أثر التصوف فى (التفسير) في العصر المملوكي : ( 1 )

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١٧ - يونيو - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

أثر التصوف فى (التفسير) في العصر المملوكي : ( 1 )  

كتاب : أثر التصوف  المعمارى والثقافى والاجتماعى فى مصر المملوكية

الفصل الثانى  :( أثر التصوف الثقافى فى مصر المملوكية )

أثر التصوف فى (التفسير) في العصر المملوكي : ( 1 )

مقدمة :

1 ـ كيف شارك الصوفية في العلوم السنية القائمة فعلا..؟ أسهموا في جمودها وتأخرها من واقع النظرة العامة . ونبحث بالتفصيل الأثر الصوفي في التفسير والحديث والتاريخ كأهم مواد علمية اهتم بها الصوفية .

2 ـ على أن اهتمامهم اقتصر على مواضع بعينها من هذه العلوم كتفسير آيات محدده وشرح احاديث خاصة بعضها موضوع بجهدهم هذا مع ترويج بعض الأحاديث الموضوعة من غيرهم طالما تخدم دعوتهم .ونبدأ بأثرهم فى التفسير .

اثر التصوف فى ( التفسير ) في العصر المملوكي

لمحة عن ( علم التفسير قبل العصر المملوكى )

1 ــ تعهد الله سبحانه وتعالى أن يضمن حفظ قرآنه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر:9 ، وذلك حتى لا يتعرض القرآن لمثل ما تعرضت له الكتب السماوية قبله من تأويل وتحريف ــ إلا أن أصحاب الأهواء ــ  وقد عجزوا عن النيل من نصوص القرآن   ــ ركزوا همهم في التلاعب بمعانى القرآن بما يعرف بالتفسير والتأويل واخضاع المتشابه من الآيات الى مفاهيمهم ، وهو جهد تنبأ القرآن بحدوثه في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) آل عمران : 7 )،

2 ــ ومن البداية نعتذر مقدما من إضطرارنا لاستعمال كلمة ( التفسير ) ، ونعلن أنها تكذيب لتأكيد رب العزة بأن القرآن كتاب مبين وأن آياته مبينات ، وأن بيان القرآن فى القرآن وتفسير القرآن بالقرآن . وأن إستعمال كلمة ( التفسير ) فيه إتهام لرب العزة بأنّه ـ تعالى عن ذلك علُوا كبيرا ــ أنزل كتابا ناقصا يحتاج للبشر لاستكماله ، وأنزله غامضا يحتاج من البشر الى تفسير وتأويل ، وأنه أنزل كتابا تتناقض أحكامه ويُلغى ـ أو بزعمهم ـ ينسخ بعضها بعضا ، أو أنه أنزل كتابا محليا مرتبطا بمواضع النزول مقتصرا عليها ، لا ينفع الناس الى يوم القيامة ، أنه أنزل كتابا ليكون فى الدرجة الثانية بحيث تكون أقاويل البشر فى  (السُنّة ) وأقاويل المفسرين وآراء الأئمة حكما على الآية القرآنية ، فلا يؤخذ بآية القرآنية إلا إذا كان أقاويل البشر مؤيدة لها ، شأن التلميذ الذى لا يؤخذ برأيه إلا إذا كان معه ولى أمره .!! . تعالى الله جل وعلا عن ذلك علوا كبيرا . إنه الشطط الذى وقع فيه أئمة السنيين والشيعة والصوفية ، والذى ترتب عليه إتهام القرآن الكريم بأنه ( حمّال أوجه ) يعنى متناقض وفيه الرأى ونقيضه . ونتبرأ مقدما من هذا كله ونُنزّه عنه رب العزة وكتابه الفرقان الذى أُحكمت آياته ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير ( هود 1 ).

3 ــ من بدايته عرف علم ( التفسير) السُّنّى ما يعرف بالاسرائيليات، واصطنع البعض (التفسير بالمأثور)، ولو كان هناك فعلا تفسير بالمأثور قاله النبى ــ حسبما يزعمون ـ لتوقف عنده ( علم التفسير ) ، ولم يجرؤ أحد على الكتابة بعد أن قال النبى القول الفصل فى التفسير . ولكن أنكر ابن حنبل نفسه التفسير بالمأثور فى قوله المشهور : ( ثلاثة لا أصل لها : التفسير والملاحم والمغازى ) . لم يقتنع أحد بصُدقية هذا التفسير بالماثور ، أو بصحة إسناده للنبى والصحابة ، فتكاثرت ( تفاسير ) القرآن فى العصر العباسى الثانى وبعده برعاية الفقهاء  السنيين ، تحمل وجهات نظر أصحابها ، وتحمل ملامح ثقافته وتخصصه وإتجاهاته ، من الطبرى فى بداية العصر العباسى الثانى الى القرطبى وابن كثير فى العصر المملوكى ، وتنوعت إتجاهاتهم ( التفسيرية ) بعضهم يغلّب فى تفسيره علوم اللغة والنحو ، وبعضهم يثرثر بالروايات وأسباب النزول ، ومعظمهم يرصّع تفسيره بالأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين الذين ماتوا دون أن يعلموا شيئا عمّا أسندوه اليهم من أقوال.  وأضحى القرآن الكريم مجالا للتلاعب السُّنّى ، خصوصا مع ما يسمى بعلوم القرآن التى تطعن فى القرآن وفى تدوينه ، ومزاعم النسخ بمعنى إلغاء الأحكام التشريعية والزعم بتناقضها وإلغاء بعضها البعض .

4 ـ ثم دخل الميدان الصوفية الاتحاديون ( القائلون بالاتحاد والحلول ووحدة الوجود ) يحاولون ربط عقائدهم بالقرآن بالتأويل في التفسير والوضع في الحديث ، والصوفية الآخرون كان لهم جهدهم في شرح بعض الآيات بما يخدم غرضهم، ويكفى أنهم أرسوا في الأذهان أنهم اولياء الله المقصودون بقوله تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) مع ان الولاية والتقوى والإيمان والخشوع كلها صفات عامة مطروحة أمام جميع البشر، وعليهم أن يتحلوا بها لو شاءوا الهداية ، وليس هناك من ولى دائم بسبب الصراع المستمر بين الخير والشر في نفس كل إنسان، تلك النفس التى وصفها سبحانه وتعالى بقوله ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا  فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا  قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا )الشمس : 7 : 9 ، ولأمثال أولئك يقول سبحانه وتعالى عمن يسبغون ما شاؤا من صفات على أنفسهم (فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى ) النجم : 32 ، ويقول (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) آل عمران : 188 ، ولو أنصفوا لنظروا في حالهم ــ وقد اتخذوا بدافع من انفسهم هم ــ ودون اختيار من الله ــ اولياء لهم، ثم لم يكتفوا بذلك بل توسلوا بهم واعتقدوا فيهم المنفعة والضرر وأضفوا عليهم التقديس والتأليه ، مع أن الولى بهذا المفهوم لا يكون إلا الله تعالى ، وسبق أن رب العزة ردّ عليهم مقدما ، في قوله تعالى (أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الشورى : 9 ، ويؤنبهم (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) الزمر : 36 ..والتفاصيل فى هذا سبقت فى كتابنا ( السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة ) و ( أثر التصوف فى الحياة الدينية فى مصر المملوكية / الجزء الأول الخاص بالعقائد ).

5 ـ ولقد سبق المستشرقون في بحث جهد الصوفية في التفسير. فيرى نيكلسون (أن القرآن في جملته لا يصلح لأن يتخذ أساسا لأي مذهب صوفي ،ومع ذلك فقد استطاع الصوفية بالتأويل شرح بعض الآيات بما يخدم غرضهم، وادعوا أن كل آية في القرآن تخفى وراءها  معنى باطنا لا يعرفه إلا الأولياء )  [1]

و جولد زيهر يقول أن الصوفية (عبروا عن تفسيرهم بلفظ إشارات للتحايل على العلماء الآخرين في التأويل الصوفي ، ومراعاة لذلك لا يسمون تأويلهم للقرآن تفسيرا ، لأن ذلك يقتضي أن يكون مصحوبا لمعاني القرآن بالشرح والتفسير )، ويجعل من خصائص التفسير الصوفي تحريف النصوص القرآنية لتكون سندا للتصوف ، ويستدل على ذلك بكثرة تفسيرهم للآيات التي تحث على الذكر الكثير ، ويتجاهلون الآيات التي توضح كيفية الذكر في الإسلام لأنها تتعارض مع طريقتهم في الذكر ، وهي قوله تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ) الأعراف 205)[2]) .

وأقول ويتجاهلون  أيضا الآيات التي تنهى عن اتخاذ الدين لهوا بمثل ما يفعلونهم في ذكرهم القائم على الرقص والغناء والموسيقى في بيوت الله كما سبق بيانه بالتفصيل فى الجزء الثانى ( كتاب العبادات)/ ( فصل الذكر ) من كتاب ( الحياة الدينية فى مصر المملوكية ) .

وقد يستنكف البعض من الاستشهاد بكلام المستشرقين (سيىء النية) مع ان الحق ينبغي اتباعه بغض النظر عن شخصية قائله .  ولذلك فإننا سنعيش مع التفسير الصوفي ولن نجد فارقا بينه وبين اقوال المستشرقين عنه.



[1]
ــ في التصوف الإسلامي 76 / ونحو ذلك في : الصلة بين التصوف والتشيع 432 : 425

[2]ـ جولد زيهر ـ مذاهب التفسير الإسلامي 247 ، 282 ، 283

اجمالي القراءات 975