ، وعن العزلة وعلاقتهم بالتجار :  

علاقة الصوفية بطوائف المجتمع المصرى المملوكى 

كتاب : أثر التصوف  الثقافى والمعمارى والاجتماعى فى مصر المملوكية

الفصل الثالث   : أثرالتصوف فى الحياة الاجتماعية فى مصر المملوكية

مدخــل للفصل الثالث :ــ

1 ـ الحياة الاجتماعية شديدة التأثر بالنظام السياسى والدين الأرضى إذا ساد وسيطر . وقد عرضنا فى كتاب ( أثر التصوف السياسى فى الدولة المملوكية ) للعلاقة بين المجتمع والسلطة المملوكية ودور التصوف والصوفية فى هذه العلاقة . كما عرضنا فى الكتاب الخاص بأثر التصوف فى الانحلال الخلقى الذى ساد المجتمع المصرى المملوكى بتشريعات وعقائد الانحلال الخلقى . وهنا نتوقف مع تأثير التصوف فى المجتمع المصرى فى بقية النواحى الاجتماعية .

2 ـ ونقول إن التصوف لم ينشىء تأثيرات إجتماعية كثيرة ، فأغلب تأثيراته كانت موجودة ، ولكنه أبرزها وأضفى عليها مسحة دينية صوفية . إن التصوف قائم على الهوى ، وما يهواه الفرد والناس والمجتمع يصبج دينا فى تشريع التصوف السائد والمسيطر . مثلا من يهوى الشذوذ او الحشيش أو الزنا .. يجعله عبادة دينية صوفية . الرضا بالظلم ونفاق الحاكم أصبح دينا . وبالتالى فإن القيم الاجتماعية فى المجتمع الزراعى من التواكل والخضوع والتقليد تكتسب تشريعا دينيا مع انها قيم إجتماعية مصرية . وهكذا العادات . ولا يخلو اى فرد أو شعب من عناصر إيجابية ، ويُتاح لها الظهور أيضا حتى مع غلبة الملامح السيئة . وبسيطرة التصوف وتسيده المجتمع المصرى فى أواخر العصر المملوكى أظهر تأثيرا جديدا فى التركيب الاجتماعى وقتها ، فأظهر طبقات وطوائف إجتماعية لم تكن معروفة من قبل . هذا مُجمل أثر التصوف فى المجتمع المصرى المملوكى . ونعطى المزيد من التفصيلات . ونبدأ بعلاقة الصوفية بطوائف المجتمع المصرى وقتها.

أولا :

علاقة الصوفية بطوائف المجتمع المصرى المملوكى

بين العزلة الصوفية والاختلاط بالمجتمع

1 ـ كانت العزلة مما يتميز به المتصوفة الا انهم في العصر المملوكي لم يمارسوا العزلة الكاملة عن المجتمع بحكم احتياجهم له واحتياجه لهم . وزاد اختلاطهم بعناصر المجتمع في أواخر العصر، والشعراني خير من يعبر عن هذه الفترة ، وقد وازن بين مزايا العزلة عن الناس والاختلاط بهم )[1].وافتخر بعدم الانكباب على معاشرة الناس وعدم انقباضه عنهم بالكلية )[2] وان العهود اخذت عليهم بالاعتزال في البيوت وقلة الاسفار والتحرك أيام الفتن )[3]. أى اضافت الاضطرابات السياسية سببا أخر للعزلة والخلوة الصوفية، ولم يمنع ذلك بمقارنتها بالاختلاط .

2 ـ  والواقع أن عزلة الصوفية لم تكن مطلقة وعرف ذلك بعضهم في العصر المملوكي البحري حيث سمحت وثائق الوقف على الخوانق بدخول الآخرين على الصوفية للتشفع بهم لدى الحاكم، [4]  وسبق بيان أن بعضهم مارس عمل المواعيد لغير الصوفية العاملين في الخانقاة ، فورد في وثيقة خانقاه جمال الأستادار: ( على أن الشيخ المذكور يتصدر في كل سنة لإسماع الطلبة ومن تيسر حضوره من المسلمين )[5].

وذلك الاتصال بالمجتمع عرفه أيضا من اشتهر من الصوفية بالعزلة والولاية حيث كانت له أوقات معينة للخلوة والأخرى للاجتماع بطالبي زيارتهم من العلماء والوزراء والأمراء..)[6]

3 ـ  وهـذا التوازن بين عزلة الصوفية المقيدة واختلاطهم المتحفظ بالناس ساعد على تأثيرهم في المجتمع ، فالعزلة أضفت عليهم نوعا من الغموض والقدسية زاد من الاعتقاد فيهم فكان لكلامهم قدسية ولتصرفاتهم تأثير ، كما كانت العزلة مظنة للإلهام والوحي. ومن ناحية أخرى  كان الاختلاط المتجدد فرصة للتعرف عليهم والتأثر بهم.  ثم ان العزلة تعنى خفوت التعامل المباشر بين الصوفية والشعب ، والتعامل قمين بأن يُظهر الصوفي على حقيقته بشرا ضعيفا يتعرض للمرض من زكام واسهال وإمساك شأن بقية البشر ممن يعتقد فى كراماته ويتوسل به  ، فكفتهم العزلة شر هذا الاعتقاد فيهم ، خاصة وقد عاشوا عالة على الناس من حكام ومحكومين . ولهذا إستمر الصوفية حتى اليوم على العزلة غير الدائمة .

4 ــ ونعرض لعلاقة الصوفية بطوائف المجتمع من تجار وفلاحين وحرفيين وغيرهم. والشعراني مرجعنا الأساسي نظرا لكتابته الكثيرة وعمق تعايشه مع عصره الذى شهد تسيد التصوف وتشعب  وتعمق علاقة الصوفية بالناس..

عــــــلاقة الصوفية بالتجــــــــــــار

1 ـ تمثلت في طبقة التجار القوة الاقتصادية للشعب المصري في العصر المملوكي ، حتى ان التاجر كان يمثل الفتى " الأرستقراطي"  في حكايات ألف ليلة وليلة . وثراء التجار أطمع فيهم أولياء التصوف في نهاية العصر ، فتنافسوا على تحويل التجار الميسورين الى مريدين طلبا للهدايا والعطايا والنذور والنقوط .

2 ــ الا ان حرفة التجارة وما تلتزمه من حرص على جمع المال وسعة في الأفق  لدى التاجر ومعرفة لديه بطرق الخداع ــ قد فرض بعض الصعوبات في تعامل الصوفية مع التجار ، وأحسّ الشعراني بذلك وخشى أن يتطور الأمر من إنكار بعض التجار على الصوفية الى إنكار لدين التصوف نفسه والخروج التام منه ، لذا نراه يحرص على استمالة المنكرين من التجار على بعض الصوفية ويدعوهم  إلى الاعتقاد في الصوفية )[7]  كما ينصّب نفسه ناصحا للتجار فيدعوهم للفضائل ويضع لهم أداب الجلوس في السوق [8]  . ومع ذلك فإنه يتهم التجار بطاعة الزوجات وأنهماكهم في الشهوات ، ففي حديثه عن المرأة وتحكمها فى الزوج يستشهد بالتجار فيقول : ( وان كانت تحكم عليه أي الزوج فهو تحت حكمها كما هو شأن من استرقتهم شهواتهم من التجار والمباشرين وغيرهم ، فلا يقدر احدهم على مخالفة زوجته أيضا )[9]. وإنتقد الشعرانى تفاخر التجار في اللباس حين دعى للتواضع في الحج بلبس الثياب اللائقة  ، وقال ( لا كما يفعل التجار )[10]  ودعا للإكثار من الصلاة في الحرم فى تأدية فريضة الحج ، والّا يفعل ( كالتجار الذين يبيعون في الموسم القماش ، ولا يستمتع أحدهم بالطواف والصلاة في جماعة ، فيصير في النهار غافلا وبالليل نائما )[11]..

3 ـ والواقع أن كثرة المتصوفة في عصر الشعراني وتكالبهم على أموال التجار وتنافسهم على تحويل التجار الى مريدين و ( مُمولين ) قد أرهق طبقة التجار، فتبرموا بكثرة مطالب شيوخ الصوفية بأخذ التبرعات من التجار بحجة عمل الموالد والولائم . وحتى لا يتطور الأمر الى الى كفر التجار بالتصوف نرى الشعراني يحاول ان يصلح الحال حماية للطريق الصوفي ، ونلمح ذلك من التمعن في قوله :  ( أُخذ علينا العهود ما دمنا فقراء من المال ان لا نعمل مولدا لطفل ولا طهورا ولا سبوعا ولا وليمة واسعة ولا عزومة كبيرة ولا غير ذلك حفظا لديننا ، ورحمة بإخواننا التجار الذين لا يهون على احدهم كسرة ليتيم ، فانهم اذا رأونا  في مُهمّ (يعني حفل) ربما تخوفوا في مساعدتنا رياء وسمعة او غصبا في عمل الطاعم أو في النقوط  للمداحين ،ونحو ذلك. ويقولون فيما بينهم :ـ" ما بقى في هذه المسألة إلا سدّها" .  وأكثر اخوان الفقير (يعنى اتباع الصوفى ) الان في هذا الزمان على علاله في صحبته ( يعنى متحرج متثاقل ومثقل بصحبته ) لأمور يطول شرحها من جانبه ومن جانبهم . وربما يقولون فيما بينهم : "بلغنا ان سيدي الشيخ ناوى يعمل مولدا أو طهورا أو عرسا لولده وما نعرف والله نساعده بايش.! وأيش قام على الفقير (يعنى الشيخ الصوفي) أن يعمل له مولدا او غيره ويكلف الناس ؟!" . فاذا قال بعضهم : "انا ناوى لا أساعده ولا احضره" يقول له بعضهم : " فضيحة من الشيخ ويبقى يعتبك وجماعته. " فيحتاج ان يحضر بغير نية صافية خوفا من العتب وإظهارا للتخوف كالمكره .!.)[12].

4 ــ وقد فهم الشعراني نفسة التجار في عصره فحاول اجتذاب بعضهم الى صفة خاصة أولئك المنكرين.  وقد روى الشعرانى أن احد التجار كان ينكر عليه، فاستماله الشعراني بأن رفض أن يشترى منه جبة بثمن قليل ، ودفع فيها الشعرانى سعرا زائدا ، فاعتقد التاجر من وقتها في أن الشعراني من الأولياء وصار مريدا له [13]. وبهذه الحيلة خسر الشعراى بضع دراهم وكسب مريدا ثريا من التجار .

5 ــ والواقع ان القرن التاسع شهد دخول الكثيرين من التجار الى دائرة التصوف او الاعتقاد في الصوفية مع عدم التخلي عن التجارة،  فقال المؤرخ السخاوي عن ابن عليه التاجر أنه  رزق من التجارة لإخلاصه ومحبته للفقراء واعتقاده فيهم ، وأنه صحب الشيخ محمد الغمري وغيره من المسلكين الذين يعطون العهود لمن يسلك فى دين التصوف ويكون مريدا ، ويقول السخاوى عنه أن بيته صار موردا للصالحين .... بل محلا  لإقامة غيرهم بعيالهم [14]. وقال السخاوى عن تاجر آخر غيره أنه نزل صوفيا في الخانقاه الجمالية واقتصر على التكسب مع التعبد والتلاوة ... )[15]



[1]
ــ الجوهر والدرر 267: 268

[2]ــ لطائف المنن 344

[3]ــ البحر المورود 187

[4]ــ وثيقة بيبرس الجاشتكير ..

[5]ــ وثيقة جمال الاستادار

[6]ــ تراجم مختلفة ترجمة القبارى في زبدة الفكر مخطوط 9 / 89 ، ترجمة نصر المنبجى في تاريخ ابن الوردى 2 / 368 ، ترجمة ابن سلطان في النجوم الزاهرة 15 / 542 ..

[7]ــ لطائف المنن 172

[8]ــ لطائف المنن 353 : 354  لواقح الأنوار 25 : 26 ، 133 ، 134 ، البحر المورود 130 ، 134 ، 72 ، 2731 ، 320

[9]ــ لواقح الأنوار : 288

[10]ــلواقح الأنوار 105 ، 94 ، 106

[11]ــ لواقح الأنوار 106

[12]ــ البحر المورود 304

[13]ــ لطائف المنن 172

[14]ــ الضوء اللامع 1 / 41 : 42

[15]ــ الضوع اللامع 1 / 13 ..

اجمالي القراءات 954