ßÊÇÈ الزكاة
الفصل الثانى من الزكاة تشريعات الزكاة المالية (الصدقة ) فى الاسلام

في الإثنين ٢٣ - ديسمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

الفصل الثانى من الزكاة

تشريعات الزكاة المالية (الصدقة ) فى الاسلام

مقدمة
الزكاة هى الوجه الاجتماعي للإسلام، وهى إحدى الوسائل الإسلامية في إقامة المجتمع الفاضل وفي إقامة النفس "الزكية" في داخل كل إنسان ، فللزكاة دور اقتصادي إجتماعي كما أن لها دوراً أخلاقياً نفسياً ، والمسلم الذي يحرص على تأدية الزكاة وعلى تزكية النفس وتطهيرها دائماً يتسائل عن مقدار الزكاة الواجب عليه إخراجه ومتى يخرج زكاته وما الفرق بين الزكاة والصدقة والإنفاق. والفقهاء في تاريخ المسلمين إجتهدوا في الإجابة على هذه الأسئلة باختراع أحاديث واصدار أحكام إمتلأ بها باب الزكاة في الفقه. ولأن الزكاة أكثر أبواب الفقه ارتباطاً بحركة المجتمع ودرجة تطوره فإن الكتابات عن الزكاة وتطبيقاتها تعبر دائماً عن العصر الذي تكتب فيه، ومن يحاول في عصرنا أن يقرأ عن الزكاة ومقدارها في كتب التراث سيفاجأ بمكاييل وموازين وعملات وعبارات وإصطلاحات لم تعد معروفة في عصرنا ، كما أن مفردات حياتنا العصرية الاقتصادية والمالية  لن نجد حكماً فقهيا في كتب التراث، هذا بالإضافة إلى ما إمتلأت به كتب الفقه من اختلافات وتفريعات واستطرادات وتعقيدات لا يصبر عليها القاريء المتعجل الذي يبحث عن الإجابة العملية العصرية لأسئلته. وقد سبقت حلقات فى سلسلة مقالات الزكاة ، وكان التركيز فيها اكثر على الجانب الخلقى و التربوى و الايمانى فى موضوع الزكاة باعتبارها تزكية وسمو بالنفس المؤمنة ، ثم تأتى تزكية المال أو الصدقة احدى عناصر هذه التزكية . ونختم كتاب الزكاة بهذا الفصل الذى يتجول مع قضايا متفرقة عن الزكاة المالية او الصدقة ، ونبدأ فى هذا الجزء بالتأكيد على بعض ما سبق من أحكام الزكاة المالية لمجرد التذكير . 


(1 ) :  مقدار الزكاة
1 ـ يلفت النظر أن القرآن حدد النصاب في الميراث بالنصف والثلثين والثلث والربع والسدس والثمن، وجعل ذلك من حدود وحذر من يتعداها بالخلود في النار "4/12 :14 " ويلفت النظر أيضا أن القرآن حدد نسبة النصف من الصداق للمطلقة قبل الدخول بها "2/ 237 " ، وفي نفس الوقت فإن التحديد الصارم لمقدار الزكاة أو الصدقة لم يأت في القرآن الكريم، والسبب أن الميراث وحقوق المطلقة من حقوق البشر التي لابد من تحديدها بالدقة منعاً للخلاف بين الناس، أما الإنفاق في سبيل الله فهو تعامل خاص بين الله تعالى والعبد ويعود نفعه على المجتمع، لذا اكتفى القرآن فيه بالضوابط دون تحديد نسبة ليتيح الفرصة للتسابق في الخير ولينمي في نفس المؤمن عوامل التقوى ومحاسبة النفس والضمير، أو أن يتمكن المؤمن من "تزكية نفسه" وذلك هو هدف الزكاة ومعناها.  ثم إن المؤمن في نهاية الأمر هو الأدرى بحقيقة الدخل الذي يأتيه وهو أعلم من غيره من البشر بحدود إمكاناته ومدى الضروري في استهلاكه ومدى ما يستطيع الإنفاق به في سبيل الله ، ومتى ينفق ومتى يؤثر على نفسه والوقت الأنسب والمقدار الأمثل ، إلى آخر تلك التفصيلات الدقيقة شديدة الخصوصية في أحواله المادية والعائلية والإجتماعية والتي لا يطلع عليها إلا المولى الأعظم سبحانه وتعالى . وإذا كان الانسان يستطيع أن يخدع مصلحة الضرائب ـ وأحياناً ـ ما يفعل برغم تحديد النسب الثابتة فيها ـ فإنه لايستطيع أن يخدع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والمؤمن يعلم أن ربه تعالى يراه ويعلم خباياه ويكافئه إذا تصدق ويعاقبه إذا بخل وأمسك. من هنا كان الأنسب هو الضوابط التقريبية لا الحدود الثابتة.

2 ـ  وجدير بالذكر أن القرآن بينما يحدد النسب الصارمة في الميراث فإنه يترك المجال مفتوحاً أمام إجتهاد المؤمن في الخير في موضوع الوصية عند الموت، فالقرآن يجعل الوصية عند الموت حقاً مكتوباً على المتقين إلا أن مقدارها يخضع للمتعارف عليه وبتقدير الموصي نفسه مع مراقبة المحيطين به حتى لايحدث إجحاف في الوصية، والهدف هنا أن الوصية تعامل قبيل الموت بين الموصي وربه، ولذلك فيه مجال مفتوح للخير بينما تظل باقي التركة خاضعة للنسب المقررة في الميراث من النصف والربع والثمن. وبذلك دخلت الوصية في مجال التقدير دون التحديد ، شأنها شأن الصدقة، ودليلنا أن الوصية لها مستحقوها الذين أوصى القرآن إعطاءهم الصدقة، فالله تعالى يقول عن الصدقة الفردية "( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )( البقرة 215 )، فالصدقة الفردية للوالدين والأقارب واليتامى والمساكين، ويقول تعالى عن الوصية: ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ( البقرة 180 ) ، فالوصية هنا أيضاً للوالدين والأقربين ، والصدقة والوصية بالمعروف الذي يخضع للضوابط وليس بالنسب الثابتة المحددة.

3ـ   وكيف يحدد القرآن نسبة محددة للصدقة والزكاة وهو يدعو المؤمنين للتسابق في الإنفاق في سبيل الله؟..يقول تعالى "( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ   ) ( البقرة 245 ) (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ  ) ( الحديد 11 ) ،  ويقول تعالى في المسارعة إلى الخير "( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ( آل عمران 133 : 134 ) فهنا دعوة للتسابق والمسارعة للزكاة والصدقة في كل حال من اليسر والعسر. والله تعالى وهو الغني عن العالمين يجعل الصدقة قرضاً ويقول لنا :(مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا )!! .  وحيث يوجد هذا الأسلوب فلا يمكن أن تتخيل وجود نسبة محددة. فالتسابق في الخير ينفي وجود النسبة الثابتة.
4 ـ  القرآن لم يحدد نسبة في الزكاة ومع ذلك يقول:( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج 24 : 25 )   فكيف يكون هناك حق معلوم دون تحديد نسبة ؟ ـ نقول : العبادات كلها وسائل للتقوى، ينطبق ذلك على الصلاة والصيام والحج كما ينطبق على الزكاة التي تهدف إلى السمو بالنفس وتزكيتها ، وذلك يكون بالتعاون المباشر مع الله تعالى ومحاسبة النفس على ما تنفق وعلى ما يأتيها من رزق وعلى ما ينبغي إخراجه من ذلك الرزق لوجه الله،  و المؤمن يعلم أن الله مطلع عليه وإنه لاملجأ من الله إلا إليه.. وبذلك يتربى المؤمن على تقوى الله ويتحقق الهدف من فريضية الزكاة ، وأساسها التسابق في رضى الله . والمؤمن يعتيبر الزكاة حقاً عليه للمستحقين وهذا ما حرص القرآن على تأكيده فيقول تعالى ": (وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) ( الانعام 141 )، ويقول تعالى عن حقوق الأقارب والمسكين وابن السبيل " (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) ( الاسراء 26 ) ( فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ( الروم 38 ) ، إذا هو حق له في مالك وأنت مدين لهم بذلك الحق . وللسائل والمحروم أيضاً حقوق في مالك ": (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) ( الذاريات 19 ) . والمؤمن طالما عرف أن عليه حقاً للمحتاجين والسائلين وأولي القربى كان عليه أن يضع بنفسه النسبة الملائمة لظروفه الثابتة والمتغيرة وحسب احتياجه ودخله ، وأيضا حسب حاجة المحتاجين حوله ، ثم لابد أن يلتزم بأداء ذلك الحق الذي عليه لهم حتى يكون  ذلك الحق شيئا معلوما له كلما جاءه رزق ،  وحينئذ ينطبق عليه قوله تعالى :( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج 24 : 25  ) . وحين يحدد المؤمن بينه وبين ربه تعالى حقاً يكون معلوماً لديه فإنه بذلك يتعامل مع الله مباشرة ويحتل مرتبة المتقين المحسنين ، وهنا يتحقق المراد من الزكاة ، زكاة النفس وتطهيرها وسموها.
5 ـ وهنا تتجلى حكمة القرآن في وضع الضوابط القائمة على الاعتدال والتوسط ، سواء كانت الزكاة التي تأخذها الدولة أو كانت الصدقة الفردية التي يحددها المؤمن بينه وبين ربه ويكون ذلك التحديد معلوماً له وحقاً عليه واجب التأدية. وقد كانوا يسألون النبي عليه السلام عن تحديد  نسبة الزكاة والصدقة فنزل قوله تعالى" (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ )(البقرة 219). والعفو هو الزائد عن الحاجة ، أى ما يفيض ويزيد عن حاجاتك الضرورية تنفقه صدقة . والمرجعية هنا فى تحديد العفو هو التقوى ورغبة المؤمن فى تزكية نفسه عن طريق الانفاق فى سبيل الله فى صدقة فردية او رسمية أو تعضيد جهاد سلمى فى سبيل الرحمن جل وعلا. فهو الذى يحدد نفقته بالتوسط وعدم الاسراف ، وهو الذى يحدد الضرورى وما هو كماليات يمكن الاستغناء عنه ، بل هو الذى يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة او فقر ، مراعيا لظروف استثنائية يمر بها وطنه او أحد مستحق الصدقة ، وهو فى كل ما يعمل من إحسان يبغى به وجه الله جل وعلا دون أدنى قدر من الرياء و المنّ والأذى .
ولا يحسبن أن ماله سينقص من هذه الصدقة بل سيزيد، لأن الله تعالى سيبارك له في ماله وسيعوض عليه خيراً فيما أنفق، (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ )( سبأ 39 ). وهناك من الرزق الخفي ما هو أعظم من الرزق الظاهر ، مثل نجاح الأولاد وتوفيقهم في الحياة، وتمتع الوالدين والأسرة بصحة جيدة ونجاتهم من الكوارث التي قد يتعرض لها الآخرون ممن يبخلون، وهو حين يقدم الصدقة من ذلك الربح الصافي الفائض عن حاجته فإنه يصنع بهذا الفائض أعلى استثمار عند رب العزة القائل"( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً  ) ( البقرة 245)" أي تصل نسبة الربح هنا إلى 700% ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )(البقرة 261) .

(2 ) : مستحقو الزكاة في السجلات الرسمية وفى الصدقة الفردية


يقول تعالى عن صنف من المنافقين كان يطمع في أخذ الصدقة الرسمية ـ الزكاة ـ من النبي دون ان يكون مستحقاً :(وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُواْ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) ثم بينت الآية التالية (التوبة  58 : 60)مستحقي الصدقة الرسمية (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) وهم :
الفقير : وهو المحتاج الذي لا يكفيه دخله في إشباع حاجاته المختلفة من الضوريات تبعاً للعرف السائد ، وتقوم السلطات المختصة بتحديد الحد الأدنى للمعيشة والدخل، والذي يعني الفقر والاحتياج . وعلى أساسه تعطي الفقراء الدعم من الزكاة الرسمية.
المسكين : هو المحتاج للطعام وهو أول حاجات الانسان الطبيعية، لذا يرتبط المسكين في حديث القرآن بالذلة وبحاجته للطعام، وقد حث القرآن على إطعام المسكين. وللمسكين حق في الزكاة الرسمية ويمكن للدولة أن تنظم حصوله على هذا الحق بالمطاعم المجانية  أو كوبونات الطعام وغير ذلك .

العاملون على الصدقة وهم الموظفون القائمون على جمعها من الناس ويأخذون مرتباتهم من الإيراد.وتحدده الدولة حسب الظروف.

المؤلفة قلوبهم : هم من ترى الدولة الاسلامية اجتذابهم لصفها من الداخل أو الخارج ، وهو دليل على أن الدعوة للإسلام لا إكراه فيها ولكن بالترغيب والاستمالة .
في الرقاب : أي عتق العبيد إذا كان هناك رقيق .
وفي سبيل الله أي في تدعيم الدعوة في سبيل الله وفي الجهاد والإعداد له .
ابن السبيل : أى المسافر الغريب الذي لايجد المأوى ، فمن حقه على المجتمع المسلم أن يأويه في غربته، ومن أموال الزكاة تقيم لهم الدولة فنادق وتنظم الإقامة فيها لأبناء السبيل.
والغارمون : الذين يتحملون عن المدين المعسر دينه.
أما فى الصدقة الفردية فقد جاءت فى قوله جل وعلا : "( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )( البقرة 215 )، أى للوالدين والأقارب واليتامى والمساكين وابن السبيل، فى المحيط الذى يتعامل معه المؤمن ، فى العمل و الأسرة و السكن و الجيرة .

(3 ) :   للفقير غير المسلم أن يأخذ من زكاة المسلمين


الآية اكتفت بوصف الفقير بأنه فقير وكذلك المسكين بغض النظر عن الدين و الملة. واقع الأمر أن الدولة الاسلامية يكون أفرادها مسالمون أى مسلمون بمعنى الاسلام الظاهرى الذى يعنى المسالمة ، ويكون أفرادها مؤمنين بمعنى الايمان الظاهرى وهو إيثار الأمن والأمان وان يكون المؤمن مأمون الجانب لا يؤذى أحدا. وبعد هذا ، فالايمان الحقيقى والاسلام الحقيقى الذى يعنى اخلاص الدين لله ، وما يناقضه وهو الشرك العقيدى واتخاذ اولياء وارباب ـ كل هذا مرجعه الى الله جل وعلا ليحكم بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون فى الدنيا . الخارج عن الدولة الاسلامية هو الكافر المشرك سلوكيا أى المعتدى الظالم الذى يستخدم دين الله بالتحريف لقتل الناس وارهابهم كما يفعل الارهابيون المنتمون ـ كذبا ـ  للاسلام. الأصناف الثمانية لايشترط فيهم أن يكونوا مسلمين بالبطاقة الشخصية ليستحقوا الصدقة الرسمية من الدولة المسلمة، لا يهم إن كان مسلما بالهوية أو مسيحيا أو يهوديا أو ملحدا ، يكفى أن يكون مسالما ليستحق الانتماء الى الدولة الاسلامية التى من واجبها أن تضمن له حرية الفكر و المعتقد والدين والشعائر بدون حد أعلى . وإن كان فقيرا او مسكينا أو من أى صنف من مستحقى الصدقة الرسمية فلا بد من حصوله على حقه فيها .وذلك أصل من أصول دين الله تعالى ، فالله تعالى يقول في مستحقي الصدقة: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ )( البقرة 272). أى أن الذى يتصدق ليس له أن يفتش عن تقوى الفقير أو عن دين المسكين أو ملة عابر السبيل ، فليس عليه هدايتهم ولكن الذى عليه أن يعطيهم حقوقهم فى زكاة ماله.وينطبق هذا على الصدقة الفردية ، فالمؤمن يؤدي الصدقة للفقير والمسكين مهما كان دينه ومهما كانت جنسيته فيكفيه أنه فقير ومسكين ليأخذ حقه الذي فرضه الله تعالى في مال الغني .
والله تعالى يرزق المؤمن والكافر، بل يرزق كل دابة ، وحين دعا إبراهيم ربه أن يرزق المؤمنين قائلا: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) "   ردّ عليه رب العزة :( قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )( البقرة 126). ونتعلم من هذا أن ندعو الله أن يرزق كل محتاج بغض النظر عن دينه ومعتقده وأن نعطي الصدقة لكل محتاج بغض النظر عن لونه ومذهبه ومنهجه ، فالفقر جنسية في حد ذاته وللفقير حق في مال الغني سواء كان على دين الغني أم لا .

 

 

 

  ( 4 ) :  ذلك الذي يبخل ولايخرج الزكاة  والصدقة .. ماذا تكون عقوبته ؟( حدود الالزام فى الزكاة )ـ


1 ـ الذي يمتنع عن تقديم الصدقة فالله تعالى هو الذي يتولى عقابه في الدنيا قبل الآخرة ، وقد جاء ذلكفي القرآن الكريم ونحن نلمسه في حياتنا العملية واقعاً حياً ، فالمنافقون في عهد النبي عليه السلام كانوا يبخلون عن الإنفاق في سبيل الله فقال عنهم القرآن (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ)(التوبة 67 ). إذن كانوا يقبضون أيديهم عن الصدقة ، هذا مع أنهم كانت لهم أموال ، وقد حذر الله تعالى من الإعجاب بأموالهم وأولادهم وأنذر بأن عقوبتهم ستكون من خلال أموالهم وأولادهم وذلك في الدنيا ، فقال تعالى "( فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) ، وتكرر نفس الإنذار والتحذير في قوله تعالى (وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )( التوبة 55 ، 85 ) . أي أنهم لن يجنوا من بخلهم إلا أن تصير أموالهم وأولادهم عليهم وبالاً وعذاباً ، يسهم المال في إفساد الأولاد وينتهي المال إلى زوال وينتهي الأولاد إلى خبال.
2 ـ الزكاة المالية  ـ كما قلنا وفصّلنا فى حلقات سبقت ـ هى لتزكية النفس للفوز بالجنة ، لذا لا بد أن تكون بدافع ذاتى من ذلك الذى يؤمن بالله جل وعلا و اليوم الآخر ، ويؤمن بيوم الحساب ويستعد له بتزكية نفسه بالأخلاق الحميدة وبتزكية ماله بالصدقة التى  يقدمها عن طيب خاطر ليفوز بالجنة .   نحن هنا نتكلم عن حق الله جل وعلا الذى سيسائلنا عليه يوم القيامة . أما حقوق البشر وحق المجتمع فإن للمجتمع أن يفرض فريضة وأن يأخذ الزكاة الرسمية ـ وتكون قرارته شرعية اسلامية إذا كانت الدولة اسلامية ،اى تقوم من البداية على عقد اتفاق بين الأفراد وعلى أساسه يقوم نظام حقوقى يحصر وظيفة الدولة فى حفظ حقوق الفرد فى الحياة وحقه المطلق فى الدين والفكر والمعتقد وحقه فى حرية السعى فى الرزق وفى الأمن وفى العدل ، دون ضرر أو إضرار بالآخرين أو إفتئات على حقوق المجتمع الذى يعنى بقية الأفراد. هذه الدولة الاسلامية من حقها أن تفرض ضرائب عبر ممثلى الشعب ، لكى تقوم بالأعباء المطلوبة منها . ولكن فرض ضرائب لا يكون إلا بموافقة ممثلى الشعب ، وهم الذين يكونون امناء على موارد الدولة أو بيت المال ، ومنه يعطون التمويل للسلطة التنفيذية ويراقبون أداءها ويحاسيبون أفرادها وقد يعزلونهم او يحاكمونهم لو إقتضى الأمر. وبالموافقة على هذا القرار بفرض ضريبة أو غيره يكون ملزما وقانوا واجب الاتباع ، ويعطى للدولة حق انتزاع حقوق المجتمع ممن يرفض دفعها ، ويعطيها حق عقوبة من يسرق حق الدولة .
لم يحدث هذا فى الدولة الاسلامية فى عهد خاتم النبيين عليهم السلام ـ إذ كان السائد هو التطوع بلا إلزام ، وكان بعض المنافقين يمسك يده عن اعطاء الصدقة وبعضهم يعطيها رياء ، وبعضهم يعطى مرة و يبخل مرة ومرات ، وكانت عقوبتهم سلبية ، هى حرمانهم من حق التبرع،أو عدم قبول تبرعاتهم وصدقاتهم ، يقول جل وعلا : ( قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ) ( التوبة53 : 54  ).
3 ـ وفى كل ما نزل فى القرآن من عتاب للنبى محمد عليه السلام ، لم يحدث على الاطلاق أى عتاب له يخص المعاملات المالية ، ولقد كان القائد الذى يأخذ الصدقات التطوعية ممن أذنب ويريد التوبة : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ( التوبة 102 ـ 104 ). وقد حذّره ربه جل وعلا مقدما فقال:( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ )( آل عمران  161)، وكان عليه السلام مع المؤمنين الصادقين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله ، عكس المنافقين ، وشهد رب العزة له عليه السلام ولأصحابه المؤمنين الحقيقيين فقال:(لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ( التوبة 88 ).

 

 

 

( 5 ) : فى تفعيل تشريعات الصدقة لا بد من التأكيد على الاطار الأخلاقى للصدقة وزكاة المال

مقدمة:

1ـ  سبق نشر مقال بهذا الخصوص ، ونعيد التأكيد هنا لأهمية الموضوع فى صلة زكاة المال بتزكية النفس .
2 ـ فى التنزيل المكى فى القرآن الكريم كان التركيز على الدعوة لإخلاص العقيدة والعبادة لله جل وعلا ، حيث كان العرب الجاهليون يعبدون الله جل وعلا ويعبدون الأصنام ، وقد حرفوا ملة ابراهيم  بأكاذيب وافتراءات ، وكان التركيز أيضا فى التنزيل المكى على قصص الأنبياء للعظة والاعتبار ، كما كان الاهتمام بالجانب الأخلاقى مختلطا بأساس العقيدة وبعض التشريع كما فى سور الاسراء ( 22 : 39  ) والأنعام ( 151 : 153 ) والفرقان ( 63 : 77 ) والنحل  (90 : 97  ) . وفى سياق هذه الموضوعات الأساس جاءت بعض  قواعد إجمالية فى التشريع  كقوله جل وعلا (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ   ) ( الأعراف 31 : 33 ).
3 ـ ثم اتسع التنزيل المدنى لتفصيلات التشريع ، وامتاز تشريع الصدقة منه بوضع إطار أخلاقى يغلّف تطبيق هذا التشريع . ففى سياق الحث على الصدقة يقول جل وعلا :( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) . وبعده جاء ما يسمى تسميته بآداب الصدقة .
أول آداب الصدقة : من المتصدق : عدم المنّ والأذى
1 ـ أى ألّا يصاحبها ( منّ ) أو (أذى ). يقول جل وعلا : (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ). فليس كل من يعطى الصدقة ينال أجرها عند الله . لا ينال الأجر إلا من ترفّع عن المنّ والأذى . والمعنى أن المنّ والأذى يحبطان ثمرة الصدقة عند الله جل وعلا ، بحيث لا يجنى إلا خسارة ماله ذلك الذى يتصدق ويؤذى من يتصدق عليه بالمنّ والأذى ،والأفضل له من البداية ألا يتصدق ، بل إن ّالاعتذار عن عدم إعطاء الصدقة بقول معروف خير من صدقة يتبعها أذى ، وهذا ما جاء فى الآية التالية :(قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ).

2 ـ وحتى يتجذّر هذا التشريع ضرب الله جل وعلا أمثالا للتوضيح ، يقول جل وعلا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) فالمثل هنا لمن يبطل صدقاته بالمنّ والأذى مثل حجر صوّان عليه تراب ، والمنتظر عندما يهطل عليه المطر أن ينبت التراب ، ولكن الصخر الصوأن عندما ينزل عليه المطر فإنه يزيل التربة ويترك الصخر صلدا ، وهكذا الذى يبطل صدقاته بالمنّ والأذى لا يكسب شيئا مما أنفق .
وفى المقابل فإن الذى ينفق يبتغى رضوان الله وعن عقيدة إيمانية صادقة فمثله كجنة فى منطقة رابية مرتفعة نزل عليها مطر فهى تؤتى ثمارها ضعفين ، وحتى لو نزل المطر قليلا فهى تثمر :( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) . ويعطى رب العزة مثلا قصصيا عن الذى احبط عمل الخير بعقيدته السيئة والمنّ والأذى بشيخ طاعن فى السّن أمضى حياته فى تعمير حدائق بهيجة ، وعندما أصابه الكبر لم يكن له من معين ، سوى أطفال صغار يحتاجون للرعاية ، ثم جاءت الكارثة بنيران أحرقت حدائقه واضاعت تعب شبابه وشقاء عمره ، وهو يشاهد حدائقه المدمرة وحوله أطفاله الصغار ، لا يستطيعون عونه بل هم الأحوج الى عونه ، وهو عاجز فى شيخوخته أن يستعيد ما تم تدميره، أى ضاع كل شىء ، الثروة و الصحة و الشباب ، ولم يعد يتبقى إلا الحسرة. هذا المثل القصصى الدرامى المؤثر يصور مصير من يتصدّق ويضيع صدقاته بالمنّ والأذى فلا يكسب مما أنفق إلا الحسرة و الخسار، يقول جل وعلا : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ).
3 ـ والهدف من هذا التشريع الاخلاقى هو أن تكون الصدقة وسيلة فى تزكية النفس ، وليس مجرد إعطاء مال للمحتاج . وتبدأ تزكية النفس بادراك المؤمن أنه فى حقيقة الأمر لا يملك هذا المال ، ولكنه مال الله جل وعلا الرزّاق الكريم ، وكل ما هناك أنه جلّ وعلا قد أعطى هذا بسطا فى الرزق ليختبره ،أى جعله مخوّلا فى الرزق ليرى كيف يصنع بما خوّله الله جل وعلا فيه ، وفى نفس الوقت ضيّق على الفقير فى الرزق ليختبره فى صبره ، ولهذا فإن المؤمن يعلم ان للفقير والمحروم وسائر المستحقين حقوقا لديه فى المال الذى خوّله الله جل وعلا فيه ، ولا بد أن يعطيهم حقوقهم لينجح فى الاختبار . وبالتالى فلا بد أن يعطيهم حقوقهم عن طيب خاطر آملا فى رضى الله جل وعلا . الآخر يعتقد إنه يعطيهم من ماله هو ، ولذا يمتنّ عليهم ويستعلى عليهم . ومن قاع هذه العقيدة الضالة يحبط الله جل وعلا عمله ، وبينما يتزكى المؤمن بالصدقة ويعلو بها سموا فى الخلق فإن الآخر يهبط ويتضع ، وهو يتصور نفسه غير ذلك .

4 ـ وجعل رب العزة من صفات المتقي أن يعطى ماله لتتزكى وتتطهر به نفسه ، وهو لا ينتظر جزاء الشكر من أحد ،لأن كل ما يبتغيه هو رضى ربه جل وعلا ، لذا سيفوز برضى ربه ولسوف يرضى ويكون مرضيا عنه وسينجو من عذاب النار يوم القيامة : (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى ) ( الليل  17 : 21 ). والمتقون يوم القيامة هم الأبرار ، وقد وصف رب العزة حالهم فى الجنة فقال : (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ) وهذا الجزاء فى الآخرة لأنهم كانوا فى الدنيا : ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا ) ( الانسان 5 : 9 ). أى لا يقبلون الشكر من أحد لأنهم يبتغون وجه الله جل وعلا وحده.

ثانيا : من حيث المال : أن يكون مالا حلالا :

1 ـ من مبررات العصيان أن يجمع أحدهم المال بالحرام ثم يتصدق به ، معتقدا أنه طالما يتصدق فإن هذه الصدقة ستحلّ له ما إغتصبه وسرقه ونهبه من حرام . وفى العصر الذى يسيطر عليه التدين السطحى المظهرى والاحتراف الدينى يدخل المجتمع نفق التدين بحيث يكون كل تصرف مغلفا بالدين ومحتاجا الى تسويغ دينى أو فتوى دينية تحلّ الحرام وتحرم الحلال. وفى هذا المجتمع المريض تروج دولة رجال الدين الأرضى ، وتتنتشر مساجد الضرار الأيدلوجية التى تروج للباطل ، ويأكل أئمة الدين من المال السحت ليقولوا للناس ما يرضيهم ويغضب الرحمن . وفى هذا المناخ تتكاثر الصدقات والتبرعات من كبار العصاة ، لا فارق بين راقصة داعرة أو (حرامى ) يأكل السحت و ينشر الفساد ، وكلهم يتبرع ويتصدق من مال حرام وهو يحسب أنه يحسن صنعا ، وينسى قول الله جل وعلا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ). أى لا بد أن تكون الصدقة من كسب طيب حلال سواء من مرتب أو دخل ، أو من ثمرات الأرض . ولم يكتف رب العزة بالأمر بل قرنه بالنهى عن الانفاق من المال الخبيث الذى يأتى بالظلم ، والله جل وعلا غنى عن هذا المال الخبيث . والآية التالية تصف حال المجتمع المريض الذى يسيطر عليه الدين الأرضى وتدينه السطحى و محترفو التدين بأن هؤلاء زعيمهم الشيطان الذى يعدهم بالفقر  ويأمرهم بالفحشاء عبر اساطير الشفاعة والتصدق بالمال الحرام ، وفى المقابل فإن الله جل وعلا يعد المؤمنين بالمغفرة و الفضل : (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )

2 ـ بل هناك أكثر من ذلك . فالمؤمن ينفق من ماله الحلال ، ولا يكتفى بهذا بل ينفق من (أحب ) المال لديه ، فإن كان معه عملة محلية ودولار فهو يعطى الأغلى وهو الدولار، وتلك هى بعض صفات الأبرار ، يقول جل وعلا (  لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ( البقرة 177 ). الشاهد هنا هو قوله جل وعلا (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ) ، أى يتصدق من أحب المال اليه ، وتلك هى درجة البر ـ أو درجة الأبرار ، يؤكد هذا قوله جل وعلا عن درجة الأبرار : ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) ( آل عمران 92 )، ونفترض أنك ذبحت عجلا وجعلت جزءا منه صدقة ، فإذا أردت بلوغ درجة البر فعليك أن تتصدق بأفخر أنواه اللحم ،أو تتصدق بما تحبه وتشتهيه من لحم العجل ، ففى النهاية ما ستأكله من العجل مصيره الى ما نعرف ،اما الذى تتصدق به فسيكون عملا صالحا يضىء وجهك يوم القيامة (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )( آل عمران 106 : 107 ).
ثالثا : من حيث القلب والنية والاخلاص:
1 ـ لا بد أن يتعامل المتصدق مباشرة مع رب العزة باخلاص عمله لله جل وعلا وحده دون أدنى اهتمام برأى الناس ، وهنا يكفيه أن الله جل وعلا يعلم نيته ومطّلع على سريرته واخلاصه فى ابتغاء رضى رب العزة ، يقول جل وعلا : (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ). وعندما يصل المتصدق لهذه المرحلة من الاخلاص والتقوى فلا حرج عليه إن تصدّق علانية أو إن أخفى صدقته ، فهو فى الحالتين يجتهد للمصلحة ، فمثلا إن أخفى صدقته فربما يكون حرصا منه على مشاعر من يتصدق عليه من المساتير الذين يعيشون فى فقر ولكن يسترون حالهم ولا يسألون الناس إلحافا ، وتحسبهم أغنياء من التعفف. وإن أظهر صدقته فربما يريد تشجيع الآخرين على الاقتداء به. المهم إنه فى كل ما يفعل يجتهد حسب علمه فى ابتغاء مرضاة الله جل وعلا ، ولا يجعل فى خاطره على الاطلاق أى ذرة من رياء او طلب للشهرة أو رضا الناس ، لأنه يكفيه رضى رب الناس عليه ، وهو الذى يرزقه ، وهو الذى سيجزيه خيرا وهو الذى سيحاسبه يوم القيامة . ومن هنا نفهم قوله جل وعلا :( إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) . فالله جل وعلا هو الخبير بما نفعل وبما نضمر فى سرائرنا . وهذا هو ما يتحسب له من يتقى الله جل وعلا وهو يعطى الصدقة.

2 ـ وطالما هو يتحسّب لرضا الله جل وعلا وحده فهو ينفق فى سبيل الله فى كل حالاته ، إن كان فى يسر أو فى عسر ، فى السرّاء أو فى الضرّاء : (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ( آل عمران 133 : 134 )، بل إنه فى وقت العسرة يؤثر على نفسه (  وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ( الحشر9 ) ولا يهتم إن كان المستحق للصدقة مؤمنا مهتديا أم عاصيا لاهيا ، يكفى كونه مستحقا للصدقة حتى يعطيه حقه فيها ، أما هدايته أو عصيانه فلا شأن للمتصدق بهذا ، هذا يرجع الى مشيئة من يريد الهداية أو الضلالة ، يقول جل وعلا لكل من يتصدق :(لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ )( البقرة 261 : 272 ).
أخيرا
بهذا تؤدى زكاة المال دورها الأخلاقى فى تزكية وتطهير النفس ، ويتحقق فى المتصدق قوله جل وعلا (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا )( الشمس 7 : 9  ).

 ( 6 ) : بين الزكاة والجهاد فى سبيل الله جل وعلا بالمال

 

 أولا : الزكاة المالية نوعان : حق الله وحق الأفراد والمجتمع

يلفت النظر الى أنه من مصارف الزكاة الرسمية للدولة الاسلامية الثمانية نوعان : ( فى سبيل الله ) و(المؤلفة قلوبهم )، جاء هذا فى قوله جل وعلا (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْوَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِوَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ( التوبة 60 ) ، ولأن الدولة الاسلامية تقوم دعائمها على العدل وحرية الدين والسلام فمن المنتظر أن تهدف الى الانفاق فى سبيل الله فى مجالى الدعوة وفى الاستعداد الحربى لردع من يحاول الهجوم عليها وتخويفه حتى لا يفكر فى الاعتداء ، ويشمل هذا التحبب الى الأعداء بالمال إتقاء لشرهم وتأليفا لقلوبهم، لأن شراء مودتهم أرخص بكثير من الدخول فى مشاكل وقلاقل وحروب، أى إن هناك فى الصدقة الرسمية حقا لله جل وعلا ( المؤلفة قلوبهم ، وفى سبيل الله ) بالاضافة الى حقوق البشر من فقراء ومساكين وغارمين ..الخ . وبجانب الصدقة الرسمية السابقة التى تجمعها الدولة الاسلامية فهناك أيضا صدقة للأفراد يتصدق بها المؤمن على والديه والأقارب واليتامى والمساكين وابن السبيل (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) ( البقرة 215 )، وهناك أيضا حق الله على الأفراد بالجهاد فى سبيله بالنفس والمال.

ثانيا : جهاد النفس وجهاد المال
1 ـ وإذا كان واضحا حق الله جل وعلا فى مصارف الزكاة الرسمية ومستحقيها مع حقوق البشر من الفقراء والمساكين وابن السبيل فإن أوامر الانفاق فى سبيل الله جاءت أيضا موجهة للأفراد بصفتهم الشخصية تدعو الى الانفاق فى سبيل الله فى صور مختلفة تحت بند الجهاد بالنفس والمال ، منها : ربطه بالايمان الحقيقى:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)( الحجرات 15 )، وجعله أعظم درجة عند الله لو ارتبط الانفاق فى سبيل الله جل وعلا مع الايمان والهجرة :(الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ )(التوبة 20 : 22 )، وجعل المؤمنين يتفاضلون فى الدرجات طبقا لدرجة الانفاق ووقته:( وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ )( الحديد   10 : 11 )، وجعله فى موضع المقارنة بالبخل والامساك عن الانفاق فى سبيل الحق جل وعلا ، فكما أن الانفاق فى سبيله مرتبط بصحة الايمان فإن البخل قرين بالكفر: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قَرِينًا وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيمًا)(النساء 37 : 39 ). وهناك التحذير من أن الامساك عن الانفاق فى سبيل الله يؤدى الى التهلكة لأن عاقبة البخل هنا تعنى الهلاك ، فبعد أن ذكر رب العزة تشريع القتال الدفاعى فى الاسلام دعا الى الانفاق فى سبيله خوف التهلكة  يقول جل وعلا :( وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ( البقرة 195 ) وقال جل وعلا يحذّر الصحابة :( هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) ( محمد 38 ). إنّ الدولة الاسلامية المسالمة تحتاج الى أن تكون قوية حتى لا يطمع فيها معتد باغ ، لذا فالاستعداد الحربى فى الاسلام هو لحقن الدماء وردع العدو المعتدى مقدما حتى لا يغامر بالهجوم على دولة الاسلام المسالمة طالما كان قوية عسكريا، وهذا المجهود الحربى يستلزم إنفاقا وجهادا ماليا مستحقا للجزاء الحسن من الله سبحانه وتعالى ، والله جل وعلا يقول : ( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)(الأنفال 60 ).
2 ـ وفى كل الدعوات للجهاد بالنفس والمال يأتى الجهاد بالمال مقدما على جهاد النفس لسببين :لأن الحرب فى الاسلام دفاعية وإستثنائية لأنه دين السلام . ولأن الجهاد بالمال هو المعين على نوعى الجهاد : جهاد الدعوة وجهاد القتال ، فكلاهما يحتاج الى الانفاق فى سبيل الله جل وعلا ، أى يحتاج الى الجهاد بالمال. وبالتالى يكون لدينا جهاد بالنفس و جهاد بالمال والجهاد السلمى العقلى والعلمى . ونتوقف مع الجهاد السلمى بالدعوة .
ثالثا :  المجاهدون بالدعوة السلمية فى الاسلام:

1 ـ هو جهاد بالقرآن الكريم ، إحتكاما اليه وتدبرا فيه ودعوة لفهمه والتمسك به مهما كره المشركون ، يقول جل وعلا عن القرآن الكريم:(فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ) (الفرقان 52 ). العادة إن هناك ما يعرف بالشرك العلمى أى إتخاذ أسفار مقدسة والتمسك بتراث والانحياز اليه وتقديسه مهما خالف القرآن الكريم ، ومن أجله يكذبون بالقرآن بينما ينسبون تراثهم كذبا لله جل وعلا كما يقال عن (السّنة ) لدى السلفيين ، وهو ترديد لما كان فى الجاهلية حيث شاع تقديس أسفار تعكس ما وجد عليه الجاهليون آباءهم ، ومن أجلها عارضوا القرآن الكريم ، والله جل وعلا جعلها محنة عقلية عامة تسرى فى كل زمان ومكان ، يقول سبحانه وتعالى عن هذا الصنف الذى يمثّل الآن الأغلبية العظمى من شيوخ المسلمين وممثلى أديانهم الأرضية والمذهبية :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ). وفى المقابل فإن من يتصدّى لهم متمسكا بالقرآن طالبا الهداية من الرحمن سيجد الهدى والتأييد من رب العزة ، يقول جل وعلا فى الآية التالية متحدثا عن الجهاد السلمى الثقافى بالقرآن الكريم :( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )( العنكبوت 68 : 69 ). أى لدينا طريقان متناقضان : تمسك بالتراث وتدين به واتخاذه دينا مهما خالف القرآن الكريم ، ثم جهاد بالقرآن ضد هذا الدين الأرضى طلبا للهداية ورضى الله جل وعلا.
2 ـ كلمة السبيل أو الصراط تعنى الطريق ، ومن معانى مصطلح ( سبيل الله) أو ( الصراط  المستقيم )أنه القرآن الكريم ، وقد جاء فى الوصية الأخيرة من الوصايا العشر التمسك بالقرآن الكريم وحده : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )(الأنعام 153  )، ويقول جل وعلا عن وجوب التمسك بالقرأن الكريم :(وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ )( الأنعام 126 ). فالقرآن الكريم هو الصراط المستقيم الذى لا عوج فيه:(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا)( الكهف 1 )(قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ( الزمر 28 ). أمّا الأسفار المقدسة لدى اصحاب الديانات الأرضية هى ( العوج ) الذى يناقض الحق القرآنى ، ولهذا فإنّ الدعوة الى هذا ( العوج ) تكون صدّا عن سبيل الله جلّ وعلا ، وقد توعدهم رب العزة جل وعلا فقال:(وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)( ابراهيم 2 : 3 ). هم يستحبون الدنيا على الآخرة ، ويعملون من أجل الدنيا ويأكلون بها الدين، يخلطون الدين بالسياسة ويشترون بآيات الله ثمنا قليلا ، وهذا هو الكفر الحقيقى باليوم الآخر ، لذا كان من وصف أصحاب النار إنهم يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون:(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ )( الأعراف 45 ).

رابعا : المجاهدون بأموالهم فى سبيل الله فى الدعوة السلمية
1ـ أصحاب الباطل يقومون بشراء وتمويل ونشر وتوزيع أباطيلهم من (لهو الحديث ) ليصدّوا عن سبيل الله الذى هو ( أحسن الحديث ) أى القرآن الكريم : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ )( الزمر 23 ).  يقول جل وعلا  عن أصحاب( لهو الحديث): (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( لقمان 6 : 7 ). ولو تأملت أجهزة الاعلام والفضائيات والانترنت والصحف والبرامج لوجدتها ممتلئة بلهو الحديث من تراث الأديان الأرضية، وهم يولون مستكبرين مستهزئين إذا استشهدت لهم بقوله جل وعلا فى الاكتفاء بحديث الله فى القرآن الكريم وحده: (  أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) (الأعراف 185  ) (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ  ) ( المرسلات 49 : 50 ) (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ )( الجاثية 6 : 9 ).

2ـ وقوله جل وعلا:(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا) هو حكم عام يسرى فى كل مجتمع ، يعنى أنه حين يكون هناك (ناس ) فمن أولئك ( الناس ) من ينفق أمواله ليروّج للهو الحديث ليشغل بقية ( الناس ) عن الدين الحقيقى الذى هو (احسن الحديث ) وليصدّهم عن سبيل الله . وهو فيما يفعل يتمتع بجهل هائل (لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ )، لأنه لا يقرأ الأسفار التراثية التى يدافع عنها. ونحن فى برنامج ( فضح السلفية ) نستشهد بالبخارى وهو يطعن فى الاسلام ورب العزة وشرعه ورسوله ، ويأتى برنامجنا مفاجأة لمن يعبد البخارى ويدافع عنه ، لأنهم يدافعون عن شىء لم يقرأوه ، أى إنهم (يضلّون الناس بغير علم ) هم أجهل الجهلاء ، يحملون على ظهورهم أسفارا لا يقرأونها ، لذا ينطبق عليهم قوله جل وعلا (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)( الجمعة 5 ).
3 ـ نحن هنا أمام عادة بشرية سيئة ، وهو ترويج اهل الباطل لباطلهم ، ينفقون اموالهم ليصدّوا عن سبيل الله أى كتابه الكريم ، ويوم القيامة سيكون ذلك عليهم حسرة حين يشهد عليهم الشهداء بما فعلوه ، والله جل وعلا يقول : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) ( الأنفال 36 ). هنا حكم عام يسرى فوق الزمان والمكان ، وفى كل مجتمع ، لا ينطبق فقط على مشركى مكة أو الاسرة السعودية بل يسرى على المستقبل كما يسرى على الحاضر وكما سرى من قبل على الماضى . ومقابل هذا المال الذى ينفقونه فى الصّد عن سبيل الله وكتابه الكريم لا بد من مال للانفاق على الدفاع عن دين الله وكتابه الكريم ، ومن هنا يأتى الانفاق فى سبيل الله ، أو الجهاد فى سبيل الله بالنفس والمال ، ليس فقط فى القتال الدفاعى ـ وهو مقيد بظروف استثنائية ـ ولكن فى الأساس فى الدعوة المستمرة سلميا للحق ، وهذا حتى يكون فى كل أمة أو مجتمع شهداء يوم القيامة يشهدون على المشركين بجرائمهم فى الصّد عن سبيل الله  وتحويل الصراط المستقيم الى عوج .

4 ـ ونستعيد هنا بعض الايات الكريمة التى تحث على الجهاد بالمال فى الدعوة للاسلام الحق والدفاع عنه ضد من يقوم بتشويهه : ( آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ )( الحديد 7)،وقد جعله رب العزة ( تجارة ) مع الله جل وعلا يكون الكاسب فيها هو المؤمن المنفق فى سبيل الله سبحانه وتعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) ( الصّف 10 : 13 ) . ومنها نستفيد أن الجهاد فى سبيل الله بالمال والنفس ينطبق ليس فقط على القتال الدفاعى الذى هو حالة استثنائية بل ينطبق اكثر على الدعوة للاسلام الحقيقى وهو جهاد مستمر الى قيام الساعة ، وأصحابه من الدعاة ومن يساعدهم هم الشهداء يوم القيامة ، ويستحقون هذه المنزلة بما قدّموه فى الدنيا من جهد ومن مال .
خامسا : المجاهدون سلميا فى سبيل القرآن الكريم بأموالهم وأنفسهم هم الشهداء على أقوامهم يوم الحساب.
1 ـ والمجاهدون فى سبيل الله بالقرآن الكريم ومن يعاونهم فى جهادهم سيكونون شهود خصومة يوم القيامة على أولئك المتاجرين بدين الله الذين أمضوا حياتهم الدنيا فى خدمة دين أرضى يدعو للعوج والانحراف العقيدى والاخلاقى ، يقول جل وعلا عن المواجهة يوم الحساب بين أولئك الظالمين المفترين والشهداء علهم (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ )(هود 18 : 19). تجد فى الآيات الكريمة نفس العبارات من الافتراء على الله جل وعلا كذبا بما يسمى بالسّنة أو غيرها واعتبارها وحيا ، والصّد عن القرآن الكريم أو سبيل الله جل وعلا واتخاذ الدين عوجا ، والكفر باليوم الآخر ليس بمجرد إنكاره ولكن بصناعة يوم آخر على هواهم ملىء بالشفاعات والوساطات يتحكمون فيه ويملكونه بدلا من رب العزة.
2 ـ ومصطلح ( الشهداء ) يوم القيامة لا يعنى من يقتل فى سبيل الله ، بل يعنى من سيكون شاهد خصومة على معاصريه من الكفار المشركين ، سواء مات ميتة طبيعية أو قتلا فى سبيل الله جل وعلا . أى هو الذى أمضى حياته الدنيا أو القسط الأكبر منها مجاهدا بنفسه وماله وعقله وجهده دفاعا عن الاسلام ضد من استغل اسمه فى سبيل الحصول على حطام دنيوى ، ومن قام بتشويه شريعته و احترف الكذب على الله ورسوله يحرّف دين الله ، ومن ينشر هذا الزيف ويدافع عنه صدّا عن سبيل الله ، ومن يبذل المال ويستخدم الجاه والقوة فى الصّد عن سبيل الله والدفاع عمن افترى على الله كذبا وكذّب بآياته ، ومن يستغل جاهه فى إيقاع الأذى والاضطهاد بالمجاهدين المسالمين المدافعين عن كتاب الله جل وعلا. أولئك المجاهدون بالدعوة الى الصراط المستقيم والمؤازرون لهم فى سبيل الله جل وعلا سيؤتى بهم يوم الحساب شهداء على الظالمين المدافعين عن البخارى و مالك و الشافعى و مسلم والغزالى والسيد البدوى ..الخ .  
3 ـ يوم الحساب حيث المحكمة الالهية الكبرى ستأتى كل نفس تجادل عن نفسها : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ  ) ( النحل 111 )، ويكون كل نبى شاهدا على قومه الذين عاصرهم وتعامل معهم ، لأن الشهادة تعنى الحضور و المعاصرة للحدث وأصحابه والمشاركة فيه ، لذا فإن عيسى عليه السلام سيكون شهيدا على من عايشهم من قومه فقط وليس له شأن بمن عاشوا قبله أو بعده : (وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ)( المائدة 117 )، ولهذا أيضا سيكون خاتم النبيين شهيدا على من عايشهم من قومه فقط ، وسيؤتى بشهيد على كل أمّة من نفس تلك الأمة ، والله جل وعلا يقول لخاتم النبيين عليهم السلام :( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا)( النساء 41 : 42). ويقول جل وعلا عن أولئك الشهداء والأنبياء فى اشتراكهم فى شهادة الخصومة على الأقوام يوم الحساب : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء)، وموضع الشهادة هنا هو الاكتفاء بالقرآن الكريم وكونه تبيانا لكل شىء يحتاج الى التبيان ، لذا يقول جل وعلا فى تكملة الآية الكريمة:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) ( النحل 89 )، وهنا إشارة معجزة لمن سيأتى بعد موت خاتم النبيين يسعى فى آيات الله معاجزا يتهم القرآن باحتياجه الى السّنة ، وقد توعدهم رب العزة مقدما فقال : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ  ) (الحج 51 ) (وَالَّذِينَ سَعَوْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ) (سبأ 5 ) (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ)( سبأ 38 ). فى هذه المحاكمة الالهية سيقول جل وعلا للمشركين الذين يقدسون البخارى وغيره ممن جعلوهم شركاء لله فلا يستطيعون إجابة ، ويأتى الشهود عليهم بالبراهين ضدهم وعندها تظهر الحقائق و يضيع الافتراء ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) ( القصص 74 / 75 ). وتتجلى مكانة الشهداء يوم القيامة فى أنهم يؤتى بهم مع الأنبياء فى أول مراحل يوم الحساب ، يقول جل وعلا عن يوم القيامة:(وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ) ( الزمر69 : 70 ).
أخيرا
1 ـ إن العادة أن ينفق دعاة الباطل أموالهم فى نشر أباطيلهم للصّد عن سبيل الله وتحويل الطريق المستقيم الى طريق أعوج. ولذا فلا بد من جهد مضاد ببذل المال فى سبيل الله دفاعا عن دين الله الذى تمّ تشويهه ووصمه ظلما بالارهاب و التخلف والظلم والتزمت و التعصب والتطرف . ومها بذل المخلصون للاسلام دفاعا عن الاسلام فهو ليس بشىء بالمقارنة الى درجة الشهداء أو الأشهاد يوم الحساب حين يؤتى بهم جنبا الى جنب مع الأنبياء ليشهدوا على أقوامهم فى يوم آت قريب جدا ، قال عنه رب العزة : (  اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ) (الأنبياء 1 ) (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا) (المعارج 5 : 7 )( إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ) ( النبأ 40).

2 ـ ودائما صدق الله العظيم .

7 ـ  أثر حق أولى القربى فى التكافل الاجتماعى وأمن المجتمع  

مقدمة
كتابات كثيرة تعرضت لهذا الموضوع ، بحيث يمكن القول بأنه لا جديد يمكن أن يقال فيه ، ولكن عطاء القرآن متجدد يدعو الى المزيد الى التدبر حتى لو كان الموضوع تم قتله بحثا. وهنا نحدد حديثنا عن أثر الزكاة فى التكافل الاجتماعى من ناحية جديدة لم يتعرض لها أحد من قبل ـ على قدر علمنا ، وهى حق ذوى القربى ، وأثر الزكاة فى الأمن المجتمع وحمايته من الانفجار والهلاك .

 أولا  ـ مفهوم ذوى القربى:
1 ـ ذوو القربى ليسوا آل البيت:

يعتقد البعض أن مصطلح ( ذوى القربى ) مقصود به ( آل بيت النبى ) من ذرية (على بن أبى طالب )،وهم يستدلون بقوله جل وعلا:( قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )( الشورى 23 ) أى أقارب النبى . ولكن لو كان هذا هو المقصود وجاء تشريعا فالمنهج التشريعى القرآنى يقتضى التفصيل والتحديد ، كأن يقال ( إلا المودة فى أقاربى ) ويأتى إستثناء أبى لهب ومن هم على شاكلته ، هذا فى السياق الخاص بالآية وفى داخلها. ثم يأتى التفصيل والتأكيد والتكرار فى السياق القرآنى العام . لم يحدث هذا ،بل حدث العكس ، وهو تكرار نفس المصطلح  فى مخاطبة المؤمنين بما يدل على أن أن المصطلح يعنى الأقارب داخل المجتمع المسلم فى دولة اسلامية ، لها قوانينها المالية وحقوق ومستحقون منهم الأقارب .
وباستعراض الآيات المتعلقة بالموضوع فى سياقها العام فى القرآن الكريم نجد الآتى :
1/1 : إن الحكم الأساس والعام هو أنه عليه السلام وكل الأنبياء عليهم السلام لا يأخذون أى اجر مقابل الدعوة ، وتكرر هذا فيما يخص خاتم النبيين :(قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا )( الانعام 90 ).
1/2 : بل يشمل هذا كل داعية للحق ،إذ لا يجوز أن يطلب من الناس أجرا (اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ) ( يس 21 ).
1/3 : إن رب العزة جل وعلا كرّر فى تأنيبه للمشركين أنه عليه السلام لم يطلب منهم أجرا بأى كيفية :
 (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ) ( الطور 40 )(أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ )(القلم 46 ) (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( المؤمنون 72  ).
1 / 4 : إن الأجر هو لهم وليس للنبى ، وذلك حين يهتدون فينالون الأجر :(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا )(الفرقان 57).

1/ 5 : ومن ضمن الهداية مودتهم للقربى ،أى أقاربهم : (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( سبأ 47 )، أو بتعبير سورة الشورى : (قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ).

1/ 6 : ليس فى الاسلام مميزات لأسرة ما أو عائلة توجب على بقية المؤمنين دفع اموال لهم ، فهذا ينافى العدل الالهى كما ينافى تشريع الاسلام فى الزكاة و الأمور المالية والذى يعمل على عدم تركيز الثروة فى فئة او طبقة فتتحول الى الترف وتسبب هلاك المجتمع ، كما سيأتى فى هذا المقال .
2 ـ ذووالقربى هم الأقارب داخل المجتمع المسلم:
2/1 : نفهم هذا من التلازم بين الوالدين وذوى القربى ، وعطف الأقارب على الوالدين بالواو مباشرة ، لأن الأقارب هم الذين يتبعون الأب والأم ، من الأخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وابنائهم وبناتهم . وإلحاق ذوى القربى بالوالدين فى موضوع الاحسان اليهم جاء حتى فى الشريعة السابقة للقرآن الكريم والتى ذكرها رب العزة عن الميثاق الذى أخذه على بنى اسرائيل :(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ) ( البقرة 83 ). وتكرر هذا وصية لنا فى قوله جل وعلا : (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) ( النساء 36 )، فجاء ترتيب ذوى القربى بعد الوالدين مباشرة. وجاء فى الصدقة الفردية للوالدين والأقربين (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )( البقرة 215  ). وجاء أيضا فى فرض الوصية قبل الموت للوالدين والأقربين:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (البقرة 180 ).
2/ 2 : وأحيانا يتم الاكتفاء بمصطلح ذوى القربى ومعناه دون ذكر الوالدين ليضمن الوالدين حيث ان المفهوم هو ان الوالدين هما أول درجة فى الأقارب ، يقول جل وعلا فى صفات الأبرار المتقين : (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ  ) ( البقرة 177 ). لم يرد هنا ذكر للوالدين لدخولهما ضمن (ذوى القربى ) . ولا نتصور البر ببقية الأقارب واهمالهما. كل هذا طبعا يعنى وجودهما ـ أو وجود أحدهما على قيد الحياة.
2/ 3 : وليس كل الأقارب يرثون ، فمنهم من لا يرث ، ومنهم من يرث ، ومنهم من يرث وله حق مفروض فى الوصية عند الموت ، كالوالدين : :( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (البقرة 180 )، خلافا لاكذوبة الدين السّنى القائلة بانه لا وصية لوارث . وجاء النّص على الوالدين فقط فى الوصية عند الموت ، وبعدهما يكون اختيار بعض الأقربين من اختصاص الموصىّ وفق القواعد التى بينها رب العزة فى الآيتين اللاحقتين ( البقرة 181 : 182 ).

2 / 4: هناك فرق دقيق بين مصطلحى ( ذوو القربى أو أولو القربى ) و ( الأقربون ). الأول ( ذوو القربى أو أولو القربى )عام يشمل كل الأقارب ، أما الثانى ( الأقربون )فهو خاص بأقرب الأقارب . وتأسيسا على ذلك فليس كل الأقارب يرثون بل الأقربون وأولهم الوالدان ، نفهم هذا من قول رب العزة جل وعلا فى مقدمة تشريع الميراث:(لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ) فللرجال والنساء نصيب يرثونه مما تركه الوالدان والأقربون ، وهو نصيب مفروض بشرع الله سبحانه وتعالى . أما عموم الأقارب الذين لا حق لهم فى الميراث فقد تحدثت عنهم الآية التالية:( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا )(النساء 7،8  ).أى إذا حضر قسمة الميراث الأقارب (أولو القربى ) الذين لا حق مفروضا لهم فى الميراث  ـ وإذا حضر أيضا اليتامى والمساكين ـ فلهم عطايا من الميراث ـ قبل التوزيع ـ مع قول حسن .
2/ 5 : ويلاحظ أن للأقربين ـ أو أقرب الأقارب ـ حقا مفروضا فى الصدقة الفردية والوصية عند الموت والميراث ، وكلها فرائض واجبة النفاذ . أما الاحسان العام فقد جاء لعموم (ذوى القربى ) كقوله جل وعلا (  إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ  )( النحل 90  )(وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) ( الاسراء 26 ) ( وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (  النور 22) (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)( الروم 38 ). كما يكون لذوى القربى عموما حقوق فى العطاء الرسمى للدولة الاسلامية ، سنتعرض له فيما بعد .
2 / 6 : يلحق بالوالدين وأقرب الأقارب أو ( الأقربين ) أتباع الوالدين والأقربين من حيث الاحسان الى أولئك الأتباع أو الموالى ، ويجوز الوصية لهم ، ويجب تنفيذها ، يقول جل وعلا :(وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا)( النساء 33 ).
3 ـ الاحسان لذوى القربى حق بشرى يجب ألّا يتعدى على حق الله جل وعلا :
3 / 1 : بمعنى يجب أن تحسن الى أقاربك وفق شرع الله جل وعلا ، ولكن ليس على حساب العدل ، فهنا حق الله جل وعلا . فلا تحابى أقاربك عند الشهادة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ )( النساء 135) (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) ( الانعام 152 ).

3 / 2 : ويحرم الاستغفار للمشركين المعتدين المجرمين الذين تبين عداؤهم لله جل وعلا من جرائمهم العلنية :( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) (  التوبة 113 : 114).
3 / 3 : كما تحرم موالاة أولئك الأقارب المعادون لله تعالى ورسوله بسلوكياتهم الارهابية (بتعبير عصرنا) التى تستهدف المسالمين ، وتحرم موالاتهم ضد المؤمنين المسالمين ، يقول جل وعلا (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُم ) ( المجادلة 22 ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )( التوبة  23 : 24).
3/ 4 : وفى النهاية سيؤاخذ كل فرد بعمله ، ولن تجدى قرابة حيث سيفر المرء من أخيه وأمه وأبيه  وصاحبته وبنيه ( عبس 34 ـ  )، وحيث لا أنساب ولا هم يتساءلون (المؤمنون 101  ) وحيث لا يجدى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا ( لقمان 33 )،وحيث لا تملك نفس لنفس شيئا لأن الأمر كله يومئذ لله جل وعلا ( الانفطار 19 ) وهذا ما يتحسب له المؤمن الذى يريد أن تتزكى نفسه ـ ولا زلنا فى موضوع الزكاة ـ يقول جل وعلا عن يوم الحساب : ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) ( فاطر 18 ).
ثانيا :حقوق ذوى القربى :
الحديث هنا ليس مجرد الأقربين أو أقرب الأقارب بل يشمل جميع الأقارب ،أو (ذوى القربى ) أو ( أولى القربى ) : رسميا لهم حق فى الغنائم وفى الفىء :
1 ـ لهم حق فى الغنائم التى تحصل عليها الدولة الاسلامية إن انتصرت فى حرب دفاعية ، وعن مصارف الغنائم يقول جل وعلا :(وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ( الانفال 41 ).
2 ـ وفى الفىء ،أى ما يفىء ويدخل الى بيت مال الدولة الاسلامية هو نفس التوزيع : (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )( الحشر 7 ).

3 ـ وفرديا لهم حق فى الصدقة الفردية : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )( البقرة 215  ).

4 ـ ولهم حق فى الصدقة التطوعية التى يتطوع بها الابرار، وهم من يريد الوصول الى درجة عليا من الايمان والتقوى ، يقول جل وعلا عن صفات الابرار: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ  ) ( البقرة 177 ).

ثالثا : صلة إعطاء ذوى القربى بالتكافل والأمن الاجتماعى
1 ـ سبق تحديد ذوى القربى بأنهم الأقارب داخل المجتمع المسلم . والمعنى هنا أن كل فرد فى هذا المجتمع المسلم له إعتباران : الأول بصفته فردا أصيلا مطالبا بالصدقة بانواعها ، والثانى بصفته قريبا لفرد آخر. وبصفته قريبا يأخذ حق ذوى القربى ،أو سهم ذوى القربى لفلان ، وفلان هذا يأخذ بدوره عنه سهم ذوى القربى ، أى يشمل سهم ذوى القربى عموم أفراد المجتمع ، فكل فرد له سهم فى الغنائم و الفىء أى ما يدخل الى بيت المال من خراج وغنائم وصدقات ، يعاد توزيعه على عموم الأفراد . بل ويشمل سهم ذوى القربة المحتاجين أيضا من الفقراء والمساكين و اليتامى والغارمين و العاملين عليها لأن كلهم أفراد داخل المجتمع ، وكل فرد هو من ذوى القربى لآخر . وليس هذا فى الفىء والغنائم بل أيضا فى الصدقة الفردية و الصدقة التطوعية التى يقدمها الابرار. يضاف الى ما سبق وجوب الوصية عند الموت للأقربين والوالدين ، وكل أولئك شرائح ممتدة فى عمق المجتمع وشرائحه وطبقاته .
2ـ وبهذا يتحول المجتمع الى شبكة مترابطة يعطى بعضها بعضا وبتلقى بعضها من بعض تحت بنود مختلفة من الصدقة الرسمية و الفردية والصدقة التطوعية و الفىء و الغنائم . وبهذه الشبكة التى تتخلل المجتمع من اعلى الى اسفل طولا وعرضا واتساعا وعمقا يدور مال الأفراد أخذا وعطاءا فيعم الرخاء و يزداد ترابط المجتمع .
3 ـ وسرعة دوران رأس المال تمنع تركزه فى أيدى الطبقة الغنية . احتكار الأغنياء للثروة يحولهم الى طبقة مترفة على حساب الفقراء ، فيزيد الفقر حدة من حيث الكيف ويزداد الفقراء عددا من حيث الكمّ، كما تتضاءل وتنكمش الطبقة الوسطى وهى صمام امن المجتمع. ولأن الثروة تتبع السلطة والسلطة قرينة الثروة فإن وجود طبقة مترفة يعنى وجود نظام حكم استبدادى يمثلها ويدافع عنها ، يتحلى بالفساد والظلم . ولكى يتأكّد الظلم ويسير مرفوع الرأس دون وجل أو خوف فهو يحتاج فى تبريره وتسويغه وتشريعه و تخدير الشعب الى تسيد دين أرضى يتحكم فيه رجال الدين فى الناس يتبولون فى عقولهم بثقافة الخنوع والخضوع والرضى بالمقدور فيتحول الشعب الى قطيع يمتلكه المستبد بعد أن قتل حيوية المجتمع ، ويتأهّل هذا المجتمع الى مرحلة الهلاك والانفجار من الداخل .
4 ـ ويتضح هذا أكثر حين نعرض فى المقال التالى لبقية أوجه توزيع الفىء والغنائم والصدقة الرسمية و الفردية والصدقة التطوعية ، ونصيب كل مجموعة منها ، وأثر ذلك على سرعة دوران المال بما يمنع من احتكار الأغنياء الثروة ويقى المجتمع مغبة الهلاك ، بل وفى نفس الوقت يعود عليهم بالرخاء.

أنصبة المستحقين في أطار التكافل

سبق فى مقال سبق إعطاء لمحة عن مستحقى الزكاة المالية الرسمية والصدقات الفردية.  ونضيف اليها هنا الفىء والغنائم . ويدخل تحت الفىء جميع ما يفىء الى بيت المال او خزينة الدولة من خراج وضرائب على دخل المواطنين ، ونحن هنا نتحدث عن نظام دولة اسلامية ، حيث يتم إقرار الضرائب فى إطار العدل ومصلحة الدولة والمجتمع والافراد ـ وعن طريق ممثلين من الشعب من أهل الاختصاص أو ( الشأن ) أو (أولو الأمر ) . وطالما تتم الموافقة عليه يصبح قانونا واجب النفاذ وشرعا يأذن به الله .

ونعطى بعض التفاصيل :
أولا : لمحة أفقية لعموم المستحقين ومستحقاتهم
فى الدولة الاسلامية روافد للعطاء بعضها من الدولة والآخر من الأفراد . وهى أشمل من الصدقات بأنواعها ، إذ تشمل سبعة روافد أو مصادر يستفيد منها الأفراد المستحقون ، ومجموع فئات المستحقين بالمكرر ثلاثون، كالآتى:
1 ـ الصدقة الرسمية (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة 60 )المستحقون هنا  ـ خارج حق الله جل وعلا ـ هم ستة : الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِونَ عَلَيْهَا وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِونَ وَابْنِ السَّبِيلِ .
2 ـ الصدقة الفردية :(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)  (البقرة 215 ) . المستحقون هنا خمسة : اِلْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبِون وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
3 ـ الصدقة التطوعية التى يتطوع بها الأبرار فوق المفروض زيادة فى الخير : (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ  ) (البقرة 177 ). المستحقون هنا ستة : ذَوِو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِون  وَفِي الرِّقَابِ.

4 ـ الفىء (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الحشر7 ) . والمستحقون هنا ـ خارج حق الله جل وعلا ـ أربع ، وهم ذوو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. أى إن الفىء يذهب خمسه للجهاد السلمى بالدعوة ، والاعداد العسكرى لحماية الدولة الاسلامية المسالمة بطبيعتها وشريعتها . ويبقى أربعة أخماس يتم توزيعها على أربعة فئات من المستحقين ، لكل منهم الخمس من دخل الفىء ، وهم ذوو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.

5 ـ ونفس الحال فى الغنائم (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ  ) ( الأنفال 41 ) ، فالمستحقون هنا ـ خارج حق الله جل وعلا ـ أربع ، وهم ذوو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. أى إن الغنائم يذهب خمسه للجهاد السلمى بالدعوة ، والاعداد العسكرى لحماية الدولة الاسلامية المسالمة بطبيعتها وشريعتها . ويبقى أربعة أخماس يتم توزيعها على أربعة فئات من المستحقين ، لكل منهم الخمس من الغنائم ، وهم ذوو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. وهذا خلاف ما جرى عليه الفقه السلفى الذى يعبر عن دولة معتدية على الآخرين وتشجع جندها على الغزو بأن تعطى أربعة أخماس الغنائم لأفراد الجيش ، ثم الخمس الباقى لذوى القربى واليتامى و المساكين وابن السبيل . وهو على أية حال كلام نظرى ، وتطبيقه فى عهد عمر كان مختلفا عن تصورات الفقهاء فى العصر العباسى. وهذه قضية فرعية لا مجال لها الآن.
6 ـ توزيع بعض التركة قبل توزيع الميراث على مستحقيه : (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ) ( النساء 8 ). والمستحقون المقصودون هنا هم ثلاثة فقط : أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ.
7 ـ هذا بالاضافة الى الوصية (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) ( البقرة 180 ). والمستحقون المقصودون هنا هم صنفان فقط : الوالدان والأقربون.
ثانيا : لمحة رأسية لنصيب كل فئة من المستحقين .
 وهنا نتتبع مستحقات كل فئة من المستحقين فى تلك الموارد :
1/ 1 : للفقراء سهم فى الزكاة الرسمية
1/ 2 : للمساكين المحتاجين للطعام : ثلاثة أسهم فى الزكاة الرسمية والغنائم والفىء ، ولهم أيضا سهم فى الصدقة الفردية وسهم فى صدقة الأبرار، وسهم قبيل توزيع التركة . المجموع 6 اسهم .
1/ 3 : ولابن السبيل  المحتاج للضيافة والاكرام : ثلاثة أسهم فى الزكاة الرسمية والغنائم والفىء ، ولهم أيضا سهم فى الصدقة الفردية وسهم فى صدقة الأبرار. المجموع 5 أسهم.
1/ 4 : للانفاق فى سبيل الله سهمان فى الزكاة الرسمية وسهم فى الفىء وسهم فى الغنائم ، أى 4 أسهم ، بالاضافة الى الدعوة المستمرة للانفاق الفردى فى الجهاد بالنفس والمال.
1/ 5: لذوى القربى سهمان فى الفىء والغنائم وسهمان فى الصدقة الفردية وصدقة الأبرار ، أى 4 أسهم  .
1/ 6 : يتميز الوالدان بسهمين فى الوصية الواجبة والصدقة الفردية ، مع دخولهما ضمن ذوى القربى.
1/ 7 : اليتامى لهم سهمان فى الفىء والغنائم وسهمان فى الصدقة الفردية وصدقة الأبرار ، وسهم قبيل توزيع التركة على مستحقيها ،  أى 5 أسهم.
1/ 8 : هناك سهمان مخصصان لعتق الرقيق فى الزكاة الرسمية وفى صدقة الأبرار ، ومع الزعم باندثار تجارة الرقيق يمكن توجيه السهمين الى بنود أخرى كالتعليم والصحة.
1/ 9 : هناك سهم للسائل ـ بغض النظر إذا كان محتاجا فعلا أم محترفا للتسول ، وهذا السهم من الصدقة التى يقدمها الأبرار.

1/ 10 : هناك سهم واحد فى الزكاة أو الصدقة الرسمية لفئتين : العاملون عليها أو الموظفين فى هذا المجال و الغارمون  .عدد الأسهم هنا 32 ، وباقتطاع حق الله جل وعلا فى الجهاد والمؤلفة قلوبهم يتبقى 25 ، مع ملاحظة التداخل بين الأقربن وذوى القربى والوالدين .
2 ـ ويستفاد مما سبق:
2/ 1 : نصيب المحتاجين من الفقراء والمحرومين والمساكين وابناء السبيل هو  14 سهما من جملة 25 . أى إن أغلبية العطاء للمحتاجين ، بينما الأقلية للعاملين على الصدقات (1) من 25 ، والغارمين (1 ) أيضا.
والبقية للوالدين والأقارب (5 ) من 25 ، واليتامى (4 ) من 25 .
2/ 2 : لا يشترط فى الوالدين وذوى القربى و اليتامى أن يكونوا فقراء ،بل يأخذون الصدقة و غيرها بصفة القرابة أو اليتم ، سواء كانوا محتاجين أو غير محتاجين . وبالتالى فهناك 14 سهما من 25 للمحتاجين و9 أسهم للأقارب واليتامى بصفتهم .
2/ 3 : وهؤلاء الأقارب الأغنياء عليهم أيضا دفع الزكاة المالية الرسمية والفردية و التطوعية، أى يأخذون وأيضا يعطون ، ونفس الحال مع اليتيم  الغنى إذ يقوم الوصى على ماله بإخراج زكاة ماله رسميا وفرديا ، وربما تطوعيا . أما لو كانوا فقراء محتاجين فهم يأخذون الاسهم بصفتهم فقراء أو مساكين وأيضا بصفتهم أقارب أو يتامى ..ولو فضل عندهم مال فيجب عليهم إخراج زكاة عنه .
2/ 4 : سبق تحديد ذوى القربى بأنهم الأقارب داخل المجتمع المسلم . والمعنى هنا أن كل فرد فى هذا المجتمع المسلم له إعتباران : الأول بصفته فردا أصيلا ، والثانى بصفته قريبا لفرد آخر. وبصفته قريبا يأخذ حق ذوى القربى ،أو سهم ذوى القربى لفلان ، وفلان هذا يأخذ بدوره عنه سهم ذوى القربى ، أى يشمل سهم ذوى القربى عموم أفراد المجتمع ، فكل فرد له سهم فى الغنائم و الفىء أى ما يدخل الى بيت المال من خراج ، يعاد توزيعه على عموم الأفراد . بل ويشمل سهم ذوى القربة المحتاجين أيضا من الفقراء والمساكين و اليتامى والغارمين و العاملين عليها ..لأن كلهم أفراد داخل المجتمع ، وكل فرد هو من ذوى القربى لآخر . وليس هذا فى الفىء والغنائم بل أيضا فى الصدقة الفردية و الصدقة التطوعية التى يقدمها الابرار.
2 / 5 : أى إن الأغنياء يحصلون أيضا على نصيب من الفىء والغنائم وغيرها ، ولكنها لا تتركز فيهم ، حيث أن سرعة دوران المال واتساع دائرة توزيعه تمنع تركزه فى يد أقلية غنية .
2 / 6 : ومفهوم أن الأغنياء هم أكثر مصدر يأتى منه موارد الزكاة الرسمية والفىء والصدقات الفردية و التطوعية ، ومفهوم أيضا أم المستفيد الأكبر هم الطبقات المحتاجة و المحرومة ، ولكن هذا ليس غبنا للأغنياء بل هو من مصالحهم إقتصاديا ، لأن أولئك الأغنياء مفترض انهم أصحاب مزارع و مصانع ومتاجر ، وتربو وتزيد أرباحهم واستثماراتهم بكثرة الأموال فى أيدى المحتاجين لأن اولئك المحتاجين مستهلكون بطبيعتهم ، أى لا بد ان ينفقوا ما يأتيهم بالشراء من مزارع ومتاجر ومصانع الأغنياء ، أى إن ما يقدمه الأغنياء من صدقات وضرائب يتم توزيعها على الفقراء ستعود الى الأغنياء من خلال زبائنهم الفقراء ، وهذا يتم من خلال دورة سريعة متتالية ومستمرة يدخل بها المجتمع طريق الازدهار والرخاء ،بل وطريق التعاطف الاجتماعى والمودة الاجتماعية بديلا عن الحقد الطبقى و الصراع الطبقى .
2 / 7 : مفهوم فى تطبيق هذه النظم أن تقام مؤسسات رسمية وشعبية لرعاية الفقراء والمساكين ولايواء أبناء السبيل ولكفالة اليتامى والمحرومين . وتقبل هذه المؤسسات تبرعات الأفراد من الصدقات الفردية والتطوعية . ومفهوم أيضا أن هذا يشمل فى عصرنا رعاية أطفال الشوارع واللقطاء وكبار السّن والارامل. ومفهوم أيضا أن الرعاية تشمل الى جانب توفير الطعام والشراب و الاقامة جانبا لا يقل أهمية هو الرعاية الصحية للمرضى فى كل مراحل العمر .
2 / 8 : التعليم الأساس من الطفولة الى مرحلة التكليف والبلوغ فرض حتمى وحق لكل فرد ، وهو واجب على الدولة الاسلامية ، ويشتمل على تعليم مهنى يعين الطالب على شق طريقه بنفسه معتمدا على مهاراته الحرفية . والتعليم الجامعى هو لمن لديه استعداد مالى يستكمل به تعليمه الجامعى وما فوق الجامعى ،  أو يكون ذا تفوق علمى يجعله مؤهلا للتعليم المجانى عبر منح مقدمة من الدولة .  ويتم تمويل التعليم بفرض ضريبة متفق عليها من مجلس شعب منتخب انتخابا نزيها و شرعيا ، أو من خلال مورد ( تحرير الرقيق ) الذى لم يعد موجودا . مع ملاحظة تكرار الوصايا فى القرآن بعتق الرقيق . والعتق من الجهل هو عتق من الرّق . والتعليم ـ أو صناعة إنسان محترم مثقف راق واع ـ هو ضمانة الحرية والرخاء فى المجتمع . كما أن بند (ذوى القربى ) واسع وعريض ويمكن بسهولة أن يتكفل بالتعليم لأن المستفيدين بالتعليم هم الأبناء والأخوة لكل أفراد المجتمع ، هم ذوو القربى لكل فرد ، وهم الأحق بالرعاية الصحية والتعليمية بما يؤهلهم للترقى بأنفسهم وبمجتمعهم.
ثالثا : حدود استعمال الزينة وتحريم كنز الذهب والفضة
1 ـ بسبب تركز المال لدى الخلفاء الأمويين ثم العباسيين قام الفقهاء السنيون بتحريم استعمال الذهب والفضة والحرير. أى إن العصيان السلوكى للخلفاء بكنز الذهب والفضة واكل أموال الناس بالباطل أدى لتطرف فى العصيان من ناحية أخرى هى تحريم المباح الحلال ، وهو استعمال الذهب والفضة والحرير  والجواهر .
2 ـ ومن البداية قال جل وعلا فى تجريم تحريم الزينة أى الذهب والحرير والجواهر:( يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) ( الأعراف 31 : 33 ) .
قوله جل وعلا عن الزينة الحلال (قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يعنى أنها حلال للمؤمنين فى الدنيا ولغيرهم أيضا ، ولكن ستكون حلالا خالصا لهم يوم القيامة وهم فى الجنة يتمتعون بالذهب و الحرير ، يقول جل وعلا عن تمتعهم فى الجنة :(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ )(فاطر 33 ) ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا  ) ( الكهف 30 : 31 ).
ولأن الجواهر حلال فى الاستعمال فقد تكرر تذكير الله جل وعلا للبشر بالنعم المستخرجة من البحر ، ومنه الدرر والجواهر وهى اثمن من الذهب :(وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا)( فاطر 12 )(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) ( النحل 14  ).
3 ـ ولكن الله جل وعلا وضع ضوابط لاستعمال الزينة ، وهى منع الاسراف (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ  ). فالمفترض فى الزينة أنها قليلة يتجمل بها الانسان وهو يحملها على جسده ، ولا نتصوره يحمل زينة ثقيلة ينوء بحملها ، ولو فعل ذلك لاستحق سخرية الناس . ولكن بعضهم يكنز فى خزائنه زينة الذهب والفضة والجواهر ، ويختار بعضها يرتديها فى كل يوم بشكل ولون ونوع مختلف . هنا الاسراف المحرم المنهى عنه ، والذى يتحول به حفظ الزينة الى كنز لها ، فالاسراف يؤدى الى كنز الذهب والفضة أى منعه من التداول:(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ)(التوبة  34 : 35). أى إنه كما منع رب العزة من تحريم التمتع بالزينة فقد منع أيضا من الاسراف فى استعمالها ، وهذا معنى قوله جل وعلا :( يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ). بل جعل رب العزة من الكبائر فى الذنوب أن نتقول على الله جل وعلا بلا علم وان نفتى بتشريع ما أنزل الله به من سلطان (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).

4 ـ ودعا رب العزة الى أن ننظر الى كل متاع الدنيا على انه مجرد زينة فى حياة مؤقتة وهى الدنيا فلا ينبغى ان تحتل الأولوية فى حياة المؤمن بدلا عن الاخرة . يقول جل وعلا :(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )(آل عمران 14 : 15 ) (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا )(الكهف 46 ).
5 ـ وجعل رب العزة الحلّ فى التصدق فى سبيل الله جل وعلا: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ )( الحديد 20 : 21 ).
وبهذا يتحول استعمال الزينة بالاعتدال الى وسيلة إيجابية تمنع كنز المال وتركزه لدى المترفين وهذا يعنى سرعة دوران المال داخل المجتمع بما يحقق النماء ، كما إن التصدق بالزائد منها وانفاقه فى سبيل الله جل وعلا ينشر الحب والتعاطف بين أفراد وطبقات المجتمع . وعكس ذلك يعنى زيادة الحقد الطبقى لدى الفقراء وزيادة البخل والشح من الأثرياء .
رابعا   : العطاء المالى و العطاء الوجدانى

1 ـ سبق أن تعرضنا لآداب الصدقة ووجوب أن تتنزه عن المنّ والأذى . وعرفنا أن الصدقات بكل أنواعها والفىء والغنائم يشترك فى خيرها عموم المجتمع وتساعد فى سرعة دوران رأس المال مما يدفع بالمجتمع الى طريق الرخاء . ولكنّ الرخاء وحده لا يكفى حتى مع كفالة حق المحتاجين ماليا ( الفقراء والمساكين ) والمحتاجين وجدانيا وعاطفيا ( اليتامى )، فلا بد أن يقترن الرخاء ورعاية المحتاجين بإشعارهم بأن ما يأخذون هو حقّ لهم بتعبير القرآن الكريم : (وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ )( الأنعام 141 ) (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) (الاسراء 26  ) (  فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )( الروم 38) (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ )(الذاريات 19 )(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (المعارج 24 : 25 ).
2 ـ ومن هنا نفهم حرص رب العزة جل وعلا على استعمال مصطلح ( الاحسان ) فى هذا السياق ؛ فالاحسان مصطلح قرآنى يعنى مجموعة من القيم العليا من التسامح والغفران والنبل والعطاء دون إنتظار شكر أو أجر من البشر. ونراجع بعض السياقات القرآنية فى العطاء المالى وإقترانها بالاحسان .
2 / 1 : يقول جل وعلا : ( وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ  ) ( النساء 36 ) الاحسان هنا يشمل أيضا الجار والصاحب .
2/ 2 : ويقول سبحانه وتعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ) ( الاسراء    23 : 28 ) هنا تركيز على حق الوالدين مع التسامح الذى يتأكد مع قوله جل وعلا (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  )( النور 22 ).
خامسا :وسائل أخرى فى محاربة الجوع والفقر المدقع:
1 ـ جعل إطعام المسكين فدية على من:
* يفطر فى رمضان لأنه لا يقدر على الصيام :(أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ )( البقرة 184 ).
* وعلى من يحلق رأسه وهو محرم بالحج : (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ  ) ( البقرة 196 ).
* ومن يحنث فى اليمين : (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) ( المائدة 89 ).
*ومن يقتل الصيد فى الحرم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ) ( المائدة 95 ).
* ومن يظاهر من إمرأته ثم يعود :(وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) ( المجادلة3 : 4 ).
2 ـ دخول المسكين والفقير ضمن مفهوم ( المحروم )، وله حق معلوم فى صدقة الأبرار (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ  ) ( المعارج 24 : 25 )، (  وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ  )( الذاريات 19  ).
3ـ التأكيد على حق المسكين فى وصايا عدة منها (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ  ) ( البلد 13 : 16 ).
4 ـ يتم هذا بالتعاون مع تشريعات أخرى تمنع الاحتكار وتقضى على دابر  الفساد وتربط الحرية الاقتصادية بالحرية السياسية والديمقراطية المباشرة والمحاسبة والشفافية والحق فى العدل والقسط وانفتاح الطريق أمام الأفراد للسعى فى الرزق من خلال قوانين تيسر وتسهل الاستثمار والتعمير والاستصلاح ، وتحصر دور الدولة فى حفظ حقوق الأفراد واستعمال الضرائب والزكاة لاعادة توزيع الدخول بما يضمن حقوق المحتاجين وبما يساعد على سرعة دوران رأس المال لصالح الثروة التى يملكها المجتمع فى الأساس وتكون ملكا للأفراد طالما أحسنوا إستثمارها وتنميتها ، وإلا ينتزعها منهم المجتمع لو كانوا سفهاء ويديرها نيابة عنهم ويعطيهم نفقتهم وحقهم فى الرعاية : (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ) ( النساء 5 ).
5 ـ بهذا يتم ليس فقط القضاء النهائى على الفقر المدقع ، بل يتيسر الطريق لشرائح من طبقة الفقراء لتصعد الى الطبقة المتوسطة التى هى صمام أمن المجتمع ، والتى بدورها يتضخم عددها وتتنوع شرائحها بحيث تصبح الأغلبية طبقات وسطى و الأقليات من الفقراء و الأثرياء ، بل و يتغير مفهوم الفقر ومعياره بحيث يكون (الفقير ) فى هذا المجتمع مساويا من حيث الدخل والامكانات للثرى فى مجتمع آخر .
ختاما
هذه هى سمات المجتمع المسلم ودولته الاسلامية . وبقدر ما توجد بعض هذه السمات الايجابية فى أى مجتمع بقدر ما يكون مجتمعا اسلاميا ودولة اسلامية ، وبنفس القدر يتحصّن من أسباب الهلاك . ومجتمعات الغرب ودوله العلمانية هى الأقرب الى المجتمع الاسلامى الحقيقى ودولته القائمة على العدل والحرية وكفالة حقوق الانسان وكرامته وحقه فى السعادة والسعى فى الرزق.
نتوقف فى الحلقة القادمة مع المجتمع الآخر ، المجتمع الهالك ، وسماته التى تنطبق ـ مع شديد الأسف ـ على المجتمعات المسلمة من المغرب الى أفغانستان وباكستان مرورسا بمحور الشّر ـ وهى السعودية .

( 8 ) مجتمع بلا زكاة مصيره الهلاك

مقدمة :
1 ـ استهلكنا حلقات طوالا فى ( الزكاة ) بمعنى تزكية النفس وسموها الخلقى ، وأن الزكاة المالية المعروفة هى الصدقة . ووصلنا الى أن الزكاة المالية ضمن مصارف أخرى ـ كالفىء و الغنيمة ـ تسهم فى استقرار المجتمع ورفاهيته ورخائه وتكوين شبكة ممتدة ومتشعبة ومتعمقة من العلاقات الوثيقة الايجابية بين أفراده عبر تنوع المستحقين للعطايا من فقراء ومساكين وأقارب وابناء سبيل ويتامى وسائلين ومحرومين ..الخ. وقلنا من قبل إن تعريف المسلم هو المسالم بغض النظر عن دينه وعقيدته ، وأن مستحق الصدقة و الغنائم والفىء وغيرها يكون بصفته فقيرا أو مسكينا او سائلا أو قريبا أو يتيما ، وليس تبعا لدينه أو حتى تقواه أو عصيانه لأن ذلك العطاء حق له ولشخصه ولا يرتبط باتجاهاته الفكرية أو العقيدية .
وانتهينا الى أن تلك السمات هى التى تحدد ماهية المجتمع المسلم ودولته الاسلامية ،وانها تتوفر فى الغرب المسيحى وتفتقر اليها  الشعوب المعروفة بانتمائها الى الاسلام . وهذا يجعل الاسلام مسئولا فى نظر بعض السطحيين و المتعصبين عن أحوال المسلمين ، هذا مع إن تلك الشعوب ( المسلمة ) تعتنق أديانا أرضية تناقض الاسلام ، وواقع الأمر أنها تخضع لنظم سلطوية استبدادية ظالمة ، والأديان الأرضية والاستبداد  هما معا سبب نكبات المسلمين فى الماضى وفى الحاضر .
2 ـ ومن عجب أن القرآن الكريم ـ الذى لم نقرأه ولم نقدره حق قدره والذى اتخذناه مهجورا ـ هو الذى يهاجم الاديان الأرضية والطغيان والظلم والفساد والاجرام والاستعباد ، وهو الذى يؤسس لتلك الدولة الاسلامية الديمقراطية السامية بخلقها وعدلها و قيمها وحقوق الانسان فيها . ليس ذنب الاسلام أن من ينتسب اليه يهجرون حقائقه فى العقيدة و الشريعة والاخلاق ، وليس ذنب الاسلام أن ( المسلمين ) يعتنقون اديانا أرضية كالتشيع و التصوف والسّنة ، فى الواقع فإن القرآن الكريم هو الحجّة على المسلمين قبل غيرهم لأنهم وضعوا أنفسهم فى موضع العداء له ، وهم الذين بعقائدهم وسلوكياتهم وتاريخهم وتراثهم شوهوا الاسلام وجعلوه موضع سخرية واستهجان العالم .
3 ـ وفى هذا المقال لمحة عن سمات الدولة المستبدة الظالمة الكافرة التى تنطبق على معظم بلاد المسلمين التى لا تمارس الزكاة ـ بمفهومها الخلقى العام فيكون مصيرها عادة الى الهلاك ، بحيث تجد احداث ووقائع الهلاك جزءا لا يتجزأ من تاريخها ، سواء فى كوارث طبيعية أو حروب اهلية أو احتلالات أجنبية . وتاريخ العرب المسلمين يعطى الأمثلة لذلك بدءا من الفتنة الكبرى الى سقوط الدول الأموية و العباسية وسقوط الاندلس والحملات الصليبية و الاستعمار الاوربى الى قيام النظم الاستبدادية والدول الدينية والدعوات السلفية فى عصرنا الراهن. والعادة أن من مظاهر الهلاك أن يسلط الله جل وعلا الظالمين بعضهم على بعض ليهلك بعضهم بعضا.
أولا :بداية الظلم العقيدى وبداية الظلم السلوكى
1ـ خلق الله جل وعلا البشر أحرارا متساوين فى الخلق وفى عبوديتهم له وحده بحيث أن من حقه جل و(علا ) أن يكون هو وحده الذى ( يتعالى ) على عباده لأنه وحده الخالق لهم. وبالتالى فليس لأحد من البشر المخلوقين أن يتعالى على أمثاله وأقرانه من أبناء آدم . هذا ما ينبغى أن يكون ، وهذا ببساطة  هو مفهوم العدل والمساواة . ولكن الله جل وعلا خلق الانسان ليختبره فى هذه الحياة الدنيا ، لذا جعل البشر متفاوتين فى القدرات الفردية وفى الأخلاق ،وبهذا التفاوت والاختلاف يسعون للرزق فيحدث الصراع حول الثروة و السلطة ويهتز ميزان العدل ، خصوصا وأن النفس البشرية قد ألهمها الله جل وعلا الفجور والتقوى وترك أمر تزكيتها أو فسادها لارادة الهدى أو الضلال داخل الانسان نفسه . وفى مقابل الشيطان الذى يزين للانسان الظلم فإن الله جل وعلا أرسل الرسالات السماوية لكى يقيم الناس القسط ( الحديد 25 ).
2 ـ العدل له مستويان وللظلم أيضا مستويان : عدل مع الله جل وعلا ، فمن الظلم لله جل وعلا أن تتخذ معه شريكا وهو وحده الخالق ،أو أن تنسب له زوجة أو ولدا وهو الذى ليس كمثله شىء. وهذا العدل هو حق الله عز وجل ، والله جل وعلا خلقنا أحرارا ، لنا حق الاختيار بين الايمان والكفر والطاعة والمعصية ، وسيحاسبنا يوم القيامة تأسيسا لهذه الحرية. ثم هناك العدل بين البشر فلا يصح لأحد أن يبغى أو يطغى أو يتعدى على حق الآخر أو يظلم الآخر.والله جل وعلا يأمر بالعدل والاحسان،( النحل 90)،والاحسان فوق العدل ، بالعفو عن الظالم والتبرع بالمال للسائل والمحروم .  تضييع العدل فى التعامل مع الله بعبادة وتقديس غيره عقوبته الخلود فى جهنم . تضييع العدل بين البشر بإقامة حكم استبدادى والرضوخ له عاقبته الهلال فى الدنيا . والله جل وعلا أعلم بمصير المستضعفين يوم القيامة ولكن الظالمين مصيرهم الجحيم .
3 ـ وبتطور مسيرة الظلم يتشابك نوعا الظلم. يبدأ بظلم لأفراد بالعشرات والمئات والآلاف ويتحول الى ظلم شعب بأكمله يتملكه ظالم واحد بصفته ملكا أو زعيما أو رئيسا ، يقهر شعبه حتى يستكين له ، ويستعين بجزء ضئيل من الشعب ليكونوا عدته فى إذلال الشعب ، ويقوم أيضا بالتفرقة بين طوائف الشعب والايقاع بينهم ليظل راكبا فوق ظهرورهم . ومع تنوع أعوان المستبد الظالم من كتبة مثقفين واراجوزات وعسكر وكلاب حراسة لكن يظل أخطرهم أثرا فى مساندة الظالم والظلم هم رجال الدين الأرضى. ومن هذه الحقيقة نبتت مقولة ( الدين أفيون الشعوب ) ، والمقصود بالدين هنا هو الدين الأرضى الذى سيطر على الغرب فيما سبق ولا يزال يسيطر على المسلمين حتى الآن . وبالتحالف بين الدين الأرضى الحاكم المستبد يتعانق نوعا الظلم ( ظلم البشر لبعضهم وظلم البشر لله جل وعلا) إذ أن الدين الأرضى بكل أنواعه هو أفظع ظلم لله رب العالمين .4  ـ فى تشابك ظلم البشر لبعضهم البعض يتعذر أن تتعرف على الظالم والمظلوم ، فكل فرد تقريبا يكون ظالما ومظلوما فى نفس الوقت ، ليس لأنه ظلم نفسه بالسكوت عن الظلم والسكوت عن قول كلمة حق ،       ولكن لأنه وهو مظلوم لا يتوانى عن ظلم الآخرين . يسرى هذا على مستوى افقى ورأسى . المستبد الأكبر يقهر كبار دولته ، وأولئك يقهرون من دونهم الى أن تصل الى المخبر أو الجندى الذى يتسلط على عوام الناس. وفى مستوى الأغلبية الصامتة المقهورة تراها لا تكتفى بظلم نفسها بالسكوت على الظلم ، بل يقهر الأقوى منهم من هو أضعف منه ، الزوج يقهر زوجته والأخ الأكبر يقهر أخوته الصغار والذكر يقهر الأنثى ،والناظر يقهر المدرسين والمدرسون يقهرون التلاميذ ، والموظف البسيط يتعالى على أصحاب المصالح ، والكل يعذّب الكل،والكل يشكو والكل ظالم والكل مظلوم. 
5 ـ وفى تشابك ظلم الناس لرب العزة بأديانهم الأرضية تتنوع المظاهر ولكن تتفق فى تجاهل الدين الحق الذى يدعو الناس لاقامة القسط وما يتطلبه ذلك من استعمال السلاح أو الحديد ذى البأس الشديد (الحديد 25 ).  بعض الأديان الأرضية تتخصص فى الخنوع والتسليم بالأمر الواقع ترفع شعار ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وتتفنن فى الرقص فى مواكب السلطان ، كالتصوف وشيوخ المؤسسات الدينية الرسمية وأولئك هم أخطر دعائم الظلم والظالم ، وبعضهم يعتنق دينا أرضيا يتمرد به على الواقع ويحاول الوصول به الى السلطة لا لآقامة العدل بل لاقامة دولة دينية يكون بها متحكما فى الناس ليس فى الدنيا فقط بل فى الآخرة أيضا .
6 ـ فى تشابك الظلم للناس ورب الناس يصل المجتمع الى تركز السلطة والثروة فى يد نخبة مترفة ينتهى بها المجتمع الى الهلاك. تلك هى مواصفات ونهاية المجتمع الظالم الذى لم تطهره الزكاة .
ثانيا : سمات الطبقة المترفة ومجتمعها
1 ـ فى المجتمع العادل الحرّ (الاسلامى حقا ) قلما يوجد أفراد مترفون ، بل لا توجد أصلا طبقة مترفة لأن دوران رأس المال يمنع تركز المال فى طبقة يتضخم ثراؤها بأكل أموال الناس بالباطل فيتحول الثراء الى ترف . فى المجتمع العادل الحرّ (الاسلامى حقا ) تتضاءل طبقتا الفقراء والبلوينيرات ، بينما تتوسع أفقيا ورأسيا الطبقة الوسطى بكل شرائحها من أصحاب الملايين الى أصحاب الدخول المرتفعة من العاملين والخبراء والتجار . وأحيانا تصعب التفرقة بين الناس من حيث المظهر فالسيارات يركبها الغنى والفقير والغذاء الوفير على مائدة هذا وذاك . لايبقى التفاوت فى المظهر سوى فى ملامح متفرقة فى المسكن والعمل. يختلف الحال فى مجتمع الاستبداد والظلم المؤهل للهلاك .
2 ـ ونتعرف على ملامحه من سياق الحديث القرآنى عن المترفين
2/ 1 : تتجلى أبرز السمات فى المساكن ، فالقصور والمنتجعات والشاليهات والعمارات والأسواق الفارهة الضخمة لأقلية القلة من عدد السكان ، يتمتعون بكل وسائل الرفاهية وبأرخص الأسعار أو بالمجان مبتعدين بأنفسهم عن بقية الشعب ، يحيطون مدنهم وقراهم السياحية و منتجعاتهم الصيفية والشتوية بأسوار وحراس . هذا بينما تنتشر العشوائيات بلا مرافق على أطراف المدن و يعيش الفقراء فى المقابر وعلى الأرصفة وتتحول القرى والمساكن الشعبية الى مواطن للأوبئة والتلوث . ويتجلى هذا فى عصر مبارك حيث تم توصيل المرافق الى الساحل الشمالى و ساحل البحر الأحمر ليس لاستزراعه واستثماره لصالح المصريين ولكن لرفاهية المترفين الذين لا يملكون القدرة على الخجل ، إذ لا يحتاجون الى مساكن وقصور إضافية لأن لديهم مختلف الشقق الفاخرة بينما تعانى أجيال كاملة من أزمة الاسكان وتعانى أحياء القاهرة من تدنى الخدمات . نفس الحال فى السعودية حيث تغرق جدة فى المجارى بينما يخطط المترفون لاقامة أعلى برج فى العالم ، وهناك من يعيش فى المملكة فى عشش من الصفيح ولا يجدون ما ينفقون .
وعند وقوع الهلاك تكون المعالم الأساس الباقية بعد التدمير هى قصور خاوية ومرافق مدمرة ـ يقول رب العزة جل وعلا عن إهلاك الأمم السابقة  : (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ) (  الحج 45 ). اصبحت خاوية على عروشها ، فيها بئر تعطل وقصر مشيد مهجور خاو على عروشه. البئر كان يخدم الشعب كله وهو رمز للمرافق ، ولكنها كانت معطلة لتتوفر الموارد لتشييد القصر الذى يسكنه شخص مترف واحد ، وجاء الهلاك فبقى هذا وذاك دليلا على الظلم وعلى عدم التزكية أو الزكاة. وبعد ثورة 25 يناير وحبس أئمة المترفين أصبحت بعض قصورهم خاوية خربة ومدمرة بينما لا تزال العشوائيات والأحياء الفقيرة على حالها بما يعد إرهاصا بهلاك قادم إن لم تتحقق التزكية والزكاة و الاصلاح .
2/2 : الانحلال الخلقى بأسوأ معانيه تقع فيه القلة المترفة ، وهى تستخدمه فى سياستها وتجد متخصصين فى استغلاله من القوّادين ، وبعضهم يصل بسبب خدماته الى أرفع المناصب ، بل ربما يكون مسئولا عن صياغة العقل والوجدان وهو عاهر أصيل وقوّاد لا يشق له غبار . وليس صفوت الشريف هو المثال الوحيد هنا فستتكشف الأمور عن أمثلة عربية كثيرة لأسماء لامعة ، لأنها سمة أصيلة من سمات المترفين تحدث عنها رب العزة فقال :(وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) أى أمرنا مترفيها بالعدل ففسقوا وعصوا فتم تدميرهم ، وهذا قانون الاهى تم تطبيقه على القرى ـ أى المجتمعات والدول منذ عهد نوح ، يقول جل وعلا :( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) ( الاسراء 16 : 17 )، وسيستمر التطبيق والتدمير للقرى الظالمة ساريا الى قيام الساعة ، يقول جل وعلا فى نفس السورة (وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا )( الاسراء 58 ).

2/ 3 : ومع ذلك كان يمكن تفادى الاهلاك لو قام دعاة للاصلاح يدعون للعدل مع الله بعبادته وحده وتقديسه وحده ولاقامة العدل بين الناس ،واستجاب لهم الناس.  وفعلا نجت بهذا مجتمعات قليلة ـ قديمة ـ من الهلاك ، بينما دفعت الأكثرية منها مسيرة الظلم ومعيشة الترف على حساب الجوعى ، وهذا ما يقوله رب العزة لنا فى القرآن لنتعظ وننجو من هلاك قادم :(فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ) فالقاعدة إن الله جل وعلا لا يهلك قرية إلا إذا كان أهلها ظالمين : (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ  ) ( هود 116 : 117 ).
 2/ 4 : والعادة أيضا أن يتصدى المترفون للاصلاح ليس فقط لأنهم هم المفسدون ولكن لأن الاصلاح سيكون على حسابهم ، سينزل بهم من عليائهم الى موقع المساواة ببقية الشعب ، وسيأخذ ما سلبوه من الناس ليعيدوه الى الناس. وهنم ليسوا على استعداد للتنازل عن السلطة والثروة ، لذا يقاومون الرسل والأنبياء والدعاة للحق والعدل بالاضطهاد والانكار والكفر :(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ  ) ( سبأ 34 : 35 ).
2/ 5 : وهم حين يقولون ( نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ  ) ( سبأ  35 ) فلا يقولونها من فراغ ، هم يقولونها من واقع دين أرضى متجذر ومتوارث تم تأليفه ليدافع عن الظالمين المترفين ، ولا يزال يقال فى مصر ( سعيد الدنيا سعيد الآخرة ) وهى نفس المعنى الذى يجعل المترفين يعتقدون ملكيتهم للآخرة والجنة كما يخيل اليهم أنهم ملكوا الدنيا. يأتى الهلاك فيفقدون الدنيا ، ويأتى يوم الحساب فيخلدون فى الجحيم .

2 / 6 : ومن سمات هذا الدين الأرضى المتوارث عبادة ما وجدنا عليه آباءنا ، لذا يرفضون الحق الالهى لأنه يدعو لاقامة العدل وينهى عن الظلم . وهى قاعدة لا استثناء لها أن يتحجج المترفون بدينهم الأرضى وعبادة التراث ، وبه يعارضون القرآن الكريم . يقول جل وعلا : ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) ( الزخرف 22 : 23  ).
2/ 7 : ويبقى فى النهاية أن  النجاة من التهلكة هى التزكية والزكاة بالاحسان وليس مجرد العدل : (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (البقرة 195 )، وإلا فالهلاك كما حدث لمن سبقنا : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) ( يونس 13 ).
أخيرا : هل يمكن للعرب تجنب الهلاك الذى بدأت إرهاصاته الآن ؟
بإيجاز : يواجه العرب تحدى التخلص من النظم المستبدة القائمة وبعده سيواجهون تحديا أفظع وهو التخلص من الحركات السلفية التى تطمع فى وراثة ذلك الحكم الاستبدادى . لو نجحت الحركات السلفية بتحويل الاستبداد العسكرى الى حكم دولة دينية سلفية فسيتم الهلاك . أى إن النجاة من الهلاك مرتبط بتحجيم الحركة السلفية بأسرع ما يمكن. التحجيم النهائى للحركة السلفية مستحيل طالما ظلّ الشيطان السلفى الأكبر فى الرياض. لا بد أن تسقط الدولة السعودية حتى يعيش المسلمون أحرارا .

  (9 ) : الحكم الشرعى فى دفع الزكاة داخل الدولة المستبدة

 

مقدمة :

 إن خطاب القرآن الكريم لدولة اسلامية حقيقية أصبح استثنائيا بحكم الواقع التاريخى لأن الدولة الاسلامية التى أقامها خاتم النبيين عليهم السلام ما لبث أن تساقط بنيانها شيئا فشيئا فى عصر الخلفاء الراشدين الى أن تم استبدالها بالحكم الأموى الظالم المستبد وما تلاه من خلفاء غير راشدين . وبالتالى فإن حديث رب العزة لا محل له فى تلك الدول التى تناقضت مع شريعة الاسلام عمليا فى الدولة الأموية ، ثم تمّ تشريع هذا العصيان فى الشريعة السّنية فى العصر العباسى. من هنا فالحديث عن زكاة يكون من مصارفها بند (فى سبيل الله) لم يعد له وجود ، فالمستبد الأموى أو العباسى أوالمملوكى أو العثمانى كان ينهب مال الرعية ويصادر أموال أتباعه الحرامية الذين يسرقون له اموال الناس ، ويهاجم البلاد الاخرى للسلب والنهب ، وفى كل ما يفعل هو يعتقد انه يملك الارض ومن عليها . ليس هذا جهادا فى سبيل الله ولكنه اعتداء فى سبيل الشيطان ؛ إعتداء على المواطنين الذين جعلهم رعية مملوكة له ، وإعتداء على أمم أخرى واحتلالها وفرض الجزية والضرائب عليها إثما وعدوانا.إن كل ما يفعله هو فى سبيل إشباع غرائزه وجشعه ونزواته وغروره واستبداده . وعلى نسق أولئك الخلفاء والسلاطين جاء فى عصرنا مستبدون بنفس الملامح من آل سعود الى صدام ومبارك والقذافى وبن على وغيرهم ، ويتأهب السلفيون الى الوثوب على الحكم فيما يسمى بربيع الثورات العربية ليستعيدوا الظلم الأموى والعباسى والمملوكى و العثمانى ، وهو الأصل الذى تقلده نظم الحكم الحالية.


أولا :  

1ـ الى أن تقوم دولة اسلامية حقيقية فقد انتهى تطبيق أى دولة مستبدة للتشريع القرآنى فى تحصيل وفى توزيع الزكاة الرسمية في قوله جلّ وعلا :( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(التوبة 60).ولكن ماذا عن الزكاة الفردية وزكاة الأبرار التطوعية ؟
2 ـ الزكاة المالية الفردية غير الرسمية واجبة سواء كان الفرد يعيش فى دولة اسلامية أو مستبدة ، فيجب ان يعطيها الفرد للوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل:(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )(البقرة 215). والأمر هنا واضح فكل فرد يعرف والديه وأقاربه وكم هم حوله من اليامى والمساكين ومن يمرّ به من الغرباء أبناء السبيل ، والمجال مفتوح أمامه للبر والاحسان بهم ابتغاء وجه الله عزوجل فى المحيط الذى يعيش فيه .
3 ـ ويبقى لنا نوعان من الصدقة والزكاة المالية : الرسمية و التطوعية .فالى أين يتوجه الفرد المؤمن بزكاة ماله (الرسمية )و( التطوعية ) وهو يعيش فى ظل دولة ظالمة مستبدة ؟ ذلك المؤمن المتقى الذى يريد أن يكون من الابرار السابقين المقربين يوم القيامة ويريد تقديم المزيد فوق الواجب المفروض عليه من الصدقة ليتزكى عند ربه جل وعلا. أين يذهب بصدقاته ؟ .إن رب العزة حدّد مستحقى صدقة الأبرار فقال : (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )( البقرة 177 ) المستحقون فى صدقة الأبرار التطوعية هم من ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ . ولكن كيف يمكن تطبيقها فى عصرنا فى بلادنا التى تنوء بحكم القهر والظلم والاستبداد والفساد؟.
4 ـ نلاحظ الآتى فى مصارف ومستحقى الصدقة الرسمية والتطوعية :
4/1 : هناك حق لله جل وعلا يتمثل فى الجهاد فى سبيل العدل. وهو نوعان : *جهاد سلمى وعظى فى سبيل العدل العقيدى فى التعامل مع الله جل وعلا بالدعوة الى أنه لا تقديس إلا لله جل وعلا ، ولا عبادة إلا له جل وعلا ، مع تقرير حرية المعتقد للجميع على أساس مسئوليتهم على اختيارهم العقيدى أمام الله جل وعلا يوم القيامة . ثم * جهاد سلمى وحركى فى سبيل إقامة العدل بين الناس ومنع الفتنة أو منع الاكراه فى الدين . ومتوقع لهذا الجهاد السلمى أن يواجه العسف والاضطهاد وبالتالى قد تتحول حركته السلمية الى محاولات للدفاع عن النفس . ونوعا الجهاد يتطلبان معا التضحية بالمال والنفس . وخير الناس من يضحى بالنفس والمال معا .
4/2 : تكررت الدعوة فى القرآن الكريم للجهاد بالمال والنفس بالاضافة الى الدعوة لاقراض الله جل وعلا قرضا حسنا ، وجاء ضمن مصارف الزكاة الرسمية حق الله جل وعلا (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ) ( التوبة 60 ) كما إن هناك بنودا لم تعد تعمل ويمكن توجيهها الى حساب التطوع فى سبيل الله مثل المؤلفة قلوبهم.
4/ 3 : لا مجال مطلقا هنا للتبرع الى دعوة لدين أرضى أو لحركة تعمل فى سبيل الوصول الى الحكم أو ترفع السلاح للهجوم وتغيير الواقع بالقوة ـ هذا لا ينطبق على شعب مظلوم يتحرك سلميا يطالب بحقوقه فيتعرض لهجوم ظالم من قوة خارجية معتدية ،أو من حاكم مستبد طاغ. هنا تكون مؤازرة هذا الشعب حقا من حقوق الله جل وعلا ،أى تكون ( فى سبيل الله ) حتى لو تضمنت حركة الشعب اضطراره للقتال الدفاعى ضد هجوم مسلح غير متكافىء من الطاغية الحاكم . وهكذا فمؤازرة المجاهدين فى سبيل العدل والحرية هى جهاد فى سبيل الله جل وعلا ، مع استثناء الحركات الايدلوجية الساعية للحكم كالاخوان والسلفية وتنظيماتهم.
4/ 4 : أهم مجالات التطوع فى سبيل الله جل وعلا ـ الآن ـ بالمال والنفس تتمثل فى العمل والتبرع لمؤسسات تتفرغ فى توضيح حقائق الاسلام المنسية وقيمه العليا من عدل وحرية مطلقة فى الرأى والدين وسلام وإحسان أى تسامح ، وديمقراطية وعدالة إجتماعية وتكافل إجتماعى . وعلى هامش النضال والجهاد فى سبيل التنوير والعدل يقع ضحايا ، منهم من يلقى حتفه ومنهم من ينتظر ، ومنهم من تنقطع به السّبل بسبب المطاردة ومحاولات الهجرة والافلات من عسف المستبد ، وهم يفقدون ما كان لهم من مكانة وحرمة و ثروة بسبب إختيارهم جانب الحق ، تراهم فى محنة بين عزّة نفس تتأبى أن تطلب الصدقة وحاجة ماسة الى المساعدة ، وما أروع توصيف رب العزة لهم فى سياق الحضّ على مساعدتهم :( لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) ( البقرة 273 ). إن العادة السيئة للمستبد أن يستخدم سلاح التجويع ضد الأحرار المجاهدين ضده ، كما يستخدم القهر لارهاب الناس العاديين من الاقتراب ممن يغضب عليهم ويعتقلهم ، فيعيش أقارب المعتقل المظلوم بين حرمان وتجاهل من الناس ، فإذا خرج المعتقل المظلوم ووجه بالناس تتفاداه وتخشى الاقتراب منه ، وقد لا يجد عملا بحيث يتمنى لو عاد الى السجن .! ضحايا المستبد والمؤسسات التى تقوم على رعايتهم أولى بالرعاية والعون ، ورعايتهم والتبرع لهم جهاد فى سبيل الله جل وعلا.
4 / 5 :و نجد أمثلة فى التبرع للمنظمات العاملة فى إنقاذ الجرحى كالصليب الأحمر والهلال الأحمر ، والى جمعيات حقوق الانسان والديمقراطية ومنظمات المجتمع المدنى العاملة فى مجالات التنوير وثقافة السلام والانفتاح الايجابى الخيّر مع العالم ، وذلك بعد التأكد من اخلاصها فى عملها وشفافية حساباتها المالية وعدم ارتباطها بحركة سياسية أو مذهبية أو عنصرية.التبرع لتلك المؤسسات هو جهاد فى سبيل الله جل وعلا بالمال ، ومساندتها بالعمل التطوعى هو جهاد بالنفس .
4 / 6 : أما حقوق البشر فى الصدقة الرسمية و التطوعية فيمكن ان يضاف اليها موارد كانت مخصصة عتق الرقيق والتوسع فى مستحقيها لتشمل رعاية المرضى و التبرع للمستشفيات و مساعدة الطلبة الفقراء ورعاية دور الأيتام و مؤسسات تأهيل الأحداث المنحرفين ورعاية أطفال الشوارع. وهناك مؤسسات خيرية تعمل فى هذه المجالات وتسعى لجذب التبرعات.والتبرع لها أهم مصارف الزكاة الرسمية والتطوعية .
4 / 7 : وحيث توجد الكوارث الطبيعية والمجاعات فالاسراع الى نجدتها واجب فردى على كل مستطيع ، لا فارق هنا بين ضحايا الكوارث والمجاعات إن كانوا مسلمين أو غير مسلمين ، كما تفعل المنظمات الخيرية الغربية التى تحترم الانسان كانسان وتساعده كانسان دون أى إعتبار للجنس أو اللون أو العقيدة والدين.

 

أولا :  

 

وياليتنا نتعلم من المنظمات الغربية التى تداوى جراح المسلمين فيما يعرف بالعالم الاسلامى ـ المبتلى بالاستبداد والفساد و..السلفية !!.
أخيرا
وهكذا ففى ظل دولة ظالمة يعانى فيها الناس وخصوصا الفقراء يمكن تخفيف المعاناة بتوجيه الصدقات بأنواعها حقا لله جل وعلا و حقا للمستحقين من البشر وعونا للمجاهدين فى سبيل الله جل وعلا ..

(10 ): لا يجوز دفع الضرائب فى دولة مستبدة


1 ـ فى بداية حكم مبارك فى أوائل الثمانينيات كنت أعمل مدرسا فى قسم التاريخ الاسلامى والحضارة الاسلامية فى جامعة الأزهر ، وكان هذا القسم وقتها يتولى تدريس مادة التاريخ فى معظم كليات جامعة الأزهر ، ولما كنت شابا مفعما بالحيوية وسط أقران جاوزوا سنّ العمل الشاق فقد رحبت بقبول جدول ضخم ، فكنت أتولى تدريس مواد التاريخ داخل القسم فى كلية اللغة العربية وفى كليات أخرى فى القاهرة والزقازيق والمنوفية وطنطا. كنت سعيدا بالعمل الشاق لأن لدى ما أقوله وكان ( ولا يزال ) يثير الجدل و يحرّك الراكد من العقول . ولكن كان التصحيح فى الامتحانات هو العبء ، حيث كان مفروضا علىّ أن أقوم بتصحيح حوالى عشرة آلاف من أوراق الاجابات لجميع الطلبة فى القاهرة ( كليات فى منطقة الدرّاسة ومدينة نصر ) بالاضافة الى الأقاليم ، وكنت أضطر لحملها بنفسى فى المواصلات بالاضافة الى عملى فى كنترول الامتحانات فى الكلية التى أعمل فيها رأسا. ولم تكن لدى سيارة ـ وأذكر أنه جاء رمضان شديد الحرارة فى هذا الوقت من العمل ليل نهار . وكان بعض الزملاء يكتفى بالتصحيح وهو فى الكلية نهارا يعمل فى الكنترول ، وأذكر زميلا كان يرتدى الزى الأزهرى يتميز به عنا ، ورأيته وهو يصحح مادة التفسير لعدة مئات من الطلبة ، وكان لا يفتح كراسة الاجابة ، ولا ينظر اليها أصلا ، بل يكتفى بكتابة رقم 50 أو 55 ، اى درجة النجاح بالمقبول للجميع ، وهو يتكلم معنا دون أن يكلف نفسه عناء النظر للورقة . كنت على النقيض احرص ما استطعت على قراءة الاجابات وتقدير الدرجة المستحقة. وأذكر أنه فى تلك السنة التى جاء فيها رمضان فى الامتحانات اضطررت الى حمل ما تبقى من أوراق التصحيح وذهبت بها الى بلدتى أبوحريز فى محافظة الشرقية لاستكمل المهمة قبل عيد الفطر . وانتهت محنة هذا العام بالحصول على مكافأة التصحيح ، وكان مبلغا مهولا .!! طبقا للقواعد الموضوعة وقتئذ فإن الاستاذ الجامعى وقتها عليه أن يصحح بالمجان كمية فى حدود 300 ورقة ـ على ما أتذكر ، ثم الذى يزيد يأخذ عليه مكافأة لا تتعدى 300 جنيه أو 250 جنيه ـ لا أتذكر . المهم اننى قمت بتصحيح أكثر من عشرة آلاف ورقة وجاءت المكافأة بالحد الأقصى ، وبعد خصم الضرائب أتذكر أننى قبضت مبلغ 210 جنيها فقط .

فى نفس العام كانت محاكمة رشاد عثمان ، ونشرت الصحف وقتها إنه حصل على إعفاء ضريبى قدره 5 مليون جنيه عن ( إحدى ) شحنات الخشب التى كان يستوردها . حين وصل مبارك للحكم أراد تشويه سمعة سلفه صاحب الفضل عليه انور السادات ، فلم يجد طريقة سوى الايقاع بأخ السادات (عصمت السادات ) الذى كان شريكا لرشاد عثمان . رشاد عثمان هذا بدأ من الصفر فى ميناء الاسكندرية مستفيدا من الفساد هناك واتهم بالعمل فى تجارة المخدرات ، وصار متحكما فى الميناء ، ودخل الحزب الوطنى ، واشتهر بأن الرئيس السادات قال إنه يأتمنه على الاسكندرية . علا نجم رشاد عثمان فأصبح ضحية لمبارك الذى كان وقتها يتظاهر بالعفة والنزاهة و(أن الكفن ليس له جيوب ) . وكانت محاكمة رشاد عثمان وعصمت السادات تهدف الى تلميع مبارك ووصفه بالرئيس الحريص على طهارة اليد ومحاربة الفساد الذى كان وقتها ببضعة ملايين.!! ما يهمنا هنا هو المقارنة بين عمل استاذ فى الجامعة يكدّ ويتعب شهرين فى تصحيح عشرة آلاف كراسة امتحان ثم تعصف القواعد المالية والضرائب بحقوقه ليقبض بعد عناء 210 جنيها فى الوقت الذى يأخذ فيه تاجر (أمى لا يقرأ ولا يكتب ) خمسة مليون جنيه إعفاء ضريبيا على واحدة فقط من شحنات الخشب. وماذا عن بقية الشحنات وبقية مصادر الدخل الذى لا يظهر فى الاوراق ؟.
2 ـ بالطبع فقد تجاوز الوضع كل الحدود فى عصر مبارك خصوصا عندما سيطر ابناه على مقاليد الثروة والسلطة ومعهما طغمة الفساد ، والكبار منهم فى سجن طرة الآن ، وهم مجرد قمة الجبل الطافية فوق الماء وما خفى أعظم . وستأتى الأيام القادمة بالمزيد والمزيد لمن هم فى السجن الآن ومن لم يدخل السجن بعد . ويتحدثون الآن عن الفوارق فى المرتبات بين الكبار والصغار ، بين مستشارين على المعاش وخبراء فى البنوك تلتهم مكافآتهم ومرتباتهم بلايين الجنيهات وبالعملة الصعبة ، وهم عدة آلاف ، فى مقابل عشرات الملايين من الموظفين فى الحكومة و القطاع العام ، لا يزال مرتب الواحد منهم بضعة مئات من الجنيهات . وفيما يخص موضوعنا عن الضرائب فإن أولئك الموظفين المعدمين يتم خصم ضرائبهم من المنبع ، بينما يجد الكبار ألف وسيلة ووسيلة للتهرب من الضرائب .ومهما بلغ عدد المجانين فى مصر والعالم العربى ومهما بلغت درجة جنونهم فلا أتصور أن واحدا منهم يصدّق أن جمال مبارك أو زكريا عزمى أو صفوت الشريف كان يدفع المستحق عليه من الضرائب ـ لأنه ببساطة لو قام أى ثرى بدفع الضرائب فلن يكون ثريا على الاطلاق ، لأن الضرائب التصاعدية على الدخل تصادر معظم الدخل وتمنع وجود مليونير من الأصل ..
3 ـ هذه الضرائب التصاعدية بالطريقة المصرية هى بالطبع خطأ يجب تصحيحه حتى لا يكون هذا الاجحاف فى نسب الضريبة عذرا للتهرب من دفعها .هذا لوكنا نتحدث عن دولة ديمقراطية حقوقية تقوم على العدل وتمنع فرض ضريبة إلا بقانون ، وفيها برلمان ممثل للشعب بانتخاب نزيه هو الأمين على ثروة الشعب وموارد الدولة ، فيعطى الحكومة بحساب ويحاسبها على ما تنفقه من اموال كما يحاسبها على أدائها فى ادراة مصالح المواطنين وخدمة الدولة ، فى ظل نظام حكم يقوم على العدل والحرية والشفافية ومحاسبة المخطىء مهما بلغ شأنه ، وسيادة القانون فوق الجميع على قاعدة المساواة بين المواطنين فى الحقوق. هذا ما يحدث فى أمريكا وأوربا واليابان. وهذا هو الذى لا تعرفه بلاد المسلمين . من هنا لا يرى الأمريكى بأسا من دفع الضرائب لأنه يجد مردودا حقيقيا لما يدفعه فى صورة حدائق وطرقات ومرافق ، بل إن الضريبة تلعب دورا بارزا فى مساعدة محدودى الدخل ، فهنا فى أمريكا يوجد حد أدنى للدخل ، وصاحب الدخل المحدود حين يدفع عليه ضريبة رمزية يفاجأ عند الحساب بشيك من مصلحة الضرائب يفوق ما دفعه، وذلك وفقا لقواعد تجعل الضرائب عاملا أساسا فى رفع دخل الفقراء . الاحساس الهام هنا أن الأمريكى دافع الضرائب يشعر بأنه الذى ينفق على الرئيس وكبار أعوانه ، ويعرف أن من حقه أن يعرف كيف يتصرفون فى أمواله التى يدفعها. والعبارة السائدة هنا هى الحرص على أموال ( دافعى الضرائب )، هذا لأن الفلسفة هنا أن الشعب هو الذى يحكم وهو الذى يستأجر البعض لكى يدير الأمور بأجر يدفعه له الشعب ، والشعب من خلال ممثليه ومن ينوب عنه هو الذى يراقب أداء الادارة ومصروفاتها ، وهناك قضاء حرّ ومستقل عن السلطتين التشريعية والتتنفيذية ، وهناك مؤسسات أهلية وشعبية تراقب واعلام حر مستقل متأهب لأى خلل أو زلل ليفضحه وينشره على الملأ ، ثم هناك رأى عام يقظ وقوى ومتفاعل ومستعد للحركة دفاعا عن العدل والحرية .

4 ـ فى مصر وبلاد العرب والمسلمين توجد فلسفة أخرى،هى الحكم طبقا لنظرية الراعى والرعية. فى الحقيقة هناك نوعان من الرعاة ونوعان من الرعية . هناك راع بشر يرعى رعية من الماشية والأغنام ، وهناك راع من البشر ولكن يجعل من نفسه الاها مع الله جل وعلا الذى(لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ)(الأنبياء 23)، والرعية هنا هم بشر من حيث المظهر ولكن من حيث السلوك هم يعيشون بنفس طريقة الانعام والأغنام من حيث الخضوع والخنوع للراعى خوف عصاه . الراعى للبقر والغنم لا يكون قاسيا على رعيته ، يستخدم عصاه للتهويش والتخويف بينما تجد الراعى المستبد يتفنن فى تعذيب رعيته من البشر كى يسخرهم فى خدمته وطاعته تماما كالمواشى . ولأنهم بشر وحيوانات ناطقة تستطيع أن تتذمر أو تشكوى فالشكوى غير مسموح بها ، وطالما لا تقدر الغنم والبقر والمواشى على الشكوى فان الرعية البشرية يجب أن تكون كذلك ، ومن يتجرأ منها على التذمر فسيكون عبرة للباقين . من هنا يتميز المستبد الراعى بتعذيب رعيته بينما يتفنن الراعى للبقر والمواشى فى تدليل رعيته . الراعى الذى يرعى الماشية والأغنام ـ حرصا منه على مكسبه ـ تجده شديد الرعاية لرعيته ، يطعمها ويسقيها ويدفئها ويداويها ويعلمها ويروضها .الراعى ( الحاكم المستبد ) يضطر الى الانفاق على الرعية فى التعليم والصحة والمرافق ، ولكنه يقرن هذا بالمنّ والأذى مستكثرا ما يدفعه من امواله ، فهو مقتنع أنه يملك الأرض ومن عليها من بشر وحيوانات ومزارع وموارد . وهو بطبيعة الأحوال لا ينفق فى الموارد وبقية الخدمات إلا ما كان أكثر نفعا له وأوثق صلة به . وبينما يحرص راعى الغنم والبقر على رعاية المرضى منها فإن الراعى الآخر ( الحاكم المستبد ) يضيق ذرعا بالفقراء ويراهم عبئا ، ويتفنن من الخلاص منهم بالمبيدات المسرطنة والأوبئة والأدوية الفاسدة والتلوث وحتى العمليات العسكرية الفاشلة مقدما . وفى الوقت الذى ترى فيه الراعى للغنم والبقر حريصا على العدل والمساواة بين رعيته من الحيوانات من حيث توزيع الماء والأكل والاهتمام فإن مستبدا فاسدا مثل مبارك قام بتعمير الصحراء فى الساحل الشمالى وسيناء وخليج السويس والبحر الأحمر وعلى حواف الدلتا ليتنعم المترفون من اتباعه ، بينما تنتشر العشوائيات فى القاهرة والمدن وتتلوث القرى ونهر النيل وتنتشر الأوبئة، وتتهالك قطارات الفقراء والمواصلات البرية والبحرية و الطرق ليموت آلاف الضحايا من الفقراء ، بينما لو شكى بعض المترفين من صداع فهو يضمن علاجه فى الخارج على نفقة الدولة ومن الضرائب التى يدفعها الكادحون المحرومون .
أخيرا :
1ـ نأتى للسؤال الهام : هل يجوز للمظلوم المقهور المحروم من حقوقه دفع الضرائب لدولة يحكمها المستبد بالقهر والتسلط ؟ أقول بأعلا صوت : لا يجوز إلا فى حالة الاكراه والارغام ، بمعنى لو قدرت على التهرب من الضريبة وأنت تعيش تحت حكم مستبد فعليك ألا تدفعها. إن الضرائب التى تدفعا لمستبد عدو لك وعدو لله جل وعلا يستخدمها هذا المستبد فى تكديس بلايين لا يحتاج اليها وفى شراء أسلحة لقتلك وادوات لتعذيبك و بناء شرطة وجيش لقهرك وحماية سلطانه فوق جسدك العارى . إن لك حقوقا ، إن لم تحصل عليها فليس عليك واجبات . من حقك العدل والحرية والمساواة فى ظل قانون عادل يسرى على الجميع ، إن لم يتيسر لك ذلك فليس عليك واجبات ، ومنها واجب دفع الضريبة . قد يقال إن المستبد فى عصرنا يضطر الى الانفاق على التعليم والصحة وغيرها . ونقول إنه فى الوقت الذى يستنزف فيه عرق المواطنين بالضرائب ، ويستغل لنفسه موارد الدولة فإن ما يعطيه للشعب فى التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية هو لاشىء بالنسبة لما ينهبه من خير الأرض . ولو راعى العدل بنسبة واحد فى المائة ما أخذ من المواطنين ضرائب فيكفيه استغلاله لثروة الوطن التى ينهبها بلا حساب وبلا رقيب .
2 ـ قلنا هناك نوعان من الراعى والرعية ، ومفهوم أن الرعية من البشر هى المظلومة وأن الراعى هو الظالم . ولكن هذا ليس صحيحا على إطلاقه . الصحيح أن الظالم هنا نوعان : ظالم بنفسه وظالم لنفسه. المستبد واعوانه من الزعيم والرئيس والأمير و الوزير وحتى الخفير كلهم ظالمون ضمن نوع ( الظالم بنفسه ). أما من يظلم نفسه فهو الذى يرضى بالخضوع والذل والقهر والخنوع . بل بعضهم يتعود على تحمل الظلم الى درجة تبرير ظلم المستبد والصاق الظلم بالحاشية والأتباع تبرئة للظالم الأكبر. خطره عظيم هذا الصنف الظالم لنفسه ممن يرضى بالظلم ويعيش ساكنا ساكتا أو الذى يتكلم دفاعا عن الظالم وتبريرا لظلمه لأنه هو الذى يمدّ فى عمر الظلم ، وهو الذى يجعل الطريق وعرا أمام المجاهدين فى سبيل الحرية والعدل . هذا الصنف الظالم لنفسه قد يسارع عن طيب خاطر بدفع الضرائب للحاكم المترف . إن دفع الضرائب عن رضا للمستبد عصيان لله جل وعلا لأنه إنحياز الى الظالم وتأييد له ، يقول رب العزة : (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ )( هود 113 ).
3 ـ ليس هناك مبرر للرضا بالظلم إلا عند الاكراه والعجز عن المقاومة . من لا يستطيع المقاومة عليه بالهجرة داخليا أو خارجيا . إن مات وهو ذليل مستضعف فمصيره النار إن كان قادرا على الهجرة ولم يهاجر . يقول جل وعلا (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) ( النساء 97 ـ ) ، وبالتالى ليس هناك مبرر لمن يستطيع التهرب من دفع الضريبة لحاكم مستبد فاسد ، إلا أن يكون مساعدا له فى ظلمه ومظاهرا له فى طغيانه وفى عدائه لرب العزة ، والله جل وعلا يضع الظالمين ومن يساعدهم فى منزلة واحدة يقول :(إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون)( الممتحنة 9 ).أكثر من ذلك هو وجوب الجهاد بالحديد لاقامة العدل بين الناس إن لم تنفع الدعوة القرآنية السلمية لاقامة العدل ، والله جل وعلا يعلم من سينصره ويقيم العدل،  يقول جل وعلا :(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( الحديد 25 ). ويبقى بعدها عفو رب العزة لمن تاب وأناب ومن أخطأ عن جهل وبلا تعمد ، أو اضطر لذلك وقلبه مطمئن بالايمان : ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الأحزاب 5 )(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( النحل 119 )( مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( النحل 106 ) .
4 ـ ودائما .. صدق الله العظيم.!