أطلق المؤرخون ألقابا شتى على الطبقة الشعبية في القاهرة المملوكية ومنها " العوام " و" الزعر " و " الحرافيش"
وقد ظهر لقب الحرافيش في أواخر العصر المملوكي منذ القرن التاسع الهجري ثم ساد هذا الوصف للطبقات الشعبية في العصر العثماني .
وقد عمل الحرافيش في المهن الدنيا أو كانوا بلا عمل ، وفي أغلب الأحوال كانوا فقراء ، ولكن استطاع بعضهم الوصول للثراء ، وعن طريق الثراء وصلوا إلي المناصب العليا ، حيث كان يتم شراء المناصب الرسمية بالرشوة وحيث أقيم ديوان للرشوة اسمه " ديوان البذل والبرطلة" كان من سيئات الدولة المملوكية .
وأشهر الحرافيش الذين وصلوا للمناصب العليا كان الوزير محمد البباوي الذي ولاه السلطان خشقدم الوزارة في ربيع الأول 868هـ ، وتعرض السلطان للانتقاد بسبب ذلك التعيين ، وعدوا توليته للبباوي من مساوىء تصرفاته ، يقول ابن إياس عن البباوي " وهو أول زفوري تولى الوزارة بمصر ، ومن يومئذ انحط قدر الوزارة جدا، وتبهدل هذا المنصب إلى الغاية " . وصفه ابن إياس بأنه " زفوري" المأخوذة من " الزفارة " لأن البباوي عمل طباخا وجزارا ، وتلك مهن كانت لا تتمتع باحترام المثقفين في العصر المملوكي.
وقد احتفظ البباوي بأخلاقه كما هي، يقول عنه ابن إياس " وكان البباوي أصله طباخا من معاملي اللحم وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، وفي كلامه غرثلة وعنده عترسة "!!
ويقول عنه المؤرخ ابن الصيرفي إنه " كان يتكلم بكلام لا يجوز شرعا ولا عرفا ولا عادة ولا مادة ولا طبعا ولا مروءة وهذا مشهور بين الخلائق.."
والمؤرخ الأرستقراطي المملوكي الأصل أبو المحاسن احتج بشدة علي تعيين البباوي وتندر عليه فقال إن البباوي( إذا أراد أن يأمر الكاتب بأن يكتب شيئا قال له : اضرب بالقلم!!)
ومن الطبيعي أن يكون المثقفون الفقراء أكثر الناس اعتراضا واحتجاجا علي تعيين البباوي ، وكان منهم شعراء سلقوا البباوي بألسنة حداد .. يقول ابن إياس " فلما تولي البباوي شق ذلك علي الناس لكونه لم يكن من أهل ذلك .."
ويقول :" وجاء مجيئه علي الناس مجيئا فاحشا، وهجاه الناس هجوا كثيرا ، فمن ذلك قول بعض الشعراء :
قالوا البباوي قد وزر
فقلت كلا لا وزر
الدهر كالدواب لا
يدور إلا بالبقر
وفيه قيل أيضا :
تجنب العلم والفضايل
ومل إلي الجهل ميل هايم
وكن حمارا مثل البباوي
فالسعد في طالع البهايم )
وحين تولي البباوي الوزارة لبس هيئة الوزير " الخف والمهاميز والطوق " وسكن في بيت الوزراء في بركة الرطلي ، بالقرب من العباسية الآن وأصبحت " الكوسات" أو الفرق الموسيقية تدق علي بابه، وفرض سلطانه علي كبار الموظفين ، يقول عنه ابن إياس " وهابته جميع الناس من المباشرين وغيرهم، وكان له بمصر حرمة وافرة وكلمة نافذة ، لا يقبل رسالة من أمير ولا قاض " . وواضح أن البباوي اتخذ موقفا متشددا من المثقفين الذين كانوا يمثلون طبقة كبار الموظفين ومشايخ العلم والقضاة ، فكان لا يقبل لأحدهم رسالة توصية أو غيرها ، وتتبع انحرافاتهم الخلقية فكان يعاقبهم ويجد فرصته في الانتقام منهم ، يقول عنه ابن إياس " وفي مدته صادر جماعة من المباشرين والتجار وكان يكبس البيوت علي الناس في أيام النيل في بركة الرطلي.) وكانت بركة الرطلى على النيل فيما يعرف الآن بالساحل فى منطقة شبرا ، وكانت مشهورة بأماكن الانحلال الخلقى فى العصرين المملوكى و العثمانى ، وكان يرتادها الشيوخ و كبار الموظفين. وبسبب هذه العادة وجدها البباوى فرصة فى الايقاع بهم وضبطهم متلبسين ليوقع عليهم العقاب .
وانتهت حياة الوزير البباوي نهاية مأساوية ففي يوم الأربعاء آخر أيام ذي الحجة 869 كان في النيل في مركب فغرق هو ونجا جميع من معه، ولم يعثر له علي أثر ، ويقول ابن إياس عن غرقه المفاجيء " وكان عبرة من الله تعالي في غرقه ، وكان البباوي قد سطا علي الناس وحصل منه الضرر الشامل وكان ظالما عسوفا .. وكان صفته أسمر اللون جدا طويل القامة غليظ الجسد أسود اللحية وعنده عترسة وغرثلة في كلامه ، عامي الطبع ، خاليا من الفضيلة، لا يقرأ ولا يكتب ، وكانت وزارته من غلطات الزمان "..!
وفي عصر قايتباي تولي منصب نظر الدولة أحد أقارب البباوي وكان أيضا من العوام ، و" نظر الدولة " منصب يقوم الآن بمثابة الجهاز المركزي للمحاسبات تقريبا . واحتج المؤرخ ابن الصيرفي علي ذلك أثناء حديثه عن كبار الموظفين في سلطنة قايتباي ، فقال" نظر الدولة بيد شخص عام لحام ـ أي جزار ـ زفوري ، وكان مقدم الدولة في وزارة البباوي".
ملاحظة : تم نشر هذا المقال فى اول مايو عام 1992 فى جريدة ( العالم اليوم ) وكنت أتندر بطرق غير مباشر على مستوى الوزراء وقتها، وأعاد أخى عبد اللطيف كتابة المقال وأرسله لى ، ولم نكن نعرف أنه ورفاقه سيلقون السجن و التعذيب بسبب جهدنا التنويرى..
وثبت أننا كنا نحسن الظن بخلفاء البباوى !!..
فان البباوى لا يزال يحكم مصر المحروسة و لا يزال يحمل عقدة النقص من المثقفين و المصلحين .
وبالمناسبة فقد كانت للبباوى سلطته وهيبته فى عصره ، ثم هوى الى مزبلة التاريخ بينما بقى حملة القلم من المثقفين أحياء بعد موتهم فيما كتبوه . لا يزال حيا ابن اياس وابن الصيرفى و ابن تغرى بردى أو المؤرخ أبو المحاسن . كانوا فى حياتهم يخشون سطوة البباوى ، ومات البباوى وماتت معه سيرته الخبيثة التى تناثرت بين ثنايا التاريخ المملوكى ، والتى كتبها عنه أعداؤه المثقفون .. والعادة انه عندما يتنافس السيف و القلم فان القلم هو الذى يكسب ..
ماذا ستقول الأجيال القادمة عن مبارك واسرته وزبانيته ؟