ßÊÇÈ الزكاة
الفصل الأول : دورالزكاة المالية ( الصدقة ) فى تزكية النفس عقيديا

في الإثنين ٢٣ - ديسمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

الفصل الأول : دورالزكاة المالية ( الصدقة ) فى تزكية النفس عقيديا  

 

(1 )الايمان بأن توزيع الرزق بيد الله جل وعلا ، فهو الذى يبسط الرزق لمن يشاء ، ويقدره على من يشاء.
مقدمة:
قضية الرزق مدخل هام لفهم التزكية العقيدية الايمانية لدى المؤمن (الذى يؤتى ماله يتزكى ) مبتغيا به وجه الله جل وعلا ، غير ناظر لأى لمحة شكر من البشر.
وقد توقفنا فى نفس الموضوع مع قضيتى ( المال مال الله ) و ( الايمان بالدنيا أو الايمان بالآخرة ، أو إرادة الدنيا أو إرادة الآخرة )، ونتوقف الآن مع لمحة أخرى من ملامح ( الرزق ) فى رؤية قرآنية من خلال قوله سبحانه وتعالى :(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِير)(الشورى 27. . )
أولا:
1
ـ يستطيع الضال أن يزداد ضلالا بالقرآن لو أراد ، كما أن الباحث عن الهدى يجد فى القرآن الهداية ويزداد به هدى طالما توجه للقرآن الكريم بقلب سليم ، لذا يقول رب العزة ) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا ( ( هلاسراء 82).
مريد الهداية يدخل على القرآن الكريم بلا رأى مسبق ، ويفهم مصطلحات القرآن من خلال السياق القرآنى بعد أن يكون قد قام بتجميع كل الآيات المعلقة الموضوع ويبحثها معا متتبعا سياقها العام وسياقها الخاص .أما مريد الضلال فيدخل بهواه ورأيه المسبق ينتقى من الآيات ما يراه موافقا له فى الظاهر ، ويفهمها حسب الشائع من مفاهيم التراث واللغة العربية الراهنة ، ويتجاهل ما يعثر عليه من الايات مخالفة وجهة نظره المسبقة. ومن الطبيعى أن يظهر له تناقض واختلاف فى فهم الآيات بسبب عوج منهجه ، ويفرح بهذا التناقض ويسارع بالهجوم على القرآن ـ إن كان علمانيا لادينيا ـ أو يسارع باخضاع القرآن لوجهة نظره التراثية إذا كان من اتباع الأديان الأرضية.
2
ـ فى نفس الوقت فان للقرآن الكريم مستويات للفهم حسب ما تعطيه من تدبر و تعقل ، وحسب ما تملكه من أدوات البحث والاجتهاد.  هناك درجة ميسرة للذكر (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) ( القمر17 )، وهى الفهم البسيط للآية الكريمة بمجرد قراءتها ، وفى الاية الكريمة السابقة فالفهم البسيط والواضح لها أن الله تعالى لو بسط الرزق لعباده وأعطاهم الكثير منه لبغوا وطغوا ، ولكنه جل وعلا لا يبسط لهم الرزق بل يعطيه لهم بقدر حسب مشيئته ، وحسب علمه ، وهو جل وعلا بعباده خبير وبصير. هذا هو الفهم الايمانى البسيط الذى يتعقله كل مؤمن بدون حاجة الى تدبر أو اجتهاد . وهناك تعمق فى البحث والاجتهاد يعتمد على توفر أدوات الاجتهاد للباحث ، وهذه الأدوات الاجتهادية و المقدرة البحثية مجرد عامل محايد يخضع لمؤثر كبير هو هداية الباحث أو ضلاله.
3
ـ فأصحاب الاجتهاد نوعان : نوع يجتهد فى الاضلال ونوع يجتهد بحثا عن الهداية.
المجتهدون فى الضلال ، ينطبق عليهم قوله جل وعلا (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ) (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) ( سبأ 5 ، 38 ) (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ ) ( الشورى 35)..
هم يستخدمون قدرتهم البحثية فى تتبع الآيات بحثا عن عوج وتناقض دون فهم لمعانى الكلمات القرآنية حسب سياقها ، لذا يمكن أن يرى تعارضا بين الآية الكريمة التى تقول ان الله جل وعلا لا يعطى الرزق الوفير لعباده المخلصين وبين آيات أخرى تحث المؤمنين على الصدقة وتعدهم بربح مضاعف ، مفهوم أن منه ما سيأتى فى الدنيا ، وهى آيات كثيرة منها : (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة 195 )، ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( سبأ 39 ) (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ) ( سبأ 36 : 37 )(مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (البقرة 245)...

ثانيا:
1
ـ المجتهد الباحث عن الهداية يستخدم المنهج العلمى فى فهم مصطلح الرزق حسب السياق.والرزق نوعان : حقيقى ووهمى.
2
ـ هناك الرزق الحقيقى الموحد لكل البشر ، والذى تقوم على أساسه حياتهم وبقاؤهم المادى ، من الهواء والماء و الطعام وضوء الشمس .. هذا الرزق الالهى ميسور بل ومجانى بقدر حاجة الانسان اليه ، فالانسان مثلا لا يستطيع العيش بلا تنفس خمس دقائق ، لذا كان الهواء أثمن نوع من الغذاء ، وبدون الاوكسجين لا يستطيع البشر الحياة ، ولهذا جعل الله جل وعلا الهواء مجانا لا دخل للبشر فى التحكم فيه ، وتخيل العكس ، وكان للمستبد العربى حرية التحكم فى الهواء بيعا وشراءا وانتاجا كما يفعل فى البترول و المعادن و وأدوات الانتاج والثروة ـ من النوعية الأخرى من الرزق ـ الوهمى ـ والتى سنعرض لها ؟ عندها لن يعيش سوى السلطان وحاشية السلطان.!!بعد الهواء يأتى الماء ، وهو ميسور بقدر الحاجة ، فلا يستطيع الانسان العيش بدون ماء يوما أو بعض يوم حسب درجة الحرارة و نوعية الغذاء ، ثم يأتى الغذاء وأكثره وفرة هو أكثره فائدة . ويضطر الانسان الى العمل للحصول عليه ، ثم اللباس و المسكن ، وهكذا.بايجاز ، فالرزق الأساس هو كل ما يدخل الجسد ويخرج منه وما يقى جسده من مرض او تقلبات الجو . هذا الرزق قد ضمنه الله جل وعلا لكل كائن حى ، وليس فقط للانسان ، وبالاضافة الى حتميته فهو مكتوب بتفصيلاته ، من المدخولات و المخرجات ، اى محسوب بدقة متناهية مقدار ما تتنفسه طيلة حياتك ومقدار ما يخرج منك من شهيق ، ومقدار استهلاكك للماء والطعام ومقدار ما يخرج منك ، وهكذا طالما كنت على الآرض تسعى ، فإذا جاء الموت ،أو الوفاة ـ بمعنى توفية كل المقدر لك فى هذه الدنيا من حتميات ومن رزق أساس ـ فان جسدك الميت يتحلل الى غازات وماء وتراب ويعود الى العناصر الأرضية التى جاء منها.
يقول جل وعلا (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )(هود 6) فهو جل وعلا المتكفل برزق كل دابة ، أى كل كائن حى يدب على الآرض سابحا فى الماء أو طائرا فى الهواء أو على الثرى . وهذا الرزق هو الذى يساعدها على ان ( تدب ) على الأرض ، أى أن تعيش . وهو جل وعلا يعلم من أين جاءت هذه الدابة ـ الميلاد ـ والى أين تنتهى وتعود ـ الموت و التحلل ، وكل ذلك مسجل ومكتوب ، من الرزق الى ما قبله (أى قبل مجىء الدابة وخلقها )، وما بعده (حين يتحلل جسدها ويعود الى العناصر الأرضية التى جاء منها)...
ويقول جل وعلا : (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ )( ق 4) ،أى فالمادة ـ والطاقة ـ لا تفنى ولا تأتى من عدم ، ولكن تتقلب فى صور شتى ، فكل ما يستهلكه البشر طيلة حياتهم من اوكسجين وثانى اوكسيد الكربون فى التنفس وكل ما يستهلكونه من ماء ومن طعام ومن موارد الطبيعة سينتهى فى النهاية الى الخروج من أجسادهم ، فالشهيق يتبعه زفير و الشراب يخرج عرقا وبولا ، و الطعام يتحول الى طاقة و ينتهى الباقى الى فضلات بشرية ، وكل ذلك أثناء حياة الجسد وسعيه ، فإذا مات الجسد تحلل ، يخرج منه الماء ويتيبس ، ثم ينفجر ، و ينمو فيه الدود الذى يتغذى عليه ويموت فيه ،اى الدود ، وفى النهاية يتحلل ما بقى منه الى غازات ـ كريهة الرئحة ـ و تراب ، يعود الى الأرض كما جاء منها إنتظارا للبعث :( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ) ( طه 55) .
ويقول جل وعلا :( وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)( العنكبوت 60 ) ، أى فهذا الرزق الأساس الذى تكفل به الخالق جل وعلا يستوى فيه الانسان الساعى للرزق بعقله وجهده مع الدابة الضئيلة الساكنة المتعلقة بصخرة فى جوف المحيط ، يأتى الرزق لهذه الدابة ( الانسان ) ولتلك الأميبا طالما ظلت على قيد الحياة.
3
ـ النوع الآخر هو الرزق الظاهرى المؤقت الذى يتراءى لكل إنسان ويتلاعب به ،ولا يستطيع الانسان الامساك به والاحتفاظ به طيلة حياته . يتمثل هذا الرزق الوهمى فى رصيدك فى البنك ( مجرد أرقام ) والسيولة المالية التى فى جيبك ( مجرد أوراق ) و الذهب و الأحجار الكريمة التى تحوزها ( هى مجرد أحجار لاتستطيع أكلها أو شربها ، وانت مضطر للحفاظ عليها لمن سيأخذها بعدك ، كما كانت لمن قبلك ) و المساكن ( لا تحتاج منها إلا لمقدار ما تريح ظهرك أو أطرافك ومقعدتك وأنت نائم او جالس )، والأراضى ،وهى نفس الحال كالمساكن ، وكانت لمن قبلك وستئول لمن هو بعدك ، وسبحان من سيرث الآرض ومن عليها بعد انقراض البشر ..!( إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ )( مريم 40)..
المضحك فى ذلك الرزق الوهمى أنه من الكماليات التى يمكن الاستغناء عنها ، ولكنه مرتفع السعر و ثمين و غال بسبب غفلة الانسان وقلة عقله . الأحجار (الثمينة )أو ( الكريمة ) هى مجرد أحجار ، ولكن لأنها نادرة عزيزة المنال فقد أصبحت كريمة غالية يتقاتل من أجلها البشر المغفلون ، مع أنه يوجد ملايين البلايين من البشر عاشوا وماتوا و سيعيشون وسيموتون دون حاجة للتحلى بالأحجار الكريمة.
4
ـ من حكمته جل وعلا أن جعل أساسيات الرزق مجانية أو شبه مجانية ، وتكقل بها لكل دابة ، و لكن تلك الكماليات الزائدة هى الأشياء الغالية الباهظة التى يتفاضل فيها البشر ، هى الرزق الذى يبسطه الله تعالى لمن يشاء و يقلله لمن يشاء بداءا من الذهب و الفضة الى ما يقوم مقامهما من عملات ورقية وحسابات بنكية ترتفع وتنخفض ، وأسهم وسندات أكثر تقلبا فى الأسعار.
وكل متلهف على أسعار البورصة وأسعار العملات والأسهم و السندات هو آمن على رزقه الأساس من الطعام والشراب والاوكسجين و النوم واللباس ، ولكنه فى غفلة عن الشكر لله جل وعلا الذى يطعمه ويسقيه ، بل ربما يسقط صريعا أو مريضا بسبب خسارة مفاجئة فى البورصة ، أو يفسد فى الأرض ليزيد من رصيده من ذلك الرزق الوهمى.
أما المؤمن برب العزة ، والذى إختار الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فيظل حامدا شاكرا لله جل وعلا أن تكفل له بالرزق الأساس وهو الطعام و الشراب ، والشفاء من المرض ، ولا يهتم كثيرا بالرزق الوهمى لأنه مشغول بالرزق الباقى الدائم الخالد وهو نعيم الجنة فى الآخرة ، لذلك يدعو ربه أن يتفضل عليه بالأهم وهو الجنة فى الآخرة والنجاة من النار ، وهذا هو دعاء ابراهيم عليه السلام : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ....)( الشعراء 78 ـ)
5
ـ المضحك فى ذلك المال فى الرزق الوهمى أنه يزول بمجرد أن تستفيد منه ، فالعملة الورقية مجرد ورقة معك ، لا تنفع ولا تغنى ولا تسمن من جوع ، ولكن بمجرد أن تستفيد منها بشراء شىء ضاعت من يدك وانتقلت الى يد شخص آخر لتبقى معه قليلا ثم تنتقل بالبيع والشراء الى ثالث ، وهكذا يتخللنا ذلك الرزق الوهمى متنقلا من شخص الى آخر ، يتراقص أمام أعيننا ، يخرج لسانه لنا ، ونحن نعدو خلفه نتقاتل من أجله ونتصارع إلى أن يدركنا الموت فيصرخ الضال طالبا فرصة أخرى بدون جدوى ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ( المؤمنون 99 : 100) .
اى تضيع الورقة المالية بمجرد ان تستفيد منها فى استهلاكك اليومى ، سواء كان المتج المستهلك يدخل فى جوفك من طعام أو شراب أو دخان ( سجائر ) أو كان لمتعة حلال أو حرام. وهذا المنتج المستهلك الذى تستهلكه لا يلبث أن ينتهى الى إخراج فى دورة المياه أو الى زفير فى الهواء مجرد هواء ودخان ،أو الى ملكية ظاهرية كأن تتملك أرضا أو عقارا تملكه ملكية ظاهرية الى ان تفارقه بالموت أو أن يفارقك بالبيع و الشراء أو بالخسارة.
الحالة الوحيدة التى لايضيع فيها المال أو الرزق الوهمى هو أن يتحول الى رزق خالد دائم فى الآخرة ، أى رزق الجنة ، هنا تتضاعف قيمة العملة الورقية حين تؤتيها صدقة فى سبيل الله جل وعلا ابتغاء مرضاة الله دون اهتمام بأن يشكرك أحد من البشر ، هنا تنجو من عذاب النار و تتمتع برزق النعيم فى الآخرة ، يقول تعالى عن النار :( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى) ( الليل 17 ـ)
6
ـ وهذه هى الناحية الايمانية فى مفهوم الرزق ، والتى يجب على المؤمن تنفيذ أوامر ربه بالانفاق فى سبيل الله جل وعلا حتى لا يندم عند الموت ، وهذا ما أوصى الله جل وعلا به المؤمنين وهم أحياء قبل أن لا يجدى الندم :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ( المنافقون 9 : 11).
أى من هذا الرزق الوهمى يجب أن نتنافس فى الخير وليس فى الشر ، وأن نؤتى منه الصدقة زكاة للنفس و المال ، وبدون هذه الصدقة لا يتطهر هذا المال الوهمى ولا يزكو . هذا هو ما يفهمه المؤمن مريد الآخرة ، وهذا هوتصرفه فى الرزق الوهمى.
7
ـ عرفنا هذا الرزق الوهمى أنه الذى يقول عنه رب العزة : (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِير)(الشورى 27 ). ولكن من هم العباد الذين يقصدهم الرحمن فى قوله ( لعباده ) ؟ وما معنى أنه لا يبسط لهم فى الرزق الوهمى حتى يبغوا فى الأرض ؟
رب العزة هنا يتحدث عن عباده المهتدين الذين أرادوا الآخرة وسعوا لها سعيها بالايمان والهدى. والمقابل أو الجزاء أنه جل وعلا يزيدهم هدى وإيمانا (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) ( مريم 76 )( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ) (محمد 17 ) (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )( العنكبوت 69)...ومن وسائله جل وعلا فى زيادة هداهم أنه لا يبسط لهم فى الرزق الوهمى الذى يشجعهم على البغى و العدوان ، وله جل وعلا وحده تقدير الرزق وتحديد المستحق فهو جل وعلا الخبير البصير بعباده.
8
ـ ومن حق أولئك العباد ( عباد الرحمن ) الذين أرادوا الآخرة وسعوا لها سعيها بالايمان و العمل الصالح أن يحصلوا على الرزق بالحلال وأن ينفقوه بالحلال وفق شرع الرحمن ، وهم بذلك يتمتعون بحياة طيبة هانئة فى الدنيا والجنة فى الآخرة (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) ( النحل 97).
يختلف الوضع مع الصنف الآخر ـ ضحية الرزق الوهمى الذى أراد الدنيا وانهمك فى الصراع من أجلها وطغى وبغى ليستحوذ لنفسه على أكبر جزء منها . يتحول هذا الرزق الوهمى الى شقاء له فى الدنيا ، ثم يكون عذابا له فى الآخرة ، ولنقرأ فى ذلك قوله جل وعلا:(فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) ( وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) ( التوبة 55 ، 85 ). (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (آل عمران 180).(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) ( التوبة 34 : 35  )

(2 ) المؤمن مريد الآخرة لا ينسى نصيبه من الدنيا:

مقدمة:
1
ـ فى دور الصدقة ـ الزكاة المالية ـ فى تزكية النفس عقيديا سبقت الاشارة الى أن المؤمن يؤمن أن المال هو مال الله جل وعلا ، وقد جعل الله تعالى للمؤمن فى هذا المال حرية التصرف فيه إختبارا له ، وبالتالى إن كان يريد الآخرة و يسعى لها سعيها وهو مؤمن ـ بالعمل الصالح ـ فلا بد أن يحصل على المال بالحلال وأن ينفقه فى الحلال ، وأن يخرج منه الصدقة يؤتى ماله يتزكى ويترقى خلقيا.
2
ـ ولأن المال ـ هو فى الأصل ـ مال الله سبحانه وتعالى فإنه جل وعلا هو الذى يبسط الرزق ويوسعه على من يشاء ، وهو الذى يقلله ويقدره على من يشاء ، وليس لبشر سلطة فى هذا التوزيع الالهى للرزق.
3
ـ والله جل وعلا يزيد مريد الآخرة هدى بأن لا يبسط له فى الرزق حتى لا يبغى فى الأرض . وهذا البسط أو التقليل فى الرزق لا يسرى على الرزق الأساس الذى تقوم به حياة الانسان ، ولكن يسرى على الرزق ( الوهمى ) من مال وذهب وفضة وعقارات.
4
ـ يتقاتل من أجل هذا الرزق الوهمى معظم البشر ويخسرون من أجلها الدنيا فينتهى الى صفر بالموت وعذاب أبدى فى الآخرة ، بينما يستغل المؤمن مريد الآخرة هذا الرزق الوهمى ليشترى به الآخرة بأن يؤتى ماله يتزكى ، وبهذه الطريقة لا ينتهى الرزق الوهمى عنده الى صفر فى الدنيا بل يتمتع به المؤمن فى هذا العالم ، ثم يتحول هذا الرزق الوهمى الى رزق خالد فى الجنة..
5 ـ أى هناك رزق فى العالم الآخر ، بعد هذا العالم ، هو نعيم الجنة.
وبالايمان و العمل الصالح يتحول الرزق الوهمى الدنيوى الى نعيم أى رزق أخروى خالد ليس له حد أقصى فى الكم ، وليس له حدأقصى فى المتعة ، وليس له حد أقصى فى الزمن لأنه خلود فى نعيم الجنة.
وفى المقابل فإن الذين بغوا فى الأرض تنافسا وتقاتلا وصراعا سيفقدون هذا الرزق الوهمى فى الدنيا بعد ان يكونوا قد عانوا من الشقاء فى سبيله ، سيفقدونه بالموت أو يفقدونه بالخسارة ، ثم يتحتم عليهم أن يدفعوا فاتورة الحساب عذابا أبديا لا تخفيف فيه ولا نجاة منه ولا أجازة أو إنقطاع فيه ..هل تساوى الدنيا كل هذا ؟
6 ـ ونقطة البداية كما سبق هى إختيار كل فرد ، هل يريد الدنيا أم يريد الآخرة.
وقبل الدخول فى تفصيلات الرزق الأخروى الذى يسعى اليه من يريد الآخرة ، نتساءل :هل إرادة الآخرة تعنى التجاهل التام للدنيا ؟ هل تعنى الزهد وتحريم الطيبات وتحريم السعى للرزق ؟ أم أنها السعى الايجابى فى الدنيا طلبا للرزق الحلال ، ليكون الرزق الحلال سبيلا لشراء الرزق الأخروى ـ الجنة ـ ؟.
أولا : الجذور
1 ـ خلق الله جل وعلا الانسان ليختبره ، وليعطى فرصة حرة لمن أراد أن يحسن عملا فى هذه الدنيا ، فى الفترة التى يحياها فى هذا العالم ، ومن أجل ذلك كانت حياة الانسان وكان موته : (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) ( الملك 1: 2)..
2 ـ والانسان مجبول على غريزة التملك وحب الخلود ، ولذلك فهو يسعى أبدا الى التملك ، وفى صراعه مع الآخرين ينسى أنه لا بد أن يموت تاركا ما كان يتملكه. ولو ايقن فعلا إنه سيموت ما كان هناك نزاع وتقاتل على أشياء مصيره أن يتركها حتميا . ومع ان العقل الانسانى يدرك حتمية الموت إلا إن غريزة تمنى الخلود تجعل الانسان ينسى هذه الحقيقة ، يرى الناس يموتون حوله وهو لا يتعظ ولا يتذكر ، متصورا أنه الوحيد الذى لن يدركه الموت . نسيان الموت يتضافر مع غريزة التملك ليظل الصراع على الثروة مستمرا يسفر كل يوم عن فقد الانسان لحياته فى جرائم فردية وحروب محلية و اقليمية وعالمية.
وفى قصة آدم وحواء والخروج من الجنة تتركز كل الدروس التى ينساها البشر فى العادة . ومن تلك الدروس أن الشيطان وجد طريقه لغواية آدم عن طريق الغريزتين : تمنى الخلود والتملك . كان آدم يعيش فى جنة قال له ربه جل وعلا عنها (إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى )(طه 118 : 119 )، كان يعيش مع زوجه منعما فى الجن ، لا يعانى الجوع ولا الظمأ ولا العرى . ولكنه كان يشعر أنه سيترك هذا النعيم بالموت ، وأنه فى حياته لا يملك تلك الجنة ، يعيش فيها فقط حياة مؤقتة.ومن هنا جاءت غواية الشيطان له ، بأن خدعه بأن يأكل من الشجرة المحرمة ليحقق أمنيته فى الخلود و التملك الدائم : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى ) ( طه 120  )...وهبط آدم وزوجه وفيهما الذرية ، ولم يع أبناء آدم الدرس ، فأغلبهم لا يزال يعصى (يأكل من الشجرة المحرمة )، يظن أنه خالد لن يموت ، ويريد أن يستحوذ لنفسه على كل شىء لو استطاع ، وما هو بمستطيع ،وفى النهاية يخسر كل شىء بالموت ، وينتهى الى خلود فى الجحيم.
3
ـ يزيد فى اختبار بنى آدم تغير الوضع الذى كان فيه أبوهم فى الجنة . أصبح على بنى آدم السعى فى الرزق وتعمير تلك الأرض ، والسعى فى سبيل الرزق أمر الاهى ، من أجله جعل الله جل وعلا الكوكب الأرضى زاخرا بالموارد ممهدا للسعى للرزق نابضا بالحياة المؤقتة فى هذه الدنيا الى أن يأتى يوم البعث والنشور :( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) ( الملك 15.)
ولم تتكرر للانسان الأوامر بالسعى من أجل الرزق وتعمير الأرض بسبب غريزة التملك وتمنى الخلود ، وبهما ينهض الانسان للسعى بل و التنافس و التقاتل ، فاستعمار أو تعمير هذه الدنيا لا يحتاج الى كثرة من الأوامر الالهية ، ولكن يحتاج الى ترشيد وتشريع كى يتحقق العدل والاحسان ، وينجح الانسان فى اختبار الحياة و الموت. ومن أجل ذلك نزلت الشرائع السماوية ، وبعث الله جل وعلا الأنبياء والرسل ، ومنهم صالح عليه السلام :(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ) ( هود 61). فالله جل وعلا هو الذى أنشأنا من الأرض ، وأوكل الينا مهمة تعميرها ، وشرع لنا أن يكون هذا التعمير فى إطار العدل فى التعامل مع رب العزة ـ فلا نتخذ معه الاها ـ والعدل فى التعامل بيننا ، وفى التعامل مع البيئة ، حتى لا يظهر الفساد فى الأرض.هذا ما أراده الله جل وعلا ، ولكن معظم البشر يريدون غير ذلك.
ثانيا : أنواع الارادة البشرية وانواع السعى
1 ـ فى اختبار آدم وحواء كان مباحا لهما أكل ما شاءا فى الجنة عدا شجرة واحدة محرمة . وكانت المحنة و الاختبار فى هذه الشجرة المحرمة . وحمل أبناء آدم نفس الاختبار ، فكل ما فى الأرض حلال ، ويأتى الاستثناء فى المحرم يمثل الشجرة الوحيدة التى كانت محرمة فى جنة آدم، وهذا المحرم قليل جدا بالنسبة للقاعدة وهى المباح . ومن أسف أن معظم البشر لا يقعون فى هوى الحلال المباح ، ولكن يتعلقون بالشجرة المحرمة ،او الحرام الذى هو استثناء من القاعدة. وهم بذلك يضربون عرض الحائط بوصية رب العزة لهم وتحذيره من أن يفتنهم الشيطان بنفس ما فعل بأبيهم آدم من قبل ( الأعراف 27)..والانسان لا يعصى إعتباطا ، بل هو يبدأ بالنية و التفكير قبل التنفيذ ، خصوصا إذا تعلق الأمر بالصراع حول الثروة ، ومحاولة احتكار الشجرة المحرمة.

والبدء بالنية والتفكير و اتخاذ القرار يعنى أن ( يريد ) الانسان واحدا من أمرين : إما أن يريد الدنيا ، لا يرى غيرها ، ويتخذ من كل الوسائل المتاحة سبيلا للفوز بكل ما يستطيع من رزق ومتاع وثروة هذه الدنيا ،وإما أن يريد الآخرة ، يوجه لها وجهه ، ومن أجلها يجعل الدنيا ورزقها وسيلة للفوز بالآخرة.إذا قرر إرادة الآخرة وعمل لها جوزى خير الجزاء فى الدنيا والآخرة :(وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا )(الاسراء 19 ). والعكس مع مريد الدنيا.ولآن مريد الدنيا هو القسم الأكبر من البشر فإن الله جل وعلا يقول موضحا ومحذرا وناصحا :( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )(الأعلى 16ــ ) ويأمر بالاعراض عن الذى آثر الدنيا ورفض من اجلها الهداية القرآنية :( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) ( النجم 29)..
2 ـ إذن هناك ارادتان متناقضتان : إرادة الدنيا وإيثارها ، وإرادة الآخرة و النظر للدنيا لاستغلالها وسيلة صالحة للفوز بالآخرة.ويترتب على كل إرادة نوع من السعى مرتبط به ، فمريد الدنيا يسعى فى الأرض يطلب الشجرة المحرمة ،أى بالعصيان و البغى والتعدى على حق الله جل وعلا وحقوق البشر ، ومريد الآخرة يسعى فى الدنيا بالخير متمسكا بالعدل والاحسان.
ومن ملامح السعى هنا وهناك تأتى النظرة للمال أو الرزق ، فمريد الآخرة يجعل المال أو (غريزة التملك ) هدفه الأساس ، وينافس ويصارع الآخرين فى سبيل تملك المال والثروة والرزق متوهما أنه (خالد فى الدنيا )، أما مريد الآخرة فيجعل المال وسيلة للتزكى و السمو الخلقى ، فيجاهد فى سبيل الله جل وعلا بالمال مضحيا بغريزة التملك ، ويجاهد فى سبيل الله جل وعلا بنفسه مضحيا بغريزة حب الخلود ، وقد استقر فى يقينه أن هذه الدنيا هى مجرد متاع مؤقت ، ومعبر للآخرة للاختيار والاختبار ،وأنه لا بد أن يتزود خلال حياته المؤقتة فى الدنيا بزاد التقوى ،أى هى رحلة للآخرة , وتستلزم هذه الرحلة زادا هو التقوى لينعم بالرزق الأبدى فى نعيم الجنة (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) ( البقرة 197)...
ثالثا : البغى نقطة فاصلة بين مريد الدنيا ومريد الآخرة:
البغى هو الظلم والاعتداء ومجاوزة الحد ،و الطغيان على الحق و العدل . والبغى ينطبق فى كل عصر على كل المترفين من الحكام المستبدين ، وأعوانهم من العسكر ورجال الدين وكل من يخلط السياسة بالدين تلاعبا بالدين واستخداما له للوصول الى الحكم والجاه.والبغى نوعان:
1
ـ المشهور هو البغى والاعتداء على حقوق البشر مثلما يفعله المجرمون العاديون و المستبدون.
2
ـ والبغى غير المشهور والأكثر خطورة ،وهو البغى على رب العزة جل وعلا بالاعتداء على حقه جل وعلا فى التشريع.
والبغى على رب العزة نوعان أيضا:
1
ـ تحليل ما حرم الله (كقتل الأفراد خارج القصاص بزعم حد الردة ، وحد الرجم وترك الصلاة ، والقتل العام كتشريع الجهاد السّنى بالاعتداء على من لم يعتد على المسلمين بالمخالفة لتشريع الجهاد الدفاعى فى الاسلام ، ومثله أن تتحول السرقة والنهب والزنا والاغتصاب الى تشريع مزور تحت اسم الجزية و الغنائم و السبى). وهنا يزين الشيطان للمجرمين تحويل إجرامهم الفردى و الجماعى الى تشريع الاهى بالتزوير و الكذب على الله تعالى ورسوله ، قيتحول البغى العادى ( العلمانى ) البسيط الممكن علاجه الى دين أرضى معزز بوحى منسوب زورا لله تعالى ورسوله ، فيستعصى على العلاج.
2
ـ تحريم ما أحل الله جل وعلا ، مما جعله مباحا ومن الطيبات من الرزق. فالمحرمات فى الطعام وفى الزواج محددة ومفصلة ، ومحاطة بسور وسياج ، وقد أباح الله جل وعلا وأحلّ ما يوجد خارج ذلك السور والسياج ، وحذّر من تحريم هذا الحلال .وهنا يأتى ابليس يزين للانسان المتدين التطرف فى الورع بأن يحرم على نفسه ما أحلّ الله جل وعلا له من الطيبات والزينة ، بزعم الرهبنة أو الزهد.
وعلى سبيل المثال فقد حرمت أديان المسلمين الأرضية أنواعا شتى من الطعام ، وهو بغى صريح على تحريم ما أحل الله جل وعلا ، وعصيان لأوامره حين قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة 168 ـ ). وسبق تفصيل ذلك فى بحث مفصل عن الحلال والحرام.
كما حرمت الأديان الأرضية للمسلمين التزين بالذهب و الفضة والحرير ، وقد تجاهلوا قوله جل وعلا : ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) ( الأعراف 31 ـ).
وبينما يقع مريدو الدنيا فى البغى على الله جل وعلا والبغى على الناس فإن مريد الآخرة يحذر من البغى العادى فلا يظلم الناس ، ويحذر من البغى الطاغوتى فلا يظلم رب الناس.ومن هنا يكون لمريد الآخرة حق التمتع بالطيبات من الرزق ومن اللباس دون إسراف ،أى إن إرادة الآخرة لا تتعارض مع التمتع الحلال ، بل هو فى المصطلح القرآنى ( حسنة ).
رابعا : مريد الآخرة وحسنة الدنيا والآخرة:
1
ـ مريد الآخرة يدعو ربه جل وعلا قائلا : (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) ( البقرة 201 : 202 )، أى يرجو حسنة الدنيا ( التمتع الحلال ) وحسنة الآخرة ( نعيم الجنة و النجاة من النار) .
2 ـ واهر جل وعلا يخاطب مريد الآخرة بالترغيب فى حسنة الدنيا وحسنة الآخرة فيقول :(قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) أى طالما تمسك بالتقوى ،عاش ومات عليها فله متاع حسن فى الدنيا ، وأمامه ارض اهِي جل وعلا واسعة ليمشى فى مناكبها ويسعى للرزق الحلال ، ثم ينتظره أجره فى نعيم الآخرة ، وهو أجر بدون سقف ، أى بدون حد أعلى ، بلا حساب عددى.
وتقول الآيات التالية :(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ )( الزمر 10 16 ). أى إن المفروض على مريد الآخرة أن يخلص عقيدته ودينه له جل وعلا بلا تقديس لبشر أو حجر ، وأن يبتعد عن العصيان مخافة عذاب يوم القيامة ، وأن يتمسك بعقيدته معترفا بحق الآخرين فى اختيار عقائدهم وتقديسهم وعبادتهم لغير اهيل جل وعلا ، ويكفى ما ينتظرهم من خسارة و عذاب أبدى يتخوف منه كل من يتقى اهيل جل وعلا.
3
ـ وهكذا فللمؤمن التقى حسنة فى الدنيا ، وهو فيما يكسبه فى الدنيا من مال وجاه يجب أن يستخدمه فى الوصول الى الجنة بأن يؤتى ماله يتزكى، وفيما يكسبه من مال من حلال لا ينسى أن يتمتع به فى حدود الحلال مبتعدا عن البغى و الفساد والاسراف :(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) ( القصص 77).
هذا إذا كان غنيا ميسورا ، فإذا كان فقيرا أو يعانى من أزمة وضيق فعليه بالتمسك بالتقوى فى سعيه الدنيوى متوكلا على ربه جل وعلا، وهنا يتحقق فيه وعد اهَه جل وعلا بأن يرزقه من حيث لا يحتسب ، واهمِ جل وعلا لا يخلف الميعاد :(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) ( الطلاق 2 : 3).
4 ـ واه ب جل وعلا يعد من يهاجر فى سبيل اهُّ صابرا محتسبا متوكلا على مولاه بأن يهبه حسنة فى الدنيا وأكثر منها فى الآخرة : (وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) ( النحل 40 : 41).
وأيضا يبشر ـ مقدما ـ المجاهد فى سبيل اهِه بالمال و النفس بأجر هائل فى الدارين (الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التوبة 20 : 22).
وعند الاحتضار تأتى الملائكة تبشر مريد الآخرة بالحسنة فى الآخرة بعد أن تمتع بحسنة الدنيا ، كجزاء للسعى الحسن : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ) ( النحل 30 : 31 )..وابراهيم عليه السلام تحمل الأذى وهاجر وصبر متوكلا على اه ف تعالى لذا أعطاه اهْم جل وعلا حسنة فى الدنيا والآخرة : (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين ) ( النحل 122).
5
ـ هذاغ هو الجزاء الحسن فى الدنيا والآخرة لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن . وأول بند فى هذا السعى أنه يضحى بالمال أو الرزق الوهمى ليشترى به الرزق الأبدى ، ثم لا يحرم نفسه من المتعة الحلال ،مبتعدا عن البغى والظلم.
خامسا : دور المال أو الرزق هنا:
1 ـ المؤمن مريد الآخرة يسعى للرزق دون أن يلهيه الرزق عن ربه الرزاق جل وعلا :( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ )( النور 36 : 37 ) ، أى يعملون بالتجارة والبيع ويحصلون على ربح يتصدقون منه ويخرجون منه زكاة أموالهم ، ولكن تلك التجارة وذلك الربح لا يلهيهم عن العمل للآخرة.أمّا مريد الدنيا فيظل مسحورا بها حتى لحظة الاحتضار ، وينسى قول اهذِ جل وعلا (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ)( التكاثر 1).
2 ـ مريد الآخرة يقوم بتجارة رابحة مع اهِ جل وعلا ، يقدم فيها نفسه وماله ابتغاء مرضاة اهبْ مقابل الرزق الخالد فى الآخرة والربح فى الدنيا أيضا : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة 111 ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين ) ( الصف 10 ـ ). ولذلك فإن مريد الآخرة لا تأخذه فى اه ف جل وعلا لومة لائم ، وهو على استعداد بالتضحية بالمصالح الشخصية و التجارية و علاقات النسب والولاء للأسرة و القبيلة لو تعارضت مع إرادته للآخرة وموالاته لربه جل وعلا.
وهنا الامتحان الأعظم الذى دخله المؤمنون الأوائل من العرب الذين قامت ثقافتهم على الولاء للقبيلة و التعصب لها ، فتحتم عليهم التضحية بتلك الولاءات وتلك المصالح الدنيوية و التجارية فى سبيل رب العزة وفق ذلك العهد المشار اليه مع رب العزة ، وتلك التجارة مع الرحمن ، يقول تعالى يؤنب بعض الصحابة المكيين ، وهو هنا خطاب عام للجميع :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( التوبة 23 : ـ ).
أمّا مريد الدنيا ـ فى أسوأ حالاته فهو فى عبادته للمال يستخدم دين اهرُ جل وعلا فى الحصول على المال ، ومن أجل المال يقوم بصناعة دين أرضى بالتزوير والتزييف ليخدع به الناس ، ويحصل منهم على النذور و القرابين ، أو :يشترون بعهد الله  ثمنا قليلا .
وكان منهم بعض أهل الكتاب فى عصر النبوة ، فقال جل وعلا عنهم :(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران 77 ـ )،أى تحول عهد اهلْ ودينه واسمه الكريم الى وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل ، وهو عمل أساس فى كل دين أرضى ، قبل وبعد نزول القرآن الكريم.
أخيرا:
وقوله جل وعلا السابق ينطبق على عصرنا مائة فى المائة . ولذلك تجد أثرى الأثرياء هم أئمة الأديان الأرضية ، وبالمناسبة :كم تبلغ ثروة الامام السيستانى الشيعى فى العراق ؟ وكم تبلغ ثروة البابا شنودة وكم تبلغ ثروة الشيخ الطنطاوى فى مصر ؟وكم كانت تبلغ ثروة الشيخ الشعراوى قبلهم ؟ مات الشعراوى وترك خلفه ثروته من الرزق الوهمى ، وكذلك سيموت السيستانى وشنودة وطنطاوى ، لا يحملون إلا ما عملته أيديهم ، تاركين خلفهم ملايين الجوعى من أتباعهم كانوا فى أشد الحاجة الى تلك الأموال.
إن أسوا البغى هو ما يفعله أئمة الأديان الأرضية لأن ظلمهم لا يقتصر على البغى على دين اهقُ جل وعلا بل يمتد الى تضليل العوام لصالح المستبدين من الحكام . ومن أسف أنهم يتمتعون بتوقير وتقديس لا يستحقونه ، بينما ينطبق عليهم فى الدنيا قوله جل وعلا:(أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) ( الواقعة 81 : 82).
وينطبق عليهم فى الآخرة قوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)(البقرة 174 ـ ) ، وقوله جل وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ)( التوبة 34 ـ)

.وصدق الله العظيم. .

(3 ) : العمل للفوز برزق الآخرة:

مقدمة :
رزق الدنيا نوعان : رزق أساس يقيم الجسد وتقوم به حياة الانسان ، ورزق وهمى من أموال سائلة وعقارات تترك الانسان أو يتركها الانسان .وهناك رزق للآخرة هو نعيم الجنة الذى يسعى اليه المؤمن ، ومن أجله يعطى ماله يتزكى وهو حىّ  يسعى فى هذه الدنيا ، يؤمن بالله جل وعلا لا اله غيره ولا تقديس لسواه ، ويعمل الصالحات من العبادات و يتمسك بالأخلاق السامية فى التعامل مع البشر. المؤمن مريد الآخرة يعطى جزءا من الرزق الوهمى المؤقت الزائل يشترى به النعيم الذى لا حد أقصى للاستمتاع به ، ولا حد أقصى لاستمراريته وخلوده .يؤمن مريد الآخرة بوجود الجنة و النار إيمانا يدفعه للتمسك بالعمل من أجل أن يكون (صالحا ) لدخول الجنة ، ولأن يكون ناجيا من دخول النار ، ومن عناصر إيمانه بالآخرة أن يؤمن بوجود رزق الآخرة فى الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات .هذا الرزق ألأخروى فى الجنة نتعرف عليه من القرآن الكريم ، حتى يعرف المؤمن الفارق بينه وبين رزق الدنيا الوهمى .
ولأنها كثيرة تلك الآيات القرآنية التى تحدثت عن الجنة ونعيمها ورزقها وعذاب النار فإن المنهج هنا هو الاقتصار فقط على الآيات الكريمة التى وصف الله جل وعلا نعيم الجنة بأنه ( رزق ) . وهى تعطى لمحة موجزة عن نعيم الآخرة ،أو رزق أهل الجنة.
أولا : نوعا الرزق للمؤمنين بعد هذه الحياة الدنيا:
1 ـ  نشير سريعا الىى (رزق البرزخ ) لمن مات قتلا فى سيبيل الله عزوجل،أستغفر الله العظيم ، فالله جل وعلا ينهى أن نقول عنهم أموات، لأنهم أحياء فى مستوى آخر من الوجود فى هذا العالم ولكننا لا نشعر به ولا نراه ، يقول جل وعلا :(وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) ( البقرة 154 ).

2 ـ ولأنهم أحياء فلا بد لهم من رزق يقيم أود حياتهم فى ذلك المستوى من الحياة الذى لا نعرفه.   ولأننا لا نشعر به ولأن الأمر يحتاج منا الى تأكيد بوجودهم أحياء يرزقون فى هذا العالم الغيبى المعاصر و الموازى لنا فإن الله جل وعلا يؤكد تلك الحقائق بصيغة التأكيد( نون التأكيد الثقيلة ) فيقول جل وعلا :(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (آل عمران : 169).لم يقل : ( لا تحسبوا ) ولكن قال :(وَلاَ تَحْسَبَنَّ ) .والتأكيد هنا أولا :على حياتهم عند ربهم يرزقون ، ثم التأكيد فى الآية التالية على أنهم هم الذين يحسون بنا ويحسون باخوانهم فى مستوى حياتنا نحن ، يتمنون أن يلحق بهم اخوانهم ليتمتعوا معهم بنفس الرزق فى تلك الحياة البرزخية ، يقول جل وعلا : (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران 170 ـ ).

3 ـ ويقابل هذا الرزق و النعيم فى البرزخ (الذى لا نشعر به) عذاب آخر فى البرزخ ، (لا نشعر به أيضا) ، وهو من نصيب فرعون وآله : ( غافر 45 : 46 ) ( القصص 6 ، 8 ) و من نصيب قوم نوح :( نوح 25) ( هود 38 : 39 ). وقوم نوح وفرعون وآله هم أئمة الكفر لكل البشرية.
4 ـ نلتفت الآن لرزق أهل الجنة فى اليوم الآخر.
ثانيا : أوصاف إجمالية لرزق الجنة :
1 ـ رزق الدنيا ليس كريما ، الله تعالى وصف الحلال فى الطعام بالطيبات، ولكن هذه الطيبات من الرزق ينتهى بها الأمر الى نفايات وفضلات نعتبرها نجاسات نتطهر منها، ثم يعاد تدويرها سمادا يسهم فى الزراعة ، وحتى الجسد الانسانى نفسه يتحول بعد الموت للنفس الى جثة تتعفن و تعود الى تراب وتتحول الى سماد.
2 ـ الرزق الكريم الحسن ـعلى حقيقته لا يكون إلا فى الآخرة .يتكون من زاد التقوى فى الدنيا ، وهو التزكية بالعمل الصالح.والنفس المطمئنة التى تدخل الجنة سيكون جسدها. هو عملها الصالح فى الدنيا ، أى يتحول العمل الصالح الى نور يتخلل نفس صاحبه وتتجسد فيه نفس صاحبه فى الآخرة، وبهذا النور تكون درجة قربه من الله جل وعلا ، فالأعلى درجة هم المقربون السابقون ، والأقل درجة هم أصحاب اليمين ( الواقعة 1 ـ )، وجميعهم متقون فى مقعد صدق عند مليك مقتدر(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ)(القمر54 :55).

3 ـ هذا المستوى لا نستطيع الآن تصور عناصر النعيم فيه من الرزق،ولكنه موصوف بأنه كريم و حسن ،حسب فهمنا الدنيوى.
3 / 1 ـ نعيم الجنة رزق كريم: يقول جل وعلا عمّن قضى حياته مؤمنا مهاجرا مجاهدا مضحيا:(وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(الأنفال 74) .أى لهم غفران لما سلف من السيئات ، وبالمغفرة ينجو من النار ،ويدخل الجنة يتمتع فيها برزق كريم .
 3  / 2 ـ نعيم الجنة رزق حسن: ويقول جل وعلا (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ) ( الطلاق 11) .فهنا وصف للجنة بأن الله تعالى قد أحسن رزق أهلها.ونحوها قوله جل وعلا (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ) ( الحج 57 : 59) فالوصف هنا لنعيم الجنة بالرزق الحسن ، يرزقه لهم الله جل وعلا وهو خير الرازقين.
ثالثا : أوصاف تفصيلية لرزق أهل الجنة :
ونتوقف مع بعض لمحات عن وصف رزق اهل الجنة :
1ـ يقول جل وعلا :(وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ  ) ( غافر 40). هنا المساواة المطلقة فى المسئولية والحساب والثواب والعقاب بين الذكر والانثى ، ثم تكون المساواة المطلقة فى الآخرة ، حيث لا ذكر ولا أنثى بل جنس واحد يتنعم بالجنة أو يتعذب بالنار . الجديد هنا أن ذلك رزق الجنة الخالد ( من حيث الزمن ) ليس له حد أقصى أو حساب من حيث الكيف أو الكم.

2 ـ يقول تعالى :(وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)( البقرة 25 ).
2 / 1 فالرزق هنا متجدد ومتنوع ومختلف من الثمرة الواحدة ، أى هو متشابه ومختلف ومتجدد فى نفس الوقت. وهى نوعية لا نعرفها فى حياتنا الدنيا. (كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا)..
2 /2 . ثم يتمتعون بما خلق الله جل وعلا لهم من حور عين لم تكن موجودة من قبل فى هذه الحياة الدنيا ،إذ سيكون أصحاب الجنة جنسا واحدا بعد انتهاء الدنيا بمافيها من زوجية الذكر والأنثى ، هذه الزوجية تحمل بذور البقاء المرحلى والتجدد الوقتى ثم الفناء فى طبيعة هذه الحياة التى هى بطبيعتها مرحلية ووقتية وزائلة ،أى تجمع بين خاصيتى التكاثر (الحياة)والموت فى نفس الوقت ، الى أن يأتى تدمير العالم وانتهاء (يوم الدنيا ) المؤقت ومجىء ( اليوم الآخر )الخالد. تأتى الآخرة بالخلود حيث لاموت ولا تكاثر بل يكون الناس بين :عذاب أبدى ، يمتزج فيه العذاب بجسد الذى يعانى العذاب ،أو بنعيم أبدى بنفوس مطمئنة خالدة ، ومن خلال جسدها النورانى تتمتع بالحور العين .
الحور العين مخلوقات لم تخلق بعد ، لهن صفات لا توجد فى إناث الدنيا، ينتمين الى عالم أخروى الذى سيتم خلقهن فيه، وقد يأتى التفصيل عنهن فى مقال مستقل ، ولكن جاءت إشارة عنهن بأنهن أزواج مطهرون، (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ) أى المطهرات مما كان يلحق بالذكر والانثى فى الدنيا من نجاسات وقاذورات ، ( فالعورات ) فى الدنيا هى موضع اللذات وموضع النجاسات أيضا.نحن لا ندرى شيئا عن مفردات رزق الجنة ونعيمها سوى التصوير المجازى له فى القرآن الكريم ، و الأسماء التى أطلقها رب العزة عليها لتقريب غيب الآخرة لنا .
2 / 3 ـ وقوله جل وعلا (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) يعلل الاختلاف بين رزق الجنة و نعيمها وبين ما نعرفه فى هذا العالم الدنيوى . فنحن وكل ما نراه ونتغذى عليه تسرى عليه دورة التكاثر والموت الى أن ينتهى هذا العالم ويأتى عالم آخر ، هو اليوم الآخر الذى له بداية وليست له نهاية بل خلود أبدى  لأصحاب الجنة وعناصر رزقهم ، ولأصحاب النار وعناصر تعذيبهم ، ويجب على مريد الآخرة أن يعمل لها ويستعد من أجلها بتزكية النفس لتكون صالحة لرزق الجنة .
2 / 4 ـ ولكن مداركنا مرتبطة بهذا العالم المادى المشهود ( عالم الشهادة ) وما سيأتى يوم القيامة هو غيب مؤجل لم يحدث بعد ، وبالتالى فكيفية الرزق والنعيم لا يمكن تخيلها ، ويأتى الحديث القرآنى عنها بلغة البشر للتقريب مستعملا لغة المجاز.وهذا يعطى فرصة رائعة لأعداء القرآن الكريم للتندر والسخرية والسعى فى آيات الله معاجزين،  مع أننا لو طلبنا من أحدهم أن يعبر بلغته البشرية عن المعانى التى يحس بها ما استطاع ، لوقيل صف اللذة الجنسية ،أو صف الفارق بين طعم بين نوعين من البقول ما استطاع،مع أنه يعرف ويحس بالطعم ، ولكن اللغة البشرية قاصرة على وصف الأحاسيس والمعانى مما نسمع من الموسيقى ومما نتذوق من الطعام ومما نرى من المناظر،ومما نحس من متعة وعذاب  ـ
هذا فى عالمنا المادى الذى نعيشه فكيف بعالم غيبى لم يتم خلقه بعد ؟.
3 ـ ويقول جل وعلا :(جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا ) (مريم 61 : 63  ) ، فالجنة هنا وعد الاهى غيبى ولكن سيتحقق .
3 / 1 ـ وكونه غيبيا يعنى أنه ليس من عالم الشهادة و المشاهدة ،التى هى سمة عالمنا المادى ، وبالتالى فإنه لا يمكن لمداركنا أن تتخيل هذا العالم الغيبى المحجوب عنا .
3 / 2 ـ وهو ليس مجرد عالم غيبى محجوب عنا ، مثل غيب السماوات والأرض الموجودة حاليا ومثل غيب البرزخ وعوالم الجن والملائكة التى تعيش معنا ولكن فى مستويات أخرى متداخلة أو متوازية مع عالمنا ، إن غيب الآخرة والجنة و النار غيب أعمق وأدق وأبعد لأنه عالم لم يأت أوانه بعد ، ولم يخلق الله ناره بعد ، ولم يخلق جنته بعد .فنعيم الجنة سيكون جزءا من النسيج الحىّ لأصحاب أهل الجنة بمجرد دخولهم الجنة، أما أصحاب النار فستكون أجسادهم وقود النار ، وبهم وبأجسادهم يبدأ ويستمر إشعال النار أبد الآبدين.
3 / 3 ـ وليس فى الجنة لغو ولا ما يسىء من الكلام ، بل تداول التحية بالسلام ، وليس عليهم تكلف السعى للرزق بل يأتيهم فى مواعيدة صباحا ومساءا .
3 / 4 ـ هذه الجنة التى يرثها المتقون فى كل زمان ومكان .
أخيرا :
1 ـ لن يدخل الجنة إلا من كان تقيا (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا)(مريم 63) .
2 ـ وتحديد المتقى ليس فى هذه الدنيا ، ومن يزكى نفسه بمجرد الكلام ويمدحها بالتقوى  فى هذه الدنيا يكون عاصيا لرب العزة الذى نهى عن تزكية النفس بالتقوى (فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) (النجم 32) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا ) ( النساء 49 : 50).
3 ـ تتحدد التقوى بعمل الفرد الصالح وإيمانه الخالص ، وتأتى المحصلة النهائية للفائز بأن يموت وقد أسلم لله جل وعلا قلبه خالصا التقديس و العبادة له جل وعلا وحده ، وأن تسلم جوارحه من الاعتداء والظلم والبغى والعصيان . وهذه العملية تسمى ( التزكية ) أو ( التطهر ) أو ( التقوى ).
4 ـ والمؤمن فى هذه الدنيا هو الذى يحاول أن يتطهر ويتزكى فى الدنيا استعدادا لليوم الآخر ، ليسعد بجسد نورانى يكون به صالحا لنعيم الجنة ورزق الجنة.
5 ـ وطريقته فى التزكية فى الدنيا هى استغلال كل نعم الله عليه من رزق اساس ( صحة وعافية وجسد وشباب وذكماء ومعرفة ) ورزق وهمى (مال وعقارات وسندان وأسهم وأرصدة ..الخ ) فى الفوز بالآخرة بأن يؤتى ماله يتزكى وأن يبيع الله جل وعلا ماله ونفسه مقابل أن يفوز بالجنة مع من أنعم الله تعالى عليهم (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ )( النساء 69 ) .
6 ـ وثمرة التزكية فى الآخرة أن يتمتع المؤمن بجسد نورانى يشع فى وجهه بياضا عكس مريد الدنيا :(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( آل عمران 106 : 107)،( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) ( عبس 38 ـ  ) .
وأن يصحبه النور يسعى بين يديه وحواليه (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ  )( الحديد 12).
7 ـ وبهذا دعا الله جل وعلا المؤمنين فى الدنيا للتوبة والتطهر والتزكى لكى يفوزوا بثمرة التزكية فى الآخرة :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )(التحريم 8) .
8 ـ بهذه التزكية وبالتضحية ببعض الرزق الوهمى الدنيوى يتمتع برزق الجنة الذى لا تدركه عقولنا الآن .

(4 ) :ين رزق الجنة وعذاب النار

مقدمة:
1
ـ فى الحث على تزكية النفس لتفوز فى الآخرة لا يكتفى القرآن الكريم بالترغيب ،أى بذكر نعيم الجنة ورزق أهل الجنة ،بل يقرن الترغيب بالترهيب ، بالتخويف من عذاب النار.
والسياق القرآنى يتوازن فيه الحديث عن الجنة و النار ، كما يتوازن تأكيد الحرية الدينية بتقرير المسئولية وعذاب من يكفر و النعيم الذى ينتظر من يموت مؤمنا قد تزكى.
وعلى سبيل المثال يبدأ رب العزة بتقرير الحرية فى الايمان أو الكفر ، فيقول : (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) بعدها مباشرة تأتى مسئولية من يختار الكفر وما ينتظره من عذاب هائل: ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) ثم نعيم من يختار الهدى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) ( الكهف 29 ـ)..
2 ـ وهناك بعض الناس يهش ويبش عند تقرير القرآن الكريم للحرية المطلقة فى الفكر والدين و المعتقد وحرية الدعوة للحق أو الباطل ،ولكنه يمتعض عندما يذكر القرآن الكريم تفاصيل العذاب المروع لمن يختار الضلالة ويأبى الهداية.هذا الصنف من المخلوقات يتناسى أن الحرية فى القانون الوضعى قرينة المسئولية ، وهى كذلك فى القانون الالهى ، فأنت ( حرّ ) فيما تقول وفيما تعتقد وفيما تفعل فلا بد أن تكون مسئولا عما تقول وعما تعتقد وعما تفعل.
والله جل وعلا الذى خلقك حرا فى هذا العالم شاء أن يجعل يوما للحساب والمساءلة بعد تدمير هذا العالم ومجىء البشر للقاء الله جل وعلا للمحاسبة على ( حريتهم ) التى كانت معهم فى اليوم ( السابق ) ( يوم الدنيا ). ( هود 7 ) ( الملك 2 )( ابراهيم 48 ـ )..الحرية قرينة المسئولية حتى فى الحديث العادى فى مصر حين يصمم أحدهم على أمر برغم معارضة الآخرين يقولون له بلهجة التهديد : ( أنت حرّ ) أى تتحمل وحدك مسئولية ما تصمم عليه.
3
ـ الأهم من هذا أنه لا يمكن للانسان أن يسمو خلقيا ويتطهر إلا بالتزكية التى تجعله رقيبا على نفسه متقيا ربه فى السّر والعلن.حياة الضمير أو( النفس اللوامة)ـ تتجلى أكثر فى فلسفة القرآن الأخلاقية و التشريعية ، فمعظم تشريعات القرآن مناط التطبيق فيها لضمير المؤمن نفسه ،ليس خوف المجتمع أو العقوبة الدنيوية أو الضبطية القضائية ، ولكن الرهبة من عذاب الآخرة أو ( التقوى )أى خوف الله جل وعلا (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )(الزمر 13) وخوف النار (وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )(آل عمران 131 : 132)...وبسبب العذاب المروع الخالد الذى ينتظر العصاة الظالمين الكافرين فإن العقوبات فى الاسلام ليس للانتقام ولكن للاصلاح فى الدنيا لينجو الجانى من العقوبة الأكبر فى الآخرة إذا تاب وأناب ، ولذلك تسقط العقوبات المقررة فى الاسلام بالتوبة ـ وذلك ما سنعرض لتفصيلاته فى مبحث تطبيق الشريعة القرآنية.
ولكن الذى يهمنا هنا أن ثنائية الجنة والنار والثواب والعقاب ونعيم الجنة و عذاب الجحيم لها مقصد تشريعى لاصلاح الفرد والمجتمع ، أساسه أن يعيش الفرد يزكى نفسه ، وأن يقيم المجتمع معالم العدل والقسط ، ومن أجل إقامة القسط نزلت كل الرسائل السماوية ( الحديد 25 ). وهذه الدولة الاسلامية تضمن حرية الدين والمعتقد ليكون البشر أحرارا فى دينهم حتى ليتسنى لهم أن يكونوا مساءلين أمام الله جل وعلا وحده يوم القيامة عن اختيارهم العقيدى فى الدين باعتبار أن الدين لله تعالى وحده ، يحكم فيه وحده فى يوم القيامة الذى اسمه يوم الدين.
ومن أسف أن كل هذا السمو فى التشريع القرآنى قد أضاعه المسلمون باديانهم الأرضية وباستغلالهم اسم الاسلام العظيم فى الفتوحات و الحروب الأهلية ، وتلك هى (الفتنة الكبرى) التى لا يزالون فيها يعمهون.
وقد توقفنا مع تفاصيل رزق المؤمنين فى الجنة . وهنا نتوقف مع المقارنات القرآنية لرزق المؤمنين فى الجنة وعذاب الظالمين الكافرين فى الجحيم.
اولا : مقارنة إجمالية بين رزق الجنة وعذاب النار:
1ـ فى سياق واحد وتنويعات مختلفة يأتى حديث القرآن الكريم عن الجنة والنار واصحابهما.
ونعطى أمثلة:
1/ 1 :
فالكارهون لما نكتب من أبحاث قرآنية نوعان : علمانى ينكر الاسلام جملة وتفصيلا ، ومتدين متعصب لدين أرضى يرفض ما يأتى فى القرآن الكريم مخالفا لدينه الأرضى. وكلاهما يسعى فى آيات الله القرآنية معاجزا ؛ المتدين المتعصب لدينه الأرضى يسعى فى القرآن معاجزا بزعم النسخ وأن القرآن حمّال أوجه ..الخ ، والعلمانى الكافر بالقرآن والاسلام يسعى فى القرآن معاجزا ، يتهم القرآن بأنه وثيقة تاريخية لا تصلح لعصرنا ،أو أنه من تلفيق وصنع محمد بن عبد الله، أو أنه يتناقض مع بعضه ، ويتعسف فى تحريف معانى القرآن ليصل الى غرضه.
وقد أنبأ رب العزة سلفا ومقدما بهم ، وعقد مقارنة بين جزائهم فى النار وجزاء المؤمن بالله تعالى وكتابه واليوم الآخر إيمانا يصدر عنه عمل صالح نافع له وللمجتمع. يقول جل وعلا:(فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) (الحج 50 : 51 ) (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ) ( سبأ 4 ، 5) . المقارنة هنا بين مغفرة ورزق كريم للمؤمن و عذاب من رجز أليم لأصحاب الجحيم.
1 / 2 :
وفيما يسمى ببلاد المسلمين يسود الاضطهاد الدينى تمارسه الأكثرية ضد الأقلية المسلمة من المذاهب الأخرى ،أو غير المسلمين. ويعانى أهل القرآن المسالمون اضطهادا ظالما لتمسكهم باصلاح سلمى للمسلمين بالاسلام، ويتحد ضدهم المستبدون والمتطرفون معا ، يصدون عن سبيل الله وآياته.وهذه عادة سيئة بدأت بالذين استكبروا من قوم نوح ، وظلت الى الذين استكبروا من قريش ، ولا تزال مع الذين استكبروا من آل سعود وآل كل مستبد.أى بعد نزول القرآن الكريم ما لبث العرب أن سكنوا فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم أى تصرفوا نفس تصرفاتهم، وهذا ما سيقال لكل الأجيال التى تلت نزول القرآن :(ابراهيم 45 )، وأصبحوا مثلهم يضطهدون المتمسكين بالكتاب السماوى.
وهنا يعقد رب العزة مقارنة بين الظالمين المعتدين وضحاياهم المؤمنين المرغمين على الهجرة بدينهم والدفاع المشروع عن حياتهم :(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ) ( الحج 57 : 59).أى طبقا للايمان والعمل يتحدد الأجر بين عذاب مهين للكافرين المكذبين بالذكر الحكيم و رزقا حسنا ومدخلا مرضيا للمؤمنين المناضلين المهاجرين.
1 / 3 :
وقد تأتى مقارنة جزئية فى لمحة سريعة ، حيث ينعم أهل الجنة برزق واسع وجنات تجرى من تحتها الأنهار بينما يعانى أصحاب النار من غذاء ملتهب وشراب من حميم ، والشفاء الذى يأملون فيه هو طعام وشراب أهل الجنة ، ولذلك ينادون أهل الجنة يستغيثون بهم يتسولون الماء او الطعام ، ويردّ عليهم أهل الجنة إنه لا يصلح لهم فقد حرّمه الله تعالى عليهم :( وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ )( الأعراف 50  ).
ويأتى وصف أهل النار فى الآيتين التاليتين يخبر مقدما عن مصير المستبدين و المتطرفين من أصحاب أهل الأديان الأرضية من (المسلمين) فى عصرنا:(الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )( الأعراف 51 : 52 ). أولئك المستبدون والمتطرفون يتلاعبون بدين الله جل وعلا يستغلونه فى طموحاتهم الدنيوية ، ويزيفون أديانا أرضية تتحول فيها الشعائر الدينية من خشوع وخضوع لله جل وعلا الى لهو ولعب ورقص وغناء ،وقد غرتهم الحياة الدنيا يعتقدون أنهم فيها مخلدون بلا موت وبلا يوم آخر للحساب . وهم بآيات الله فى القرآن يجحدون ، مع أن الله جل وعلا قد أنزل القرآن مفصلا جاء تفصيله على علم ومنهج ليكون هدى ورحمة ليس للجميع ولكن للمؤمنين الذين يطلبون الهداية به.
أما من ارادوا الدنيا و رضوا بها وإطمأنوا اليها وآثروها على الآخرة وتلاعبوا بالدين يخلطونه بالسياسة ليركبوا ظهور العوام باسم الدين :أولئك مصيرهم ان ينساهم الله جل وعلا يوم القيامة كما نسوا ربهم فى الدنيا:( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ )(المجادلة 19)...
فالله تعالى يذكر الذين يذكرونه ، يذكرونه جل وعلا بما يستحق من عبادة وتقديس لا يشركون به شيئا ، وهو جل وعلا فى المقابل يذكرهم يوم القيامة برحمته وجنته حيث يتمتعون برزق الجنة ونعيما: ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) ( البقرة 152) . المؤمن الذى يذكر ربه لا يجعل له شريكا فى العبادة و التقديس ، وهو لا ينسى ربه ، يذكره حين يهم بالمعصية أو حين يخدعه الشيطان فيسارع بالتوبة و التقوى (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أو ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ أَوْ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ )(آل عمران 135) (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ )(الأعراف 102)..

ثانيا :مقارنة تفصيلية بين رزق الجنة وعذاب النار:
1 ـ وفى الآية السابقة رأينا كيف يتسول أصحاب النار الماء و الطعام من أصحاب الجنة ، ويرد أصحاب الجنة بالرفض لأن التكوين الجسدى لأصحاب أهل النار لا يسمح لهم إلا بطعام النار وشراب الحميم . ندخل هنا فى مقارنة تفصيلية بين طعام وشراب الفريقين ،أو رزق الفريقين حتى نعرف أهمية تزكية النفس للنجاة من النار وللتمتع برزق أهل الجنة.
2
ـ يقول جل وعلا : (إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ )(الصافات 40 : 71).
2 / 1 : وصف رزق أهل الجنة هنا أنه ( معلوم ) ليس بالنسبة لنا فى هذا العالم بل لأصحابه فى الجنة ،وهو نوعان :نعيم (مادى )بتعبير عصرنا ،أى طعام وشراب ومتعة جنسية ، ونعيم معنوى بالتكريم والتشريف ورضى الله تعالى عنهم ورضاهم عنه وسلام الله تعالى عليهم والملائكة وتبادل السلام والتحية فيما بينهم، والتواصل بينهم بالحديث الممتع على أرائك متقابلين ، وقد نزع الله جل وعلا ما قد كان من عداء قديم بين بعضهم فى الحياة الدنيا ، وتلك هى سعادة الأخلاء مع بعضهم البعض حيث يتسامرون ويطاف عليه بشراب طهور ، متصل غير منقطع ، ولديهم زوجات من الحور العين مطهرات من حيث الجسد ومطهرات من حيث الأخلاق.
كل ذلك يأتى التعبير عنه وفق مدركاتنا ،أى باطلاق صفات وأسماء عليها من نفس الأسماء المستعملة لدينا لتقريب المعنى ، ولكن الحقيقة فوق ما نتصور وفوق ما نتخيل ،ولا يمكن أن تخطر على بالنا ، فلا تعرف نفس بشرية ما خفى من نعيم الجنة :(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( السجدة 17) ، ولذلك يأتى التعبير بالمجاز ، فالحور العين ( قاصرات للطرف) اى استعارة عن الحياء والخفر ، و (كأنهن بيض مكنون ) اى تشبيه لتقريب الفهم.
2 / 2 :
ثم هم فى أحاديثهم سيتذكرون ما كان يحدث لهم فى الدنيا . يتذكر أحد أهل الجنة صاحبا له كان فى الدنيا ، وكيف كان هذا الصاحب ضالا مضلا يريد غواية صاحبه المؤمن ،وكان يتندر عليه منكرا البعث والحساب بعد الموت . ومن خصائص أهل الجنة أنهم يستطيعون رؤية أهل النار والحديث معهم والاطلاع على أحوالهم وهم يتعرضون للتعذيب . وهكذا يتطلع صاحبنا ومعه أصدقاؤه من أهل الجنة الى أهل الجحيم فيرون ذلك الصاحب السابق فى مكانه وسط الجحيم ، فيسائله عن إنكاره السابق للبعث و الحساب و الجنة و النار .ويقول له إنه لو أطاعه لكان معه فى هذا العذاب ،لولا فضل الله تعالى عليه أن قوّى ايمانه فنجا.وبعد هذا الملح يأتى التأكيد الالهى بأن رزق الجنة هو الفوز العظيم ولمثله فليعمل العاملون . ثم تأتى المقارنة بعذاب أهل الجحيم.
2 / 3 :
وتبدأ المقارنة بشجرة الزقوم ، طعام أهل الجحيم ،وأحد أهم عناصر التعذيب فيها ، وأهم بند فى بنود (رزق )أهل النار.
وتأتى أوصافها المرعبة ،فهى شجرة جذورها فى قعر الجحيم ، وتتشعب لتصل ثمارها الى فم كل واحد من أهل النار ليأكل منه كرها ،إذ توصف هذه الشجرة بأنها (فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ) فهم مجبرون على الأكل منها الى أن تمتلىء منها البطون ، ثم هم مجبرون على أن يشربوا علي ذلك الطعام الملتهب سوائل ملتهبة هى الحميم ، وتلك إحدى دورتى العذاب لأنهم بعد الأكل و الشرب الذى يملأ أجوافهم نارا يعودون الى النار الأصلية لتعصف بجلودهم (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ)...
2 / 4 : ووصف العذاب هنا وفق مدركات البشر لأن حقيقته لا يمكن أن يدركها البشر فى هذا العالم.
ويكفى هنا وصف ثمرة شجرة الزقوم بأنه مثل رءوس الشياطين:(طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ). التشبيه يأتى بصورة مرعبة لم نرها بعد ،وهى رءوس الشياطين، وفيه إعجاز فى الفصاحة القرآنية ، فالعادة فى بلاغة التشبيه أن يأتى المشبه به معروفا ، فحين تقول ( هذا الرجل شجاع كالأسد ) فالمشبه به وهو الأسد لا بد أن يكون معروفا بالشجاعة . ولكن الفصاحة القرآنية فى التدليل على مدى العذاب والرعب تأتى لنا بالمشبه به من الغيوب التى لم نرها ، ولكن فى نفس الوقت نحتفظ لها بكل ما نملك من مشاعر الرعب والفزع ، وهى ( رءوس الشياطين..).
2 / 5 :
وحتى تكتمل الصورة فلا بد أن يأتى استحقاق أهل النار للعذاب لأن الله جل وعلا ليس ظالما للعباد ،فأولئك يستحقون العذاب لأنهم ظالمون (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ) وأنهم كانوا ممن يعبدون (الثوابت الدينية )او ما وجدوا عليه آباءهم ، فقد وجدوا آباءهم ضالين فساروا على آثارهم يهرعون (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ).وهو وصف ينطبق على معظم المسلمين الذين أتخذواالقرآن مهجورا تمسكا بالثوابت وما أجمعت عليه الأمة.
3 :
ويقول جل وعلا :(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ) ( الدخان 43 : 57.).
هنا وصف يقارن طعام أو رزق أهل النار برزق أو نعيم أهل الجنة.
3 /1 :
والأساس فى رزق أهل النار هو شجرة الزقوم . ووصفها بأنه طعام أو رزق الأثيم ،أى الذى عاش بالإثم ومات عليه ، وحمله فوق ظهره ،وأصبح معذبا به ، يأكل طعامه من شجرة الزقوم ، حيث يغلى فى بطنه كغلى الحميم ، ثم بعد دورة الأكل يتم قذفه الى قعر الجحيم ، ثم يصب الحميم فوق رأسه ، ويقال له بالسخرية (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ )،أى كما كان يسخر فى الدنيا من البعث و العذاب و النعيم تتم السخرية منه وهو تحت العذاب ، ويتم تذكيره بما كان يتندر به على دين الله جل وعلا.
3 / 2 :
والملاحظ هنا أيضا استخدام الاسلوب المجازى بالتشبيه:(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ)،فهنا تشبيه طعام الزقوم بالمهل ، وهو جمرات البراكين المتقدة من النار الذائبة أو (اللافا أو الماجما)،وهذا هو مبلغ علمنا بالنار الذائبة، وهذا (المهل ) الأرضى لا بد أن يبرد ويتحول الى تراب وتربة غنية فيما بعد .أما طعام الزقوم فهو لا يبرد ، ومستوى حرارته فوق تخيلنا ، وهو خالد فى تأججه وتدفقه وغليانه داخل البطون.
وأيضا يأتى تشبيه غلى البطون ، وهو صورة لا نعرفها ، ولا يمكن أن نراها فى حياتنا الدنيا لأن الحديث هنا عن أشخاص أحياء تغلى بطونهم بأعلى ما يمكن تصوره من درجات الغليان ،وهو (غلى الحميم ). والحميم هو ماء النار فى الجحيم. نحن فى هذه الحياة لنا درجة معينة فى تحمل الألم ، فإذا زاد رحمنا الله جل وعلا منه بالاغماء أو الموت .أما فى النار فمن فيها يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ، وكلما نضج جلده تبدل بجلد آخر ليذوق العذاب خالدا مخلدا أبد الآبدين .ومع العذاب الجسدى يأتى العذاب النفسى من الخزى و التلاعن والتبكيت.
3 / 3 :
والتفكر فى أن تغلى البطون بماء نارى ملتهب يعطى الصورة المطلوبة من الفزع ، لعل وعسى أن يتوب من لديه متسع للتوبة ، فيزكى نفسه وينجو بها من سوء المصير..
3/ 4 :
وتأتى المقارنة برزق ونعيم أهل الجنة حتى تكتمل الصورة .فعلى عكس البغاة الآثمين فإن المتقين ينعمون بالأمن فى (مَقَامٍ أَمِينٍ) يجلسون فى أجمل اللباس مع زوجات من الحور العين ، ويطلبون ما يشاءون من فوكه متمتعين بالأمن. ..

4 ــ ويقول جل وعلا :ـ(هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (ص 49 : 68.  ).
4/1 : يبدا الوصف هنا عاما للجنة بأنها ( حسن المآب ) أى هى الدار التى يئوب اليها من كان فى الدنيا متقيا فيجد كل الحسن قد تجمع فيها ، بينما تركز كل السوء فى مآب الظالمين البغاة فى الجحيم.
4 / 2 :
وتأتى تفاصيل النعيم التى تتناقض مع تفاصيل الجحيم ، فالجنة مفتوحة أبوابها لأهلها بينما النار مؤصدة مغلقة على أصحابها كلما أرادوا الخروج لاحقتهم مقامع من حديد تلقى بهم فى قاع الجحيم .وأصحاب الجنة فى داخلها يجلسون على أرائك يطلبون ما يشتهون من طعام وشراب ،وحولهم أزواجهم المطهرات من الحور العين ، والرزق المعين لهم لا ينتهى ولا ينفد . هذا وعد الله جل وعلا لمن أراد الآخرة وتزكى لها ، والله جل وعلا لا يخلف الوعد والميعاد.
4 / 3 :
وتنتقل الآيات الى الطرف المقابل ، حيث تكون جهنم للطغاة شر مآب وبئس المهاد .والمآب هنا هو المرجع والمصير النهائى حيث الاستقرار الخالد الذى لا خروج منه. والمهاد هنا هو المكان الذى يلتصق بصاحبه ويلتصق به صاحبه ، وهما مقترنان لا يفترقان.
4 / 4 :
وتأتى إشارة هنا الى أنواع جديدة من طعام أهل النار ، منه ما ورد ذكره فى القرآن الكريم مرادفا للحميم مثل الغساق ، يقول جل وعلا عن الطغاة اصحاب جهنم ( لّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ) ( النبأ 24 : 25 ).ويشير رب العزة الى نوع آخر من طعامهم فبقول (وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) ، أى طعام آخر من نفس الشكل يأتى أزواجا ،وربما يكون ذلك الطعام المشار اليه هو الغسلين ، إذ يقول رب العزة عن الكافر فى الجحيم (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ)(الحاقة 35: 37).
4 / 5 :
وبعد الحديث عن العذاب الجسدى يذكر رب العزة نوعا من العذاب المعنوى وهو تخاصم اهل النار و لعن بعضهم البعض ، وقد تكرر هذا فى القرآن الكريم ، ولكن هنا يتخصص اللعن ليس بين المستكبرين وأعوانهم الذين عاشوا نفس العصر ـ ولكن بين كفرة سابقين وكفرة لاحقين فى بداية تعمير جهنم بأهلها ، فكلما ألقى فى الجحيم فوج واجهه الفوج السابق باللعن ، ثم يتحدون جميعا فى لعن من أضلهم جميعا : (هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ).
ثم يتحدث أصحاب النار فيما بينهم متسائلين عن أفراد من المؤمنين فى الدنيا تعرضوا للتكفير والاتهامات الباطلة ظلما وعدونا ،أطلقها عليهم الظالمون وألصقوها بهم حتى صدقوها ، وطبقا لتلك الاتهامات والاشاعات فلا بد أن يكون مصير أولئك المسضعفين الى النار .ويفتشون عنهم فى النار فلا يجدونهم ،أى كان مصيرهم الى الجنة طالما لامكان لهم فى النار ، ولكن يأبى المستكبرون أصحاب النار الاعتراف بهذه الحقيقة فيتعللون أنه ربما زاغت أبصارهم عن رؤية أولئك الذين كانوا يحسبونهم من الأشرار داخل جهنم:( وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ) .
4 / 6 :
هذا حديث عن أحداث ستحدث فى المستقبل ،ولكن منكرها سيكون غدا من أصحاب النار ، لذا يأتى التأكيد الالهى فيقول جل وعلا :( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ). وهو تأكيد لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن يتزكى ويتطهر.
5
ـ ونتوقف فى لمحات سريعة عن تفصيلات للعذاب:
5 /1 :
عن شراب أهل النار يقول جل وعلا : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) الكهف 29 ) اى تحيط بهم النار فاذا عطشوا شربوا ماء النار الذى يشوى وجوههم. وهذا هو الحميم الذى تتقطع منه الأمعاء :(وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) (محمد 15)
5 / 2 :
وبالاضافة الى طعام الزقوم وغسلين وغساق هناك الصديد . إذ من هذا العذاب الأبدى الخالد يتولد داخل الجسم صديد ملتهب يتحول الى قيح متوهج ، سائل مرير آخر لا بد أن يتجرعه الكافر فى دورة عذابه المستمر ، ويكون بلاؤه من تجرع هذا الصديد شديدا ولكنه مرغم على تجرعه ،فقد انتهت بالموت حريته فى الاختيار، وضاعت عليه كل فرص التوبة والاعتذار. اقرأ فى ذلك قوله تعالى عن الكافر وما ينتظره من عذاب (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ . يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) (ابراهيم 16 : 17 ). كل لمحة من العذاب كفيلة بموته، ولكن لم يعد هناك موت ، بل خلود فى العذاب ، واصبح يتمنى أمنية مستحيلة أن يأتيه الموت بالراحة من العذاب .!! فقد الماضى والحاضر والمستقبل ، وأصبح لزاما عليه أن يحيا فى هذا العذاب خالدا مخلدا دون نهاية.!!
5 / 3
وبينما يتحلى أهل الجنة بلبس الحرير والفضة والذهب فان لباس أهل النار عذاب لأهل النار . يقول جل وعلا عن لباس أهل الجنة : (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا)(الكهف 31) ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ)(فاطر 33 ) (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) ( الحج 23).
وفى نفس السورة يقول جل وعلا عن لباس أهل النار ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ)( الحج 19 ) (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ)(ابراهيم 49 : 50)
5 / 4 :
عن اعتقال أهل النار فيها بلا أمل فى الخروج يقول تعالى : ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)، وهم محاطون محاصرون محبوسون بهذا السرادق النارى ، وهم يدورون دورات عذاب مستمرة وخالدة من قعر النار الى أعلاها.
ويصف رب العزة دورة من دورات العذاب فى جهنم حيث يمكن تخيل الكافرين فيها وهم يدورون فيها من أعلى الى أسفل تحت عذاب مستمر ، وتحول لباسهم الى نار وطعامهم وشرابهم الى جمر ملتهب أو"لافا " أو " مجما " وفق تخيلنا ، ثم يخيل اليهم امكانية الهروب اذا اقتربوا من أبوابها فى دورة العذاب وحينئذ تلاحقهم ملائكة النار بمقامع من حديد فيهوون الى أسفل الجحيم ، ويعاودون الصعود فى الدورة التالية من العذاب فاذا وصلوا أبعد نقطة حاولوا الهرب فتتلقفهم الملائكة بالمقامع فتعيدهم الى قعر الجحيم ، وهكذا الى أبد الآبدين: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ) أى يستحمون بالنار فتصهر جلودهم وبطونهم (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ) (وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ . كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) الحج 19 : 22)
فى هذا العذاب الأبدى كلما نضجت جلودهم بدلهم الله تعالى جلودا غيرها ليستمروا فى العذاب ( النساء 56 ) دون راحة أو دون موت ، يقول تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ) ويعلو صراخهم يطلبون من الله تعالى اخراجهم ويأتيهم الرد بأن الله تعالى أعطاهم الفرصة فى العمر فى حياتهم الدنيا، وفرصا متكررة لمن أراد أن يتذكر ولكنهم تحدوا الله تعالى وأنكروا رسله فأصبح عليهم ان يذوقوا ما كانوا يكذبون به : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ. فاطر 36 : 37)
ثم يتجهون الى رئيس ملائكة الموت واسمه " مالك " يطلبون منه ان يريحهم الله تعالى عليهم بالموت فيرد عليهم يذكّرهم بعنادهم فى الدنيا وتكذيبهم بآيات الله تعالى فى القرآن وسائر كتبه المنزلة : ( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ ماكثون . لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) الزخرف 74 : 78)
أخيرا : لمجرد التذكرة لأصحاب التدين السطحى والاحتراف الدينى:
1
ـ هذا العذاب المريع من نصيب من أراد الدنيا وآثرها على الآخرة . والناس نوعان ، منهم من يبريد الدنيا ومنهم من يريد الآخرة ، وكان هذا حال الصحابة انفسهم ، يقول جل وعلا يخاطبهم فى أحد المواقف:(مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ) ( آل عمران 152)..
2 ـ مريد الدنيا يرضى بها ويطمئن لها غافلا عن الهدى ، وقد وصف الله جل وعلا نفسيته فقال :(إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) وقال عن جزائهم فى الآخرة:( أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) أى بسبب كسبهم السىء فى الدنيا ينتظرهم عذاب الآخرة ، وقد تعرضنا لبعض تفصيلاته . ويقول تعالى عن الجانب المقابل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) ( يونس 7 : 9)..
3 ـ مريد الدنيا تضيع ثمرة اعماله الصالحة فى الآخرة لأنها لا تصلح إلا للدنيا ، لذا تأتيه المكافأة عليها فى الدنيا، وينتظره عذاب الآخرة:(مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) ( هود 15 : 16)..
4 ـ يتوقف الأمر على قرار من الانسان ، لو أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فقد زكّى نفسه ليصلح لنعيم الآخرة ، ومن غفل عن تزكية نفسه منشغلا بالدنيا فليس له فى الجنة نصيب ، وينتظره عذاب الجحيم.
5
ـ هل تستحق الدنيا لحظة نعيم فى الجنة أو لحظة عذاب فى الآخرة ؟.!

(5 )إختبار التفاضل فى الرزق إطارا لتشريع الزكاة المالية : تزكية النفس باعطاء المال

مقدمة:
قام الدين السّنى بتشوية الزكاة الاسلامية فقصرها على مجرد إعطاء المال صدقة ، بل شرع فى تلك الزكاة المالية تشريعات تخالف التشريع الاسلامى فى القرآن من حيث مقدار الزكاة وموعدها ، علاوة على الخلط بين مفاهيم الصدقة و الزكاة والانفاق . ومن أسف فإن هذا التشويه السّنى هو الشائع فى ثقافة المسلمين . ولعلاج هذا الخلل نتعرض فى سلسلة المقالات هذه لتشريع ومفهوم الزكاة فى الاسلام.
وقد سبق التركيز على ما أغفله الفقهring; السنى ، فشرحنا مفاهيم الزكاة و الصدقة والانفاق من خلال السياق القرآنى ، ومنه أيضا تعرفنا على المفهوم القرآنى المشهور (إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ) بما يعنى تزكية النفس والسمو بها ، ثم تتبعنا فى مقالات تالية معنى تزكية النفس أو زكاة النفس من خلال النسق القرآنى للتأكيد على أن تزكية النفس هى مدار التشريع الاسلامى و العقيدة الاسلامية ، وليس كما يرى فقهاء الدين السّنى مجرد إعطاء للمال.ونبدأ هنا الجانب الآخر بالتوقف مع تزكية النفس باعطاء المال لتوضيح الاختلاف بين تشريعات الزكاة المالية فى الاسلام وتشريعات الفقهاء فى الدين السنى.وقبلها نتوقف فى هذا المقال مع إطار هذا التشريع وحكمته حيث شاءت إرادة المولى جل وعلا فى إختبار البشر أن يجعلهم متفاضلين فى الرزق ، ليكون أختبار الغنى فى ماله وثرائه ويكون اختبار الفقير فى فقره وصبره.
ونعطى التفاصيل:
أولا :ـ إقترانالتحكم الالهى فى الرزق بالتحكم فى الكون و الخلق:
1
ـ الله جل وعلا هو وحده فاطر السماوات والأرض ، أى الذى خلقهما من لا شىء . وأيضا هو وحده الذى يملك التحكم فيما خلق وفيمن خلق ، وقد شاء أن يجعل الموارد الاقتصادية فى الأرض ملكية عامة متاحة للبشر جميعا معروضة عليهم على أساس المساواة ، وسمى تلك الموارد ( أقواتا) وجعلها سواء ، أى حقا لكل من يسعى اليه، يقول جل وعلا عن الأرض :( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ)( فصلت 10).
ومع كون الموارد الأرضية حقا بالتساوى لكل البشر إلا أنها تستلزم عملا وسعيا وجهدا فى الزراعة والصناعة والاستغلال والاستخراج ، ولم يخلق الله جل وعلا البشر متساوين فى الحيوية والنشاط او الرغبة فى السعى أو فى الذكاء والمعرفة أوالصحة والمرض والامكانات البشرية ، وبسبب هذه الفروق الفردية فليس كل البشر من الساعين للعمل أوالقادرين على الابتكار. ومن هنا تتجلى أحد سببى التفاضل فى الرزق ، وهو السبب المعروف لنا.
2
ـ ولكن قد تمتع بكل مؤهلات الحصول على الرزق ولكن لا تحصل عليه لأسباب تخرج عن علمك وارادتك . هب إنك ذهبت للصيد فى البحر مسلحا بكل الامكانات عالما بأن البحر غني بالرزق ، ولكن لا يمكن أن تضمن الرزق ، بل قد لا تضمن أن ترجع حيا . وهنا السبب الآخر الذى يرجع الى الحتميات الأربع التى تسرى على الانسان فيما يعرف بالقضاء والقدر ، وتلك الحتميات تتعلق بالميلاد والوفاة و المصائب والرزق.
فالرزق فى كميته ووقته يقع ضمن الحتميات التى يتصرف الله جل وعلا فيها وحده، فهو جل وعلا الذى خلقنا متفاوتين فى الرزق (الظاهر) يقول جل وعلا:(وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ )(النحل 71) .
3
ـ هذا يفسر لنا الارتباط بين كونه جل وعلا هو وحده فاطر السماوات والأرض وأنه وحده الذى يبسط الرزق لمن يشاء و يمسك اى يقلل الرزق على من يشاء ، ونحن هنا نتحدث عن الرزق الظاهر من اموال سائلة وأرصدة بنكية و ممتلكات عينية ، يقول جل وعلا :(فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الشورى11 : 12 ) . بالتدبر هنا نرى أنه من صفات الله جل وعلا التى لا يوصف بها غيره : أنه فاطر السماوات والأرض ، وأنه خالق الزوجين الذكر والأنثى ، وأنه ليس كمثله شىء ، وانه السميع البصير الذى لا مثيل له فى السمع والبصر ، وأنه وحده المالك والمتحكم فى مقاليد السماوات والأرض ، وبالتالى فهو جل وعلا وحده الذى يبسط الرزق لمن يشاء ويقلله لمن يشاء طبقا لعلمه الذى وسع كل شىء.
4 -
ومن هنا جات الحجة على مشركى قريش وغيرهم الذين يؤمنون بأن الله جل وعلا هو خالق السماوات والأرض والذى سخّر الشمس والقمر ، ـ لاحظ أن من أشعة الشمس تأتى معظم موارد الأرض أو الرزق ـ وأنه المتحكم فى الرزق والذى يبسط الرزق لمن يشاء فيكون ثريا ـ ويقلله لمن يشاء فيكون فقيرا. فإذا كانوا يؤمنون بهذا فلماذا يتخذون معه أولياء و آلهة أخرى مخلوقة ؟ نقرأ هنا قوله جل وعلا :( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (العنكبوت 60 : 62)
ثانيا ـ فرض الزكاة المالية علاجا للتفاضل فى الرزق
1 ـ وهذا التفاضل فى الرزق جاء علاجه فى نفس الآية، يقول جل وعلا : (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)( النحل 71).
2
ـ فأعظم دليل على التفاضل بين البشر فى الرزق أن يتملك فرد من البشر أخا له فى الانسانية فيما يعرف بالاسترقاق ، ولا يمكن عمليا القضاء التام على الظاهرة لأنها تعبير عن الظلم والعدوان فى طبيعة الانسان وفى حركته على هذا الكوكب ،ولذلك فانه بعد تحريمها عالميا فى شكلها الفج فهى تتلون وتتخفى تحت مسميات شتى فى استعباد الأفراد ، مثل الاستغلال الهائل للعمال والفلاحين والسخرة ونظام الكفيل والدعارة أوالرقيق الأبيض واستغلال العمالة الأجنبية وتهريبها واسترقاقها عرفا وسرا فى أكبر مدن العالم. بل قد تتحول الى استرقاق شعب وشعوب تحت مسمى الاستعمار، او قيام نظم حكم مستبدة بشعارات دينية أوعنصرية أو وطنية أو حزبية ومن خلالها يسترق الحاكم الفرد شعبا بأكمله. وهذا موجز تاريخ العالم.
3
ـ ولأن الاسترقاق هو أبعد مدى يصل اليه التفاضل فى الرزق لذا يجعل الله جل وعلا علاجا مناسبا لهذا التطرف أوالاسترقاق ضمن وسائل الاسلام العملية فى علاج ظاهرة الرق ، ليس فقط من خلال نظامه الاقتصادى فى التعامل مع الثروة على اساس العدل الاجتماعى وكفالة الفقراء ومنع تركز المال فى يد فئة قليلة ، وليس فقط من خلال نظامه السياسى القائم على الحرية والديمقراطية المباشرة ، وليس فقط من خلال التمسك بالقيم العليا من التقوى و العدل والحرية والاحسان وتجريم ومنع كل اشكال الظلم والبغى ، ولكن أيضا من خلال تفصيلات تشريعية خاصة بموضوع الرق نفسه ؛ فلا يجوز فى الاسلام استرقاق من الأصل، أى منع من المنبع ، وبالتالى فليس هناك مورد أو مصدر للرقيق داخل الدولة الاسلامية الحقيقية التى تطبق شرع الله جل وعلا إلا من خلال الشراء من الخارج لمن سبق استرقاقه بغير المسلمين، وهذا ما كان سائدا وقت نزول القرآن.
4
ـ تبقى مشكلة تحرير الرقيق المشترى ، فأوجب الله جل وعلا تحريره من خلال بنود كثيرة مذكورة فى الكفارات والفدية، مع جعل تحرير الرقيق وعتقه من أبرز أنواع البر والصدقات . فإن لم يقم المالك بتحريره فعليه أن يتعامل معه على اساس التساوى فى الرزق ، أى يعطى الرقيق نفس المخصصات التى يتمتع بها المالك ، وإلا كان ذلك المالك جاحدا لنعمة الله جل وعلا حين فضّله فى الرزق الى درجة استطاع بها شراء أخ له فى الانسانية.
5
ـ وهذا هو معنى قوله جل وعلا : (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)(النحل 71). وبالتالى يكون جاحدا لنعمة ربه من يبخل ولا يعطى الزكاة العادية مالا للفقراء والمحتاجين وفق شرع الرحمن جل وعلا . وجحود النعمة يتساوى مع الكفر.
ثالثا : ـ أسلوب الترغيب والترهيب فى الحث على الصدقة والتحذير من البخل
ولأن التفاضل فى الرزق بيد الرحمن جل وعلا ، ولأن البشر قد خلقهم ربهم أحرارا فى الطاعة أو المعصية فى التصدق أو البخل ، ولأن شرع الله جل وعلا مرتهن فى تطبيقه أو عدم تطبيقه بارادة البشر فإن الله جل وعلا يستخدم اسلوب الترغيب والترهيب فى حث البشر والمؤمنين بالذات على تقديم الزكاة المالية أو الصدقة ابتغاء وجه الله جل وعلا وحده.
وهنا نلاحظ الآتى :ـ
التفاضل فى الرزق قرين الإخلاف الالهى للمتصدق
*يقول جل وعلا :(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( سبأ 39 ) ، فبعد إقرار حقيقة التفاضل فى الرزق يأتى الحث للأغنياء على الصدقة والزكاة المالية بوعد بأن الله جل وعلا سيخلف لهم مالا وثوابا مقابل ما دفعوه.
*
ويقول جل وعلا :(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ) ( سبأ 36 : 37 )،أى إن للتفاضل فى الرزق حسابات لا يعلمها البشر ،أى لا يعلمون لماذا جعل الله جل وعلا فلانا فقيرا وجعل أخاه فلانا ثريا ، ولماذا كان هذا أميرا وكان ذاك أجيرا. وفى النهاية فليس الغنى والجاه رخصة للبشر كى يحوزوا مكانة عالية عند الله جل وعلا ، أى ليس رب العزة منحازا للأغنياء كما ينحاز أرباب الأديان الأرضية لأصحاب الثروة و السلطة ، رحمة الله جل وعلا ستكون قريبة من المحسنين المقربين الأبرار يوم القيامة من الفقراء الصابرين والأغنياء المتصدقين . وهنا يشير رب العزة الى أن جزاء المتصدق سيكون الضعف بالاضافة الى الجنة والأمن من عذاب يوم القيامة.
*
ويقول جل وعلا :(مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (البقرة 245 ) أى فلأنه جل وعلا ليس منحازا للفقراء ضد الأغنياء أو للأغنياء ضد الفقراء ، ولأن أوامره ونواهيه هى للجميع على قدم المساواة ، ولأن الذى يختار التقوى و الطاعة منحازا لرب العزة هو فقط الذى يرضى عنه ربه ، من أجل ذلك يأتى هذا الخطاب الالهى للبشر جميعا بصيغة مؤثرة تدعو صاحب المال لأن يقرض الله جل وعلا ـ بتقديمه الصدقة للفقراء ـ وبعد هذا الأسلوب شديد التأثير يأتى الوعد بأن يخلف الله جل وعلا عليه أضعاف هذا المال فى الدنيا حيث أن التفاضل فى الرزق بيد الله جل وعلا ، ونفهم هنا أن من حسابات التفاضل فى الرزق فى الدنيا هو تقديم الصدقة ، فمن يتصدق يبسط الله جل وعلا فى الرزق فى هذه الدنيا قبل الآخرة.
ومن حيث البلاغة والفصاحة يتنوع أسلوب الترغيب فى جزاء الصدقة
* مثل ضرب الأمثلة واستعمال اسلوب التشبيه شديد الدلالة كقوله جل وعلا :( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة 195 ). التشبيه هنا واضح وشديد الاغراء.
*
ومنها الاسلوب التقريرى بالأمر المباشر مصحوبا بالاغراء باخلاف المال فى الدنيا: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) ( الأنفال 60 ) أو يأتى الأمر مصحوبا بالاغراء بالغفران فى الآخرة :( وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (النور 22)
*
أو يتحول الأمر الى صيغة الجملة الاسمية التى تفيد الثبوت والدوام:( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( البقرة 261 : 274).
2
ـ وهذا الترغيب فى تقديم الصدقة يتوازى معه ترهيب من منع الصدقة و البخل.
ولهذا الترهيب أنواع وأقسام على النحو الآتى:
*
ـ العقاب الالهى الفردى فى الدنيا
كما حدث لقارون الذى بسط الله جل وعلا له فى الرزق فطغى وبغى وجحد فعوقب على رءوس الأشهاد بالخسف فى الأرض :(فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)(القصص 81 : 82)
*
ـ العقاب الجماعى فى الدنيا
ويأتى التحذير للمؤمنين الصحابة فى عصر النبوة حين رفض بعضهم الانفاق فى سبيل الله ، وجاء الوعيد لهم بأن يحيق بهم عاقبة بخلهم ، يقول جل وعلا لهم ولنا وللبشر جميعا : (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ) ( محمد 38).. وتحقق هذا الوعيد بعد وفاة خاتم المرسلين . نعرف ما قاموا به من فتوحات تخالف شرع الله جل وعلا ، وما صحب هذه الفتوحات من سلب ونهب وسبى واسترقاق ، وتكدست الثروة المسلوبة المنهوبة فى أيدى كبار الصحابة ، مما أدى للنزاع على الثروة وتحول النزاع الى حرب أهلية أو ما يعرف بالفتنة الكبرى ، وأسفرت عن قتل عشرات الألوف منهم، ولا نزال نعيش فى هذه الفتنة حتى الآن ، فلا زلنا نعيش مسبباتها من تكدس الأموال بالظلم والقهر فى أيدى فئة قليلة، واستخدام اسم الله جل وعلا فى أكل اموال الناس بالباطل وتبرير السلب والنهب والقتل بزعم الجهاد . وهنا يأتى العقاب للجميع ، يعمّ الظالم والمؤيد للظلم والساكت عن الظلم . وقد حذّر رب العزة من تلك المحنة فقال : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(الأنفال 25).
وليس هذا العقاب فى الدنيا فقط ، بل فى الآخرة أيضا.!
العقاب فى الآخرة
يأتى أسلوب الترهيب فى تحذير للمؤمنين من عذاب الآخرة لو بخلوا . يقول جل وعلا : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (الحشر 9 ) . فقد كان من الأنصار من وصل به العطاء والكرم الى درجة الايثار على النفس مع معاناة الفقر. وأولئك قد نجوا من مرض يسميه رب العزة ( شح النفس). والمفلحون فى الآخرة هم الذين نجو فى الدنيا من هذا المرض : (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
ويتكرر هذا المصطلح ضمن أوامر بالتقوى والطاعة والانفاق فى سبيل الله جل وعلا علاجا من شح النفس ووقاية منه، يقول جل وعلا : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ )(التغابن 16).
ومن يأتى نصح المؤمنين بالتصدق فى هذه الحياة قبل أن يأتى الموت ويتمنى المؤمن لحظة الاحتضار لو كانت لديه فسحة من الوقت ليتصدق وليكون من المحسنين ، وهى أمنية فات موعد تحقيقها ، لذا يأتى مقدما الوعظ والتحذير :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( البقرة 254).
ويأتى تحذير آخر للمؤمنين باقامة الصلاة والتصدق فى هذه الدنيا سرا وعلانية قبل أن تأتى الآخرة ( قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ )(ابراهيم 31)، فالآخرة ليست دار العمل الصالح بل دار الثواب والعقاب والجنة والنار لمن أحسن أو عصى، ولمن تصدق أو بخل.
ويقولها رب العزة بكل حسم أن المؤمنين لن ينالوا درجة الأبرار يوم القيامة إلا بعد أن ينفقوا أحب ما لديهم فى سبيل الله :(لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )( آل عمران 92 )، فهناك من يتصدق بالفائض عنده ، أو بالزبالة ، لا يدرك أن الله جل وعلا عليم بما ينفق ، وهذا لن ينال البرّ حتى ينفق لوجه الله جل وعلا أثمن وأفضل مما عنده.
ونظير ذلك أن تطعم الفقراء فى سبيل الله جل وعلا أحب أنواع الطعام وأحب ما تشتهيه ، وهذا هو ما يفعله الأبرار فى الدنيا : ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) (الانسان 7 : 11)
رابعا : عناصر الاختبار فى موضوع التفاضل فى الرزق والزكاة ـ:
1
ـ عدم وجود عقوبة على من يمنع الزكاة المالية فى تشريع الاسلام:
(
قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة 53 : 54 )، فالزكاة المالية فرض واجب ، ولكن من يمتنع عن تأديتها لا عقوبة عليه من الحاكم ، فيكفيه أن الذى يتولى عقوبته هو الله جل وعلا الذى يبسط الرزق ويقدره ، والذى يعزّ منن يشاء ويذلّ من يشاء . وهذه حقائق تاريخية وانسانية موجودة فى كل مجتمع.
2
ـ لاوجود للنصاب ، بل عليك أن تنفق من أى رزق يأتى اليك مهما بلغت ضآلته، فهذه من ضمن صفات المتقين :(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)(البقرة/ 3 : 4)

3 ـ معنى المحسن : وهكذا فالفقير عليه أن يتصدق بما يستطيع ، وأن يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة أو حاجة ، وهذا هو منتهى الكرم ونبل الأخلاق فى الاسلام . فإذا لم يجد الفقير ما ينفق منه فعليه أن يتمنى ذلك مخلصا فى قلبه ، أى يتمنى أن يعطيه الله جل وعلا مالا لكى ينفق منه ويتصدق. وهنايكون عند الله جل وعلا محسنا بمجرد النية الصادقة.
نفهم هذا من قوله جل وعلا عن بعض الصحابة الأبرار الفقراء الذين كانوا يبكون لعجزهم عن التبرع فقال الله جل وعلا عنهم يرفع عنهم الحرج : (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ) ، أى جعلهم محسنين مع أنهم لا يجدون ما يتبرعون به ، والسياق القرآنى هنا يقول :(لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ)( التوبة 91 ـ).
4
ـ وفى المقابل يكون الجزاء عنيفا مع االذى يعاهد الله جل وعلا وينذر إن أغناه الله جل وعلا أن يتبرع ويتصدق ، فلما أغناه الله وأوسع عليه فى الرزق حنث بعهده. هذا ما حدث من احد الصحابة ونزل فيه قوله جل وعلا يحكم عليه بسوء المصير يوم القيامة : (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( التوبة 75 : 78)
5
ـ ونظير ذلك تلك العقوبة الهائلة لمن يسخر من المتصدقين المخلصين ، وهذا ما حدث من بعض المنافقين فى عهد خاتم المرسلين ، وقد استغفر النبى لهم فلم يقبل الله جل وعلا استغفاره لهم :(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)( التوبة 79 : 80).
أخيرا
1 ـ تلك بعض مظاهر الاطار التشريعى لتفصيلات وأحكام الزكاة المالية فى الاسلام . يتضح فيها أن زمام الأمور فيها بيد الله جل وعلا ، فهو الذى جعل البشر متفاضلين فى الرزق وهو الذى شرع تأدية الزكاة المالية واجبا وفرضا لعلاج هذا التفاوت فى الرزق ، وهو الذى خلق البشر احرارا فى الطاعة أو المعصية، وهو الذى يستخدم معهم اسلوب الترغيب والترهيب، وأخيرا هو الذى يتولى عقابهم ومكافأتهم فى الدنيا والآخرة.
2
ـ ولأن للزكاة المالية وصفا أخلاقيا هو ( الكرم ) فإن لها إطارا أخلاقيا آخر يربط بين التشريع الاسلامى فى الزكاة وبين الجانب الخلقى فى الاسلام .

 

 6 )   الاطار الأخلاقى لتشريعات الزكاة المالية فى الاسلام : تزكية النفس باعطاء المال

مقدمة:
1
ـ سئل فقيه : هل يمكن أن أباشر زوجتى جنسيا فى نهار رمضان ؟ فأجاب الفقيه : نعم . سافر بها . فلو سافرت بها جاز لك الافطار وجاز لك مباشرتها جنسيا.وسئل فقيه آخر : أريد أن أتزوج بلا مهر ، فقال الفقيه : يمكن ذلك بزواج ( الشغار ) أى أن تزوج ابنتك أو أختك لفلان على أن يزوجك هو ابنته أو أخته ، و يتنازل كل منكما عن الصداق للآخر.وسئل فقيه آخر : لا أريد أن أدفع زكاة مالى ، فهل عندك من حيلة ؟ فقال الفقيه : نعم . تعطى زكاة مالك الى من تثق فيه على ان يعطيك هو زكاة ماله بنفس القدر.
هذه بعض الفتاوى المشهورة فيما يعرف بفقه الحيل.( فقه الحيل ) من أشهر ملامح الشريعة السّنية ، بدأ به المذهب الحنفى ثم اتسع ميدانه لكل من يريد التلاعب بشرع الله جل وعلا .
2 ـ هناك تياران متعارضان فى الفقه السنى : أحدهما تيار (عقلى ) ولكن لا يستخدم العقل والفكر فى استنباط احكام القرآن وفى تطبيقها ، بل فى التحايل عليها ، كما سبق فى الأمثلة السابقة . ثم هناك الاتجاه المحافظ الرافض للعقل والمعتمد على تزوير الأحاديث والاكتفاء بها فى سنّ أحكام الشريعة السنية.والتياران معا يتناقضان مع المنهج الاسلامى فى التشريع ، حيث يكون القرآن هو المصدر الوحيد للشرع الاسلامى ، وحيث يكون استباط الأحكام الشرعية من القرآن مرتبطا بالتقوى وليس بالتحايل والتلاعب بشرع الله جل وعلا.والأحكام التشريعية فى القرآن دائما ترتبط بالتقوى ، وهى خلاصة الأخلاق العالية ونقاء الضمير بحيث يحاسب الفرد نفسه ويتحسب للوقوع فى الخطأ ، فإذا وقع فيه بادر بالتوبة وتصحيح الايمان والعمل ، وتنقية صفحته قلبيا وعمليا من الرذائل.
3 ـ وكل العبادات فى الاسلام وسائل للتقوى ، أو حسن الخلق والتمسك بالقيم العليا ، ولكن الفقه السنى أهمل عنصر التقوى فى العبادات ، فقام بالتركيز على الأداء الشكلى والمظهر السطحى فتتحول العبادات الى وسائل للرياء و العصيان والفساد الخلقى.
4
ـ وقد أوضحنا اهمال الدين السنى لمفهوم الزكاة والتزكية واقامة الصلاة وايتاء الزكاة ودور الزكاة المالية عموما فى تزكية النفس بالتقوى وكون التفاضل فى الرزق اختبارا للبشر فى تأدية الزكاة المالية .والآن نتوقف مع الاطار الأخلاقى الخاص بموضوع الزكاة المالية أو آداب تقديم الصدقة ـ قبل واثناء وبعد تقديمها ـ حتى يقبلها رب العزة جل وعلا.
أولا : آداب الصدقة قبل تقديمها:
(
أ ) معرفة أن الصدقة ضمن الحقوق المالية المفروضة على المؤمن:
1
ـ ذكر رب العزة جل وعلا بعض الحقوق المالية على المؤمن ، ومنها : كتابة الوصية للوالدين والأقربين بالعدل و المعروف حقا واجبا مفروضا على المتقين وهم يودعون الحياة :(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) ( البقرة 180 )، و حق المطلقة قبل الدخول فى متعة مالية بالمعروف و العدل :(لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) ( البقرة 236 ). و حق المطلقات بعد الدخول فى المتعة المالية بالمعروف و العدل (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) ( البقرة 241).
2
ـ وجاء التركيز على كون الصدقة حقا للمستحقين أو ( حق الصدقة). :
فالصدقة من الحقوق المالية على المؤمن ، ويجب عليه وهو يؤديها أن يعلم أنه يؤدى حقا مفروضا عليه ، وأن الفقير او المحتاج هو (صاحب حق ) والمتصدق يؤدى له ( حقّه ) ، فليس للمتصدق منّة أو فضل أو جميل على (المتصدق عليه ) ، وبالتالى فعلي المتصدق المقدم للزكاة أن يؤديها ابتغاء مرضاة الله جل وعلا ، ليس تملقا أو رياءا أو تفاخرا أو بالمنّ والأذى.
وقد أشار رب العزة الى بعض أوجه (حق الصدقة ) بنفس تعبير ( الحق ) أى المستحق شرعا ، ومنها:
2/ 1 :
الصدقة من الزروع و المنتجات الزراعية ، ويكون إخراجها بمجرد وقت الحصاد ، يقول جل وعلا : (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )(الأنعام 141)
2 / 2 :
عموم الصدقة على كل أنواع الدخل ، يقول جل وعلا :(وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ) ( الاسراء 26 )(فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )( الروم 38 ) (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) ( الذاريات 19 )(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) ( المعارج 24 : 25)..
3 ـ وواضح وصف الصدقة ـ أو (الزكاة المالية ) بأنها (حق ) أى واجب الأداء.
وتفسير ذلك هو أن الله جل وعلا هو الرزاق ، وهو صاحب المال فى الأصل ، فأنت حين تنفق فأنت لا تنفق من مالك ولكن من مال الله الذى أعطاه لك (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) ( النور 33 ) أى إنك مستخلف فى المال الذى أعطاه الله تعالى لك ، وهو الذى استخلفك على هذا المال ، وهو الذى أمرك بالانفاق منه (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) (الحديد 7).
(ب ) : تقديم الصدقة من المال الحلال وليس الحرام
1ـ ولأن الصدقة هى ( صدق ) فى التعامل مع رب العزة الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، وهو الذى يعلم مصدر حصولك على الأموال ، وما جاء منها بطريق حلال وما جاء منها غصبا وحراما ، فليس من المنطق أن تتقرب لله جل وعلا بالتصدق بمال تعرف أنه حرام . هذا ليس خداعا لرب العزة بل خداع للنفس.والله جل وعلا لا يقبل الصدقة الآتية من مال خبيث ، بل يفرض أن تاتى الصدقة من مال طيب حلال من كسب اليد ومما تخرج الأرض ، يقول جل وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ( البقرة 267)..
2 ـ هنا تبدو احدى ملامح التناقض الأخلاقية بين الاسلام والدين السنى فى موضوع آداب الصدقة .
الاسلام يوجب مجىء المال من حلال بعيدا عن اى شبهة فساد أو ظلم ، ولكن فى الدين السّنى تجد النقيض ؛بالتشجيع على كسب المال الحرام ، ثم التصدق ببعضه لتطهيره وتطهير صاحبه.وتلعب الأحاديث الشيطانية دورا هاما فى الترويج لهذا الافك ، فمن يحج يرجع كيوم ولدته أمه نقيا من الذنوب ، وليس مهما إن يعصى طول العام ثم يحج بضعة أيام ينفض فيها عن جسده أوزار كل العام ، وليس مهما مصدر المال الذى يحج به، ومن يبنى مسجدا ولو كمفحص قطاة يبنى الله له قصرا فى الجنة ، وليس مهما إن كان البانى للمسجد مصليا أم لا ، وليس مهما مصدر المال الذى يبنى به.ومعظم المبانى الدينية للمسلمين من مساجد وزوايا وخوانق وأسبلة ورباطات ومقامات تم بناؤها فى تاريخ المسلمين بالسخرة ومصادرة الأموال ومن الكسب الحرام لأمراء وملوك فجرة مستبدين مفسدين أرادوا التكفير عن مظالمهم ببعض ما اكتسبوه من المال السحت ، وهذا ما لا يقبله الله جل وعلا .
ج ): معرفة أن الله جل وعلا يعلم سريرتك وما تقدمه من صدقة او نذر
1 ـ ومن هنا يتردد ويتكرر فى موضوع الحث على الصدقة تذكير المؤمن بأن الله جل وعلا يعلم سريرته ومصدر ماله ، سواء تصدق من هذا المال أو قدمه نذرا لله جل وعلا :( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) ( البقرة 270) . هذا من ناحية مصدر المال.

2 ـ ومن حيث المستحقين للصدقة فقد يرى المتصدق ان بعض مستحقى الصدقة على غير دين أو خلق فيجعل ذلك مبررا لحرمانهم من حقهم ، وهذا خطأ جاء التحذير منه لخاتم المرسلين مؤكدا أنه ليس مسئولا عن هداية أحد لأن الهداية ارادة شخصية لكل انسان ، ومسئولية شخصية على كل فرد ، وهى علاقة مباشرة بينه وبين ربه لا شأن لمخلوق آخر بالتدخل فيها حتى لو كان خاتم النبيين ، فمن يشاء من البشر الهداية يهده الله جل وعلا ، وكونه مهتديا أو ضالا لا علاقة له باستحقاقه للزكاة المالية أو الصدقة.
المؤمن منهى عن تدخل عواطفه الشخصية والدينية فيمن يستحقون صدقته لأنه يقدمها ابتغاء مرضاة الله وليس تبعا لهواه وعواطفه ، ولو التزم الاخلاص فى إعطاء الصدقة لمستحقيها على أساس الاحتياج الفعلى للصدقة فإن الله جل وعلا سيوفيه خيرا فى الدنيا والآخرة :( لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ )( البقرة 272) .
3 ـ والحكم باستحقاق فلان للصدقة يقوم على حسب الظواهر ، وهناك من يدعى الفقر ، وهناك من يحترف السؤال والتسول ، ولهم حق طالما سألوا الناس ، فللسائل حق وكذلك للمحروم.
ولكن لا ينبغى أن يصرف إلحاح محترفى التسول النظر عن بعض مستحقى الصدقة الحقيقيين ، ومنهم من نسميهم بالمستورين ، أى أناس محترمون يعانون الفقر سرا ولكن يسترون حالهم بالصبر الجميل والتعفف . وأولئك يكثر عددهم فى عصور الفساد حين تتكون الطبقات المترفة التى تكتنز الثروة وتحتكرها.
وحين يفتح الفساد أبوابه لكل باغ وعاد من كل الطبقات فإن الشرفاء الرافضين للفساد ينتقلون تدريجيا للفقر ، ويهبطون من الطبقة العليا للوسطى ثم للطبقة الدنيا . ومنهم من يقف ضد الفساد يقول كلمة حق فى وجه الظالمين فيتعرض للاضطهاد ، وقد يلجأ للهجرة تاركا بيته وأهله فتنقطع به السّبل ويعيش محاصرا فى الأرض.هذا الصنف الكريم الشريف من المؤمنين الأطهار الفقراء المستورين هم الأحق بالصدقة ، والأحق بالعثور عليهم لمعاونتهم ، وما أروع قوله جل وعلا فيهم :(لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )(البقرة 273) .
ثانيا : الآداب عند تقديم الصدقة:
1
ـ بهذه الآداب والأخلاقيات قبل إعطاء الصدقة فإن المتصدق المؤمن المخلص لا يتقيد بوقت معين فى إعطاء الصدقة ، فحيثما يرزقه الله جل وعلا بمال ـ أى مال قليلا أو كثيرا ـ فإنه يسارع باخراج حق الله من هذا المال ، ليلا أو نهارا ، سرا أو علانية ، لأن قلبه قد أخلص لله جل وعلا حنيفا ، ولا يهمه ما يقال عنه من مدح أو قدح ، المهم أن يرضى ربه جل وعلا: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( البقرة : 274).
2 ـ ومن يصل لهذه الدرجة لا يخاف عليه من الرياء والنفاق طالما أخلص لله جل وعلا قلبه ووجهه ، لذا يستوى فى حقه أن أعلن صدقته ليقتدى به غيره وليشجع غيره ،أو أخفاها حرصا على مشاعر المتصدق عليه ، فهذا المتصدق النقى القلب يحاول بكل ما فى قلبه من نية حسنة أن يرضى ربه بكل حال : ( إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )( البقرة 271).
ثالثا : الآداب بعد ايتاء الصدقة : التحذير من المنّ على المتصدق عليه واعتبار المنّ أذى:
 1ـ أفظع ذنب يبطل عمل الصدقة ويستجلب حقد المتصدق عليه أن تمنّ عليه وتعيّره بما أعطيته له من صدقة . لا يفعل هذا مؤمن مخلص على الاطلاق لأنه يعرف أنه لا يعطى من ماله بل من مال الله جل وعلا الذى استخلفه فيه ، ولأنه يؤمن أن للفقير و المحتاج حقا فهو يعطيه حقه الشرعى المفروض من رب العزة ، وهو ينتظر مقابل ذلك ثواب ربه جل وعلا فى الدنيا وفى الآخرة ، وبالتالى فلا مكان إطلاقا لأن يمنّ على مستحق أخذ حقه ، بل يعلن له مقدما أنه لا يريد منه جزاءا ولا حتى مجرد كلمة شكر : (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ) ( الانسان 9 : 10).
الذى يمنّ على المتصدق عليه ويعيّره يعيش بثقافة قارون الذى زعم أنه صاحب المال وأنه حصل عليه بعلمه ، وعليه فلو أعطى من هذا المال فقيرا فإنه يرى من حقه استعباد الفقير بهذا المال ، وينتظر من الفقير أن يخضع له شكرا وعرفانا ،فإن لم يفعل سلقه بالمنّ والأذى. ولأهمية هذا من الناحيةالأخلاقية و النفسية فلقد عرض لها رب العزة بالتشريع والترغيب والترهيب مصطنعا أروع اسلوب مؤثر من الناحية البلاغية : ( البقرة : 262 : 266). 
2 ـ فى البداية يقول جل وعلا :( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) .
هنا أسلوب علمى تقريرى محدد ينقسم الى ثلاث فقرات فى حديث عن المتصدقين . الفقرة الأولى عنهم قبل وبعد إنفاق أموالهم فى سبيل الله ، وقد قاموا بالمطلوب قبل وأثناء تقديم الصدقة ، والمطلوب هنا أنهم قدموها مخلصين عقيدتهم لله جل وعلا بلا رياء أو تظاهر. الفقرة الثانية تتحدث عنهم بعد إنفاقهم فى سبيل الله فتصفهم بأنهم بعدها لم يتبعوا الصدقة بالمنّ والأذى . وبالتالى فقد نجحوا فى مرحلتى ما قبل وما بعد إعطاء الصدقة ، ويترتب على النجاح هنا أن ينالوا الجزاء ، وهو أن يكونوا من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أهمية الاسلوب العلمى هنا أنه جاء بالجملة الاسمية ( الذين ينفقون ..)( لا خوف عليه ).والجملة الاسمية تفيد الثبوت والدوام . وحين تستعمل فى معرض التشريع بمعنى الأوامر والنواهى تكون أكثر دلالة وأكثر حثا وأبلغ تحريضا ، كقوله جل وعلا فى الحث على تأدية فريضة الحج (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)(آل عمران 97) .
من هنا نفهم مغزى استعمال الجملة الاسمية فى التحذير من المنّ فى قوله جل وعلا :( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) .
ونتوقف مع العطف بالواو فى التفسير القرآنى للمنّ ، إذ جاء يعطف (الأذى) بالواو على (المنّ) ليجعل المنّ أذى ، ثم تأتى الآية التالية لتكتفى بكلمة (أذى ) فقط لتؤكد على أن المنّ أذى ، يقول جل وعلا (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى). والمفارقة واضحة هنا ؛ إنك تعطى شخصا مالا بيدك وتؤذيه بلسانك فيضيع ثواب فعلك عند الله جل وعلا و تخسر شكرانه ولا تجنى سوى نقمته . أى خسرت مرتين عندما اعطيته المال وعندما جنيت الكراهية . ومن هنا يكون المنّ ليس أذى للفقير فقط ولكن للمتصدق ايضا.
3
ـ واستعمل رب العزة نفس الاسلوب التقريرى العلمى الموجز وبالجملة الاسمية فى الآية التالية : ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) .المعنى ببساطة ان الاعتذار عن دفع الصدقة بلطف أفضل من ان تعطى صدقة ثم تتبعها بالمنّ والأذى . ويضاف اليها أن الله جل وعلا غنى عن العالمين وغفور رحيم حليم بهم.ومع الايجاز هنا فقد جاءت الآية الكريمة بمعنى جديد مترتب على الآية السابقة ومؤكد له.
4
ـ وبعد استعمال الجملة الاسمية والاسلوب التقريرى الموجز تأتى التفاصيل تشرح وتوضح.
4 / 1 :
وبدأ الشرح بالنهى بأبلغ عبارة وأوجزها . فلم يقل جل وعلا يا ايها الذين آمنوا لا تؤذوا من تعطيهم الصدقة بالمنّ حتى لا تبطلوا ثمرة صدقاتكم وثوابها ، ولكن جاء النهى بايجاز عن إبطال الصدقة بالمنّ والأذى ، فقال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى) .
4 / 2 :
وبعد النهى البليغ الموجز جاءت تفصيلات الشرح باسلوب أدبى يستعمل التشبيه فى أروع صوره ، يقول جل وعلا : (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )، فالمرائى الكافر بالله واليوم الآخر هو فقط الذى يقع فى المنّ والأذى ، وجاء تشبيهه بتراب فوق حجر هطل عليه مطر فأزاح التراب وكشف عن حجر صلد لا يصلح لزرع ولا نماء . والمعنى ان قلب المنافق المرائى كالصخر لا يجدى معه زرع ولا تبقى عليه تربة ولا ينفع فيه مطر ، فلو أنفق فلا خير فى نفقته لأن فى قلبه مرضا يجعل لسانه ينطق بالمنّ والأذى فيضيع ثمرة الانفاق.
4 / 3 :
وتأتى الآية التالية باسلوب تشبيه لانفاق المؤمن الذى يبتغى وجه الله جل وعلا : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ). التشبيه هنا بحديقة فى ربوة مرتفعة ، وهى ذات تربة غنية خصبة ، فلو جاءها مطر غزير أنتجت ضعفين وإن جاءها مطر قليل فهو يكفيها . فهنا الثواب مضمون والثمرة مضمونة وبلا اى خسارة.
4 / 4 :
ثم تأتى الآية التالية بأروع صور التشبيه ، وهى التشبيه التمثيلى الذى يحكى قصة شديدة الايحاء وشديدة الايجاز ، يقول جل وعلا : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) ( البقرة 262 : 266).

تخيل أنك شيخ طاعن فى السن يقترب منك الموت وتقترب من الموت ، وانت وحدك مسئول عن حديقة فيحاء من نخيل وأعناب ، وقد أفنيت عمرك فى استزراعها واستنباتها ورعايتها حتى علت أشجارها وآتت ثمارها ، وفى غمرة انشغالك بها نسيت أن تتزوج فى شبابك ، ثم تزوجت متأخرا ، وأنجبت فى ارذل العمر أطفالا صغارا لا حول لهم ولا قوة ، وأصبحت وحدك المسئول عنهم وعن رعايتهم وعن رعاية الحديقة ، ثم جاءت المصيبة الكبرى بأن نزل إعصار محرق فدمر الحديقة وأحالها الى خراب . وبقيت أنت وأطفالك بين خرائبها ، ليست لديك القدرة على اصلاحها واعادة تعميرها ولن تعيش حتى ترى أولادك يكبرون ويصلحونها . ستبقى تنظر الى الخرائب والأطفال الصغار و جسدك الواهن عاجزا يائسا.هل تودّ هذا لنفسك ؟ بالطبع ..لا.
ولكن هذا ما ستقع فيه فعلا فى الدنيا والآخرة حين تنفق الصدقات وتتبعها بالمن والأذى ، فأنت تتخيل وتتوقع الجزاء الشكور من الناس ، وفى النهاية لن تجد سوى الجحود من الناس و المقت و العذاب من رب الناس.
هذا هوالبيان الرائع للقرآن الذى يدعو الناس للتفكير والاعتبار (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ).
5 ـ وبرغم كل هذه الأوامر والنواهى واستخدام شتى الآساليب الحقيقية العلمية التقريرية و البلاغية الأدبية المجازية فإن أغلب المسلمين اليوم يقعون فى المنّ والأذى.
وأشهرهم فى هذا المجال المظلم الموحش آل سعود الذين اغتصبوا أرض معظم الجزيرة العربية وجعلوها مملكة وضيعة ومزرعة لهم أطلقوا عليها اسمهم . وقد احترفوا السلب و النهب فى فقرهم ، فلما اكتشف البترول فى الاراضى ـ التى اغتصبوها من أصحابها الأصليين ـ أنفقوا المال فى المجون وفى سبيل الرياء وتزعم العالم (الاسلامى ). ومع أن تبرعاتهم تأتى من مال منهوب ، ومع أنها لا تقارن بتبرعات الغربيين لمنكوبى المسلمين فى الزلازل والبراكين فإن آل سعود حين يرسلون شحنة مساعدات يملأون الفضاء منّا وأذى . بل وحين يعطون المواطنين فى المملكة بعض حقوقهم المالية فإنهم يجعلونها ( مكرمة ملكية ) ومن إنعامات الملك ، ويتغنى بها الخطباء و أجهزة الدعاية.
هم بذلك يحكمون بأنفسهم على أنفسهم بالكفر بالله جل وعلا وباليوم الآخر ، وفق ما قاله رب العزة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
ودائما : صدق الله العظيم.!