تمهيد : تصحيح المفاهيم
(1) الزكاة ، الصدقة ، الإنفاق
مقدمة
1 ـ حيث يوجد الفقر في مجتمع ما تكون فيه الزكاة فريضة غائبة ، فالزكاة من أهم وسائل الإسلام في رخاء المجتمع والسمو به وتخليصه من أسوأ ما يبتلي به أي مجتمع وهي فئة المترفين ، فحيث يوجد المترفون في مجتمع يكون ذلك المجتمع مرشحا للانفجار من الداخل أو يأتيه الانفجار من الخارج ليقع منهارا أمام أى غزو خارجى.لذا فالزكاة هى الوجه الاجتماعي للإسلام، وهى إحدى الوسائل الإسلامية في إقامة المجتمع الفاضل وفي إقامة النفس "الزكية" وفي داخل كل إنسان ، فللزكاة دور اقتصادي إجتماعي كما أن لها دوراً أخلاقياً نفسياً.
2ـ والمسلم الذي يحرص على تأدية الزكاة وعلى تزكية النفس وتطهيرها دائماً يتسائل عن مقدار الزكاة الواجب عليه إخراجه ومتى يخرج زكاته وما الفرق بين الزكاة والصدقة والإنفاق. والفقهاء في تاريخ المسلمين إجتهدوا في الإجابة على هذه الأسئلة وإمتلأ بها باب الزكاة في الفقه السنى و الشيعى وغيرهما.
3 ـ ولأن الزكاة أكثر أبواب الفقه ارتباطاً بحركة المجتمع ودرجة تطوره فإن الكتابات عن الزكاة وتطبيقاتها قد تعبر عن العصر الذي تكتب فيه، ومن يحاول في عصرنا أن يقرأ عن الزكاة ومقدارها في كتب التراث سيفاجأ بمكاييل وموازين وعملات وعبارات وإصطلاحات لم تعد معروفة في عصرنا ، كما أن مفردات حياتنا العصرية الاقتصادية والمالية لن نجد حكماً فقهيا في كتب التراث، هذا بالإضافة إلى ما إمتلأت به كتب الفقه من اختلافات وتفريعات واستطرادات وتعقيدات لا يصبر عليها القاريء المتعجل الذي يبحث عن الإجابة العملية العصرية لأسئلته..
4 ـ ونبدأ بتصحيح المفاهيم وفقا للقرآن الكريم.
أولا : مقاربة لمفهوم الزكاة..
1ـ أصل معني الزكاة : التطهر والسمو والتقوى ، يقول تعالي فيمن يمدح نفسه ( فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)(النجم 32)،ويقول تعالي في وصف النبي يحيى ( وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا )(مريم 13)، أي أن الله زكّاه أو ربّاه علي التقوى، ويقول عن عيسى ( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا ) ( مريم 19) ،أي تقيا طاهرا ساميا.
2 ـ والتزكية بمعني التقوى تبدأ بالنفس فمن أخذ نفسه بالتقوى فقد سما بها وطهرها . لأن الله تعالي خلق النفس البشرية قابلة للفجور والتقوى ، ثم يقوم المؤمن إذا أفلح بتزكية نفسه أي بتربيتها علي التقوى( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا )(الشمس 7 : 10)
3 ـ وهذا الذي أفلح في تزكية نفسه فى الدنيا يكون مصيره فى الآخرة إلى الجنة ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)(النازعات 40 ـ ) . وهكذا تكون المثوبة من الله لمن تزكى :(وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) ( فاطر 18).
الزكاة عموما تدل على التقوى وأداء كل العبادات:
المتقون فقط هم أصحاب الجنة. ومحروم من دخول الجنة من لم يزك نفسه بطاعة ربه كقوله تعالى : ( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) ( فصلت 6 ). فكلمة الزكاة هنا تشمل كل العبادات وكل الطاعات وكل الأخلاق السامية وليس مجرد الزكاة المالية . وفى النهاية فإن الجنة هي مصير الذي يتزكى أى يكون مؤمنا قد عمل الصالحات فتزكى وتطهر ليليق بالجنة (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى )(طه 76)
وهناك وسائل للتقوى أو التزكية أشار إليها القرآن منها:
1 ـ ذكر الله وإقامة الصلاة: "( قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) ( الاعلى14 : 15)
2 ـ قراءة القرآن والعمل به "( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) ( الجمعة 2).
3 ـ الابتعاد عن الفحشاء "( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ )(النور30)
4 ـ ثم يكون إنفاق المال في سبيل الله زكاة وصدقة هي أشهر الطرق لتزكية النفس "( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ) ( التوبة 103) ، والذي يتصدق بماله في سبيل الله وحده يجني ثمرة ذلك زكاة في نفسه وسموا في خلقه: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ) ( الليل 17 : 18)، وبذلك تتحقق زكاة المال مع زكاة النفس.
5 ـ والصلاة ـ بما فيها من ذكر لله ـ مع زكاة المال من أهم وسائل تزكية النفس ، لذلك لابد أن يكون هناك ارتباط بين الصلاة والزكاة.
بين الصلاة والزكاة
1ـ الارتباط قائم بين الصلاة والزكاة في الرسالات السماوية.
• قال تعالي عن إسماعيل"( وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا )( مريم 55 )
• وعن اسحق ويعقوب والأسباط قال تعالي: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ ) ( الأنبياء 73).
• وطاعة الله تتحقق بطاعة الرسل أى طاعة الرسالة، أى طاعة الوحى الالهى الذى نزل على الرسل ، لذلك أمر الله تعالى موسى : (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى ) ( : النازعات 18) . أى كانت وظيفة موسى عليه السلام ـ وكل الرسل ـ هى الدعوة للتزكية و التطهر.
2 ـ وقد تشابه الميثاق الذي أخذه الله علي بني إسرائيل بالأوامر التي جاءت في القرآن فيما يخص إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرها من أوامر:
*يقول تعالي عن بني إسرائيل وبنود الميثاق الذي أخذه عليهم "( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ )( البقرة 83 ".
*وقال تعالي للمسلمين(وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)(النساء 36 ).وقال لهم ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)(الحج 8 ).
3 ـ وهذا الارتباط بين الصلاة والزكاة في الرسالات السماوية يدل على عموم فرضيتهما على كل البشر ، خصوصا وآيات القرآن تخاطب كل أبناء آدم كقوله تعالى ( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) .( المعارج 19 ـ).
ونفهم من الارتباط بين الصلاة والزكاة عدة أمور:
1ـ إن الزكاة التي يقدمها المؤمن ابتغاء وجه ربه الأعلى هي صلاة أو صلة خاصة بالله يغذيها شعور المؤمن بأن المال مال الله خوّله الله فيه ليعطي منه حق المحتاج ، وحين يعطي المحتاج حقه يسيطر علي ذهنه حب الله وحرصه علي دوام صلته بمولاه ، فهذه صلاة مالية يقدمها من ماله.
2ـ والصلاة هي زكاة الوقت أو العمر الذي حدده الله لإنسان في هذه الدنيا ، ولو افترضنا أن المؤمن يصلي يوميا ما يعادل نصف الساعة في خمسة فروض ، فإنه يزكي عن الأربع والعشرين ساعة بما يساوي 84/1 من اليوم . وهو قريب من أقل حدود الزكاة التي قال بها الفقهاء ، فالصلاة زكاة الوقت أو العمر والزكاة في المال طهارة وصلة بالمولي العظيم.
3ـ والصلاة كانت علي المؤمنين كتابا موقوتا لابد من تأديتها في أوقاتها اليومية، وكذلك الزكاة والصدقة ، على المؤمن القادر أن ينفق كل يوم ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(البقرة 274 ).
4ـ وكما في الصلاة نوافل وقيام للّيل فإن في الزكاة صدقات تطوعية . والصدقة قد تكون تطوعا بالمال للمحتاج ، وقد تتنوع لتشمل حسن التعامل بين المؤمن والمحيطين به.
ثانيا : الصدقة:
بين الصدقة والزكاة:
1ـ الزكاة ـ قرآنيا ـ إلزام أخلاقى وسلوكى عام يلتزم به المؤمن القادر الحريص على رضا ربه جل وعلا ، والتعبير عن هذا الالتزام ماليا هو ( الزكاة المالية ) طبقا لما نعرفه فى مصطلحات التراث والشائع عندنا.
(الصدقة ) و(الانفاق )هى المعنى المقصود بالزكاة المالية ،أى إنك عندما تعطى زكاة مالك فأنت تعطى ( الصدقة ) أو (تنفق ) طبقا لأوامر الله جل وعلا.
2 ـ (الصدقة ) من ( الصدق ) فى التعامل مع الناس ومع رب الناس جل وعلا ، وبهذه الصفة العامة فإن ( الصدقة ) أعم من مجرد إعطاء المال ، أو مجرد ( الزكاة المالية ) ،لأن هناك ظروفا أخري لإيتاء الصدقة أشار إليها القرآن تثبت أن ( الصدقة) ـ من الصدق فى التعامل ـ هي أكثر تنوعا من الزكاة المالية ، كما يتضح من أنواعها الآتية:
2/ 1ـ في البيع والشراء : تكون الصدقة فيهما سماحا ووفاء بالكيل أو ما في معناه ، فقد قال أخوة يوسف له :( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين) ( يوسف 88 ).
2/ 2ـ في مهر الزوجة : يسميه القرآن " الصداق " وهو نفس الأصل اللغوي للصدقة .. وفيه إشارة إلى مراعاة جانب الله في تقدير المهر ، والقرآن يشير إلى إمكانية تنازل الزوجة عن جزء من مهرها لزوجها نوعا من الصدقة والوئام بين الزوجين "( وَآتُواْ النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا).( النساء 4 ).
2/3 ـ في القصاص والدية : بالتنازل عن القصاص أو بالتنازل عن الدية أو بعضها ، يقول جل وعلا : ("وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ)( المائدة 45 )، أى من تصدق بالعفو فجائزته عند الله جل وعلا التكفير عن سيئاته . ويقول جل وعلا فى دية المؤمن المقتول خطأ :( "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ)( النساء 92 ) وقال الله جل وعلا (إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ )وتركها مفتوحة أي يتصدقون بكل الدية أو ببعضها.
2/ 4ـ في الدين : إذا كان المدين معسرا فللدائن أن يتصدق عليه بالتنازل عن الدين أو بعضه (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة 280) وتركها القرآن مفتوحة فقال "( وَأَن تَصَدَّقُواْ ) أي التصدق بكل الدين أو ببعضه.
2/ 5 ـ في فدية الصوم : لمن يتعبه الصوم أن يفطر ويقدم فدية : طعام مسكين: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )( البقرة 184 ) ، وقوله تعالى: ( فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ) جاء عاما لمن تطوع بالصيام مع العذر وتطوع بالفدية أو زاد علي قدر الفدية بإطعام أكثر من مسكين ومن تطوع خيرا فهو في النهاية خير له. والتطوع هنا يعنى (الصدقة ) لأنه تطوع قائم على الصدق مع الله جل وعلا.
2/ 6 ـ في الفدية في الحج إذا حلق رأسه وهو محرم بالحج فعليه فدية "( وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)(البقرة 196)، ولم يحددها القرآن بل تركها مفتوحة ووصفها بالصدقة للحث علي زيادة التطوع بالفضل.
2/ 7 ـ في التوبة من الذنب : يقو تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبة 102 ـ ).
وبعد موت خاتم النبيين فالله جل وعلا هو الذي يقبل التوبة عن عباده وهو الذي يأخذ الصدقات . وكلنا خلط عملا صالحا وآخر سيئا ولديه أمل في عفو التواب الرحيم . والله جل وعلا يجعل من تقديم الصدقة المالية مع التوبة طريقا للتطهير والتزكية ليربطها بالزكاة ، ودليلا على صدق التوبة،أما إذا استمر أحدنا علي المعصية وقدم صدقات فإنه قد استخدم مال الله في تبرير عصيانه لله ، والآية تقدم التوبة في البداية ثم تجعل الصدقة عاملا مساعدا في قبولها.
ثالثا : الإنفاق:
بين الإنفاق والزكاة:
كما أن الصدقة تأتى عامة ، ثم تتخصص فى إعطاء المال ، وكما أن الزكاة تأتى عامة ثم تتخصص فى تزكية المال وصاحبه بإنفاقه فى سبيل الله وفق شرع الله، فكذلك الانفاق يتنوع عموما ، ثم يتخصص ليكون مرادفا للزكاة المالية والصدقة المالية.ونعطى بعض التوضيح:
1 ـ هناك إنفاق جائز للمال في الاستثمار كالزراعة ذكره القرآن في قصة صاحب الجنتين يقول تعالى عنه (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا)(الكهف 42) .
2 ـ وهناك إنفاق واجب وفرض ، مثل المهر أو الصداق ، يقول القرآن عن صداق الزوجة (وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا)(الممتحنة10 ). وقوامة الرجل على زوجته تنبع من قدرته على الإنفاق عليها: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (النساء 34 ).ومثل الانفاق على الزوجة المطلقة وهى فى عدتها فى بيت الزوجية (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) ( الطلاق 6: 7 ).
3 ـ وكما أن هناك الجائز من الإنفاق هناك إنفاق يحارب الله تعالى ، يقول المولى جل وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً )(الأنفال 36 ).
وهناك إنفاق على الفقراء ولكن يقصد به الرياء ولا يقصد به وجه الله تعالى يقول عنه القرآن: (وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قَرِينًا )( النساء 38).
4 ـ وندخل على الإنفاق بمعنى الصدقة في سبيل الله تعالى ، وهو نوعان : الإنفاق في الجهاد والإنفاق على المحتاجين..
4 / 1 :يقول تعالى عن الإنفاق في الجهاد: ("وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) (الأنفال 60).
وأحكام الزكاة المالية أو الصدقة المالية جاءت تستعمل مصطلح ( الإنفاق )، فالإنفاق على المحتاجين أنواع:
4 / 2 يكون أحيانا صدقة فردية لها مستحقوها يقول تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )(البقرة 215).
5 ـ ولهذا الإنفاق نسبة محددة يحددها المؤمن بنفسه حسب داخله واحتياجاته ومسئولياته وتدور فى إطار الاعتدال والتوسط : (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) (الفرقان 67).
5 ـ وله شروط وآداب:
5 / 1 :أن يكون من مال حلال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ )(البقرة 267").
5 / 2 : وأن يبتغى به وجه الله تعالى دون منّ ولا أذى للمحتاج: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (البقرة 262).
5 / 3 : وليس لذلك الأنفاق موعد محدد،بل هو فى كل وقت: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(البقرة 274) .
5 / 4 : والذي ينفق أمواله وفق أوامر الله تعالى فقد فاز بكونه من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كما يتضح من الآيات الكريمة.
6 ـ ونلاحظ أيضا:
6 /1 : قد يستخدم القرآن كلمة الإنفاق لتدل علي الصدقة والزكاة كما في قوله تعالي : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)( البقرة 3 )فطالما أتي الإنفاق مرادفا للصلاة والإيمان فهو إنفاق في سبيل الله.
6/ 2 : وقد يأتي التحديد بأنه إنفاق في سبيل الله كقوله تعالى : (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ )( محمد 38 )، ومثل قوله تعالي: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )( البقرة 261 ـ ) .
7 ـ إن الإنفاق المثمر هو ماكان في سبيل الله دفاعا عن دينه أو سدادا لحق المحتاج، والله تعالي يثيب المنفق في سبيل الله في الدنيا قبل الآخرة: (وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)( البقرة 272 ) (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ )(سبأ 39)
8 ـ لقد كان المنافقون في عصر النبي عليه السلام يمسكون أيديهم عن الزكاة والصدقة:(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ،ولذلك تكاثرت أموالهم واستغرقوا في التكاثر بالأموال والأولاد . ولكن الله تعالي جعل من عذابهم الدنيوي الشقاء في حياتهم بهذه الأموال وبأولئك الأولاد ، وقال للنبي عنهم : (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) (وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)(التوبة67 ،55 ،85).
وتتكرر القصة في عصرنا.
1 ـ فبعضنا يستغرق في جمع المال من حلال أو من حرام ولا يعطي حق المحتاج ، ويهتم فقط بتأمين مستقبل أولاده كما لو كان مسئولا عن مستقبلهم من دون الله .. وتكون النتيجة أنه انشغل عن أولاده بالمال دون أن يدري فضاع الأولاد بالمال والمخدرات والموبقات فخسرهم وخسر نفسه في الدنيا والآخرة.. خسرهم فى الدنيا بالضياع ، وخسر نفسه فى الاخرة بالعذاب الأبدى فى الجحيم ، حيث لا خروج ولا تخفيف ولا موت ،بل عذاب أبدى مستمر لا ينقطع.!
2 ـ وماذا يكسب الإنسان إذا خسر نفسه وأهله فى الدنيا والآخرة ؟: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)(الزمر 15) (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ) (الشورى 45).
3ـ ولكى لا يخسر المؤمن نفسه يوم القيامة عليه أن يقيم الزكاة ـ بمفهومها الشامل ـ واقعا حيا فى حياته وفى سلوكه وعقيدته ، وأن يقيمها واقعا حيا فى هذه الأرض ، طالما ظل حيا . لو فعل ذلك كسب نفسه و كسب مستقبله يوم القيامة.
إن لم يفعل فسيصرخ عند الاحتضار ـ حيث لا يسمعه أحد من البشر ـ يطلب من ملائكة الموت مهلة يحاول فيه إصلاح ما فات ، ولكن دون جدوى (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(المؤمنون 99 : 101 ). ولهذا حذّر الله جل وعلا المؤمنين من ساعة الاحتضار حين يتمنى أحدهم لو جاءته فرصة ليتصدق ويتزكى:(وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ( المنافقون 10 : 11).
4 ـ وقد يسخر بعضهم من هذه الآيات القرآنية ، ولكن سيعرف الحق عند الاحتضار حين يرى اليقين برؤية ملائكة الموت ،ويرى نفسه ـ أسيرا ـ يفارق جسده الى البرزخ فيندم حيث لا ينفع الندم ، وعندها سيعرف بالرؤية اليقينية معنى أهمله وتناساه فى حياته الدنيا ، إنه معنى (إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة).
هذا مع إن معنى (إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة ) واضح مقدما فى القرآن الكريم.
(2) معنى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
مقدمة
في أغلب ورودها جاءت كلمة الزكاة مرتبطة بإقامة الصلاة كقوله تعالى ("فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) ( التوبة 5 ،11 .والزكاة فى العرف السائد هي تقديم جزء من المال لله تعالى ، وأيضا فالصلاة هى تقديم جزء من الوقت لله تعالى نعبده فيه ، والهدف من الصلاة والزكاة هو التطهير ، تطهير الوقت وتطهير المال ، أو بمعنى آخر هو تطهير النفس..ومعروف أن إقامة الصلاة لا تعنى مجرد أداء الصلاة وإنما هي تعميق الصلة بالمولى جلا وعلا كى يخشاه المؤمن فى أثناء الصلاة وفيما بين الصلوات الخمس ، أي يكون المؤمن في حالة تقوى دائما .. وبذلك يطهر وقته ويطهر حياته وتنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ) ( العنكبوت 45 ). جعلنا الله تعالى ممن تزكى .
أولا : معنى اقامة الصلاة
1 ـ التطبيق العملى لاقامة الصلاة هو الجمع بين الخشوع فى الصلاة والمحافظة عليها.
فالصلاة تستلزم اثناء تأديتها خشوعا كما تستلزم تقوى ومحافظة على السلوك القويم فيما بين الصلوات الخمسة. أى أن يوم المؤمن المصلى ينقسم الى قسمين : قسم أصغر هو الدقائق التى يؤدى فيها الخمس صلوات الموزعة على أوقات اليقظة فى اليوم . والقسم الأكبر هو بقية الوقت الواقع بين تـأدية الصلوات الخمس ، وفى تلك الأوقات يجب المحافظة على الصلوات بالتقوى والالتزام الخلقى القويم.
2 ـ وهناك علاقة وثيقة بين الخشوع أثناء تأدية الصلاة والمحافظة على الصلاة بعد تأديتها بعدم الوقوع فى المعاصى بين الصلوات الخمس. فالخشوع أن يِؤكد المؤمن على اخلاصه فى كل كلمة يناجى بها ربه جل وعلا فى صلاته خصوصا وهو يقول فى كل ركعة فى الفاتحة " اهدنا الصراط المستقيم "، الخشوع هو الصدق فى مخاطبة رب العزة والاخلاص التام فى دعائه وعبادته. ولا يمكن أن تخشع فى صلاتك بهذا الشكل وانت تفعل الفحشاء وترتكب المعاصى بعد الصلاة وتصمم عليها اثناء الصلاة وبعدها و تصلى لربك وتقول له جل وعلا : اهدنا الصراط المستقيم. اّذا فعلت هذه فانما ترائى الناس ولا تخدع سوى نفسك.
اقامة الصلاة هو المصطلح القرآنى الذى يعنى الخشوع فى الصلاة والمحافظة عليها معا.
3 ـ وهذا يؤكد ان الصلاة مجرد وسيلة لغاية أسمى هى التقوى،أو الابتعاد عن الفحشاء والمنكر. على هذا الأساس نستطيع أن نقرأ معا الآيات الأولى من سورة المؤمنون فى ضوء ما سبق قوله عن الصلاة؛ الخشوع فيها والمحافظة عليها.( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون َالَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)وتكرر ذلك المعنى فى سورة المعارج (22-34).
4 ـ ونقيض المحافظة على الصلاة وإقامتها هو تضييعها ،أو تضييع الثمرة المرجوة منها ،أو تضييع ثوابها بأن تؤدى الصلاة وترتكب الفواحش وتعصى ، هنا لا عبرة بصلاتك ، فقد أضعتها مع أنك تصلى شكليا ومظهريا وحركيا ، ولكنها صلاة لا عبرة بها طالما لم تثمر فيك طاعة لله تعالى وتقوى وخشية منه. ومن اجل ذلك تقول الآية الكريمة توضح معنى اضاعة الصلاة عند الخلف الذى جاء بعد الانبياء (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) (مريم59: 60(
ينطبق هذا على العرب قبل وأثناء نزول القرآن الكريم . كما ينطبق علينا بعد نزول القرآن الكريم . هم أضاعوا الصلاة حين اتبعوا الشهوات والمعاصى ومن تاب منهم وآمن ايمانا حقيقيا وعمل صالحا اصبح محافظا على صلاتة غير مضيع لها واستحق بذلك دخول الجنة. ينطبق هذا على الخلف الماضين كما ينطبق علينا الذين خلفنا اللاحقين ، ولذلك ذكر الله تعالى لنا هذه الحقائق فى آخر رسالة سماوية كى نعتبر ونهتدى. فهل إهتدينا ؟
5 ـ فى اللغة العربية والمصطلح القرآني تجد مفهوم " قام على الشىء" بمعنى حافظ عليه ورعاه.
5 / 1 : الله تعالى وصف ذاته باسم من اسمائه الحسنى هو " القيوم" الذى لا تدركه سنة ولا نوم :( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (البقرة 255)الآية الكريمة تشرح معنى القيوم، أى القائم على كل شىء والذى لا يغفل عن شىء.
5 / 2 : ويصف تعالى ذاته كقيوم يحفظ أعمال كل انسان وأقواله ليحاسبه عليها يوم القيامة فيقول : (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) الرعد 33) القيوم هنا بمعنى الذى يحفظ أعمال كل انسان ، يتم ذلك عن طريق ملائكة الحفظ (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) الرعد 11 ) (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) الانفطار 10 -) ( أيضا سورة ق :16- )
5 / 3 : لذلك يأمرنا ربنا جل وعلا أن نكون ( قوامين بالقسط ) اى قائمين على رعاية العدل والقسط :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ) النساء 135).
6 ـ ولأن العرب فى الجاهلية وقريش توارثت ملة ابراهيم بما فيها العبادات كالصلاة والزكاة و الصيام والحج فإن ( قريش) قبل وفى عهد النبوة كانت تصلى وتعرف الصلاة ولكن مع الوقوع فى الشرك وعبادة الأولياء و الانهماك فى العصيان و الفواحش ،أى كانوا يؤدون الصلاة ولكن لا يقيمون الصلاة ، ولأنهم من ذرية اسماعيل الذى وصفه رب العزة بأنه كان يأمر أهله بالصلاة و الزكاة وكان عند ربه مرضيا ( مريم 55) فقد قال جل وعلا عن ذرية اسماعيل ( العرب ومنهم قريش ) وذرية بقية الأنبياء من فرع اسحاق ويعقوب وغيرهم بأنهم أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات ، وتوعدهم بالعقاب إن لم يتوبوا ( مريم 59 ـ ) لذا نزلت الأوامر لهم فى مكة ليس بتأدية الصلاة أو بتعريفهم طريقة الصلاة ، لأنهم كانوا يعرفونها فعلا . الذى نزل لهم هو ما غفلوا عنه وهو اقامة الصلاة ، أى بالمحافظة عليها بعدم الوقوع فى الشرك والمعاصى والخشوع أثناء تأديتها.
7 ـ فى مكة جاء الأمر باقامة الصلاة ، يقول جل وعلا لخاتم النبيين :(إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ )(فاطر 18) أى من أقام الصلاة فقد تزكى وسما بنفسه لأن إقامة الصلاة تعنى تزكية النفس ، وثمرة تزكية النفس هى لصاحبها ، فمن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ،أى هى مسئولية شخصية.
ويقول جل وعلا (نَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) ( فاطر : 29 ) هنا يجعلها رب العزة قضية عامة لكل البشر و ليس لقريش وحدها ، فكل من قضى حياته يتلو كتاب الله ويقيم الصلاة وينفق المال سرا وعلانية مصيره الجنة ، فقد قام بتجارة رابحة مع الله جل وعلا.
ويقول رب العزة فى حديثه عن صفات المجتمع المؤمن (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )(الشورى 38) هنا تاتى فريضة الشورى بين فريضتى إقامة الصلاة وتقديم الزكاة المالية ، ويقول جل وعلا فى توضيح آخر للمجتمع المؤمن المتمسك بالفطرة السليمة :( مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )(الروم 31 ـ)، فالانابة الى الله جل وعلا طاعة وخشوعا وخشية وتقوى تستلزم إقامة الصلاة وليس مجرد تأدية حركية ظاهرية مرائية للصلاة ، ولو غابت إقامة الصلاة غاب معها توحد المؤمنين وأصبحوا طوائف ومللا ونحلا و مذاهب واحزاب ، كل حزب يكتفى بما معه ويعتقد أنه الذى على الحق و أن غيره على الباطل. وهذا بالضبط وصف لحال المسلمين الأمس واليوم..
هذه الآيات التى نزلت فى مكة ـ وغيرها ـ لم تعلم أهل مكة والعرب كيفية الصلاة لأنهم كانوا فعلا يعرفونها ويؤدونها . أمرتهم فقط بفعل ما لم يكونوا يفعلون ـ فى جاهليتهم ـ وهو اقامةالصلاة بالخشوع فيها والمحافظة عليها لكى تقوم الصلاة بدورها فى سمو السلوك الخلقى وتهذيبه. وسرعان ما عاد المسلمون الى ما كانت عليه قريش من تقديس البشر والحجر والتفرق فى الدين و تضييع الصلاة والزكاة ، مع المحافظة الشكلية المظهرية السطحية فى تأدية الصلاة . اى عادوا الى الجاهلية الخلقية و الدينية ، ولا يزالون...وانظر حولك .. وانظر للعالم المتحضر .. وقارن..
ثانيا : ايتاء الزكاة هى نفسها اقامة الصلاة
1 ـ للقرآن الكريم مصطلحاته الخاصة المخالفة لمفاهيم التراث الذى صنعه المسلمون بعد نزول القرآن بعدة قرون.اقامة الصلاة فى مصطلحات القرآن تعنى الخشوع فى أثناء الصلاة والتزام التقوى والسمو الخلقى بين الصلوات.لكن اقامة الصلاة فى حياتنا الدينية التراثية تعنى رفع الأذان للمصلين فى المسجد بأداء الصلاة بعد الأذان العام للصلاة. ويفهم معظم المسلمين – تبعا للفقه التراثى – ان ايتاء الزكاة هو اعطاء الصدقة فقط ، وبذلك يفهمون الأمر باقامة الصلاة وايتاء الزكاة على انه أمر بشيئين مختلفين هما الصلاة واعطاء الزكاء وهى عندهم لا تعنى سوى شىء واحد فقط هو اعطاء الصدقة للفقراء والمستحقين.
2 ـ طبقا لمفاهيم القرآن الكريم ومصطلحاته فان اقامة الصلاة هى نفسها ايتاء الزكاة ، أى أنه أمر واحد بشىء واحد هو التطهر والسمو الخلقى والتقوى. الخلاف الوحيد هو أن وسيلة اقامة الصلاة تتركز فى الخشوع فى الصلاة اثناء تأديتها - ثم بعد تأديتها تكون المحافظة عليها بالتزام السلوك القويم . أما الزكاة فهى تزكية النفس وتطهيرها والسمو بها بوسائل كثيرة من الصلاة والذكر لله تعالى واعطاء الصدقات وكل فعل صالح مقصود به وجه الله تعالى.
نبدأ توضيح ذلك باختصار :
2 / 1- ان الاسلام باختصار هو تزكية النفس بالعقيدة الصحيحة والسلوك القويم ، لذلك فان موسى حين دعا فرعون للاسلام قال له كلمة واحدة : (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ) النازعات 18 ) بل ان رب العزة قد أوجز مفهوم المشرك بأنه الذى لم يقم بتزكية نفسه : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصلت 6-7 ) فالمشرك يضع كل همه فى الدنيا ويبيع من أجلها الآخرة. يرتكب كل المعاصى فى دنياه غافلا عن تزكية نفسه بالتقوى لذا ينتهى الى الجحيم.
لقد خلق الله تعالى النفس الانسانية على أساس الفجور والتقوى ، تقبل أن تكون تقية أو فاجرة، ثم يختار الانسان بارادته طريقه ، ان اراد الهداية قام بتزكية نفسه ، وان أراد الفجور سقط بنفسه الى مستنقع الغواية. اذن فالانسان يختار بين اثنين : تزكية نفسه أى تطهيرها والسمو بها ، أو الهبوط بنفسه الى حضيض الرذيلة. وليس هناك من طريق وسط . المهم هنا أن الزكاة للنفس تعنى السمو بها. اقرأ هذا المعنى فى قوله تعالى :" وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا " الشمس 7- )
2 / 2 - ولذلك فان الهداية للحق من معانى الزكاة . والهداية هى اختيار شخصى يبدأ باختيار الانسان لنفسه طريق الهداية ثم تأتيه هداية الله له تؤكد ما اختاره لنفسه. والهداية كالزكاة هى عملية تطهير للنفس من الأحقاد والشرور وتقديس غير الله تعالى. ومن اهتدى فقد اهتدى لنفسه حسبما قال رب العزة :" مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) الاسراء 15 ) وبالمثل فان من يتزكى أى يتطهر فانما يتزكى لنفسه (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ) فاطر 18)وفى النهاية فان الجنة هى مكافأة من تزكى وتطهر فى الدنيا أو اهتدى ، يقول تعالى (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ) طه 76).
ان وظيفة النبى هى أن يزكى قومه بالكتاب السماوى الذى يدعوهم اليه، أو يهديهم اليه ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ . ) البقرة 151 ) وتكررت التزكية كوظيفة للنبوة القائمة على الكتاب فى مواضع أخرى فى القرآن الكريم : (البقرة 129 – آل عمران 164 – الجمعة 2).
ولارتباط الهداية بالزكاة فقد وصف الله تعالى عيسى ويحيى عليهما السلام بالطهر والعفاف والسمو الخلقى، أى كان "غلاما زكيا " أو كان "زكيا" ( مريم: 19 ، 13) ..
2 / 3- هناك وسائل للزكاة ، بمعنى ان ايتاء الزكاة يعنى اختيار "أزكى " أو أطهر أو أسمى الخيارات وهى التشريعات القرآنية ،ومنها الاحسان فى التعامل مع الزوجة المطلقة( البقرة 232 ) وفى الاستئذان وفى غض البصر والعفاف الخلقى ( النور 28 ، 30 ) وتلك وسائل للوصول الى " ايتاء الزكاة " أو تزكية النفس التى هى الهدف الأعلى للمؤمن.
وهناك وسائل أخرى أشار اليها القرآن مثل الصلاة وذكر الله تعالى ، ومعروف ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر- أو يجب أن تكون كذلك – وكذلك ذكر الله تعالى بمعنى تعظيمه وتقواه . (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) المجادلة 45) وكذلك من وسائل التزكية – أو ايتاء الزكاة - الصلاة وذكر الله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) الأعلى 14-15 ) ومنها خشية الله تعالى واقامة الصلاة (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) فاطر 18.
وأخيرا منها اعطاء الصدقة المالية فالمؤمن المفلح فى الآخرة هو (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ) الليل 18 ) ولذلك أمر الله تعالى خاتم النبيين بأن يأخذ صدقة من المؤمنين ليتطهروا ويتزكوا :(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) التوبة 103. .
اذن فايتاء الصدقة هى مجرد وسيلة من وسائل ايتاء الزكاة ، لأن الزكاة هى التطهر القلبى والسلوكى الذى يجعل المؤمن طاهرا مستحقا للجنة.
كان انتهاء المهلة هو انقضاء الأشهر الحرم .واعتبر رب العزة كفهم وتوبتهم عن الاعتداء اقامة للصلاة وايتاء للزكاة : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) التوبة 4-5 ).. (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) التوبة 10 -11).
ان اقلاعهم عن الاعتداء والظلم هو ـ بحسب الظاهر ـ اقامة الصلاة وايتاء الزكاة . وهذا هو المقياس البشرى الذى نستطيع الحكم عليه. فلا نستطيع مثلا أن نعرف ان كان الله تعالى سيقبل صلاتهم وصدقاتهم أم لا ، ولا نستطيع أن نعرف اذا كانوا يخشعون فى صلاتهم أم يراءون الناس. ليس ذلك لنا ولا نملكه. الذى نملك الحكم عليه فقط هو سلوكهم الخارجى ، هل هم مسالمون أم معتدون، هل هم ابرياء ام مجرمون ، فالمسالم الذى لا يظلم احدا – فى رؤيتنا البشرية الظاهرية - هو المقيم للصلاة وهو الذى يؤتى الزكاة حتى لو لم يكن يصلى ولا يدخل المسجد أصلا. والفاجر الظالم عندنا هو الذى يضيع الصلاة مهما كان مصليا ، ومهما اتسعت علامات السجود على جبهته.
ونلفت النظر هنا الى أن المؤمنين من أصحاب النبى محمد فى حياته كانت جباههم تعلوها علامات السجود من كثرة صلاتهم ،أى كانوا من حيث المظهر مسالمين ومقيمين للصلاة ومؤتين للزكاة ، ولكن الله جل وعلا حكم بأنهم ليسوا جميعا من أصحاب الجنة ، فقال عن صفاتهم الظاهرة (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) وقال عن مصيرهم فى الآخرة (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا )(الفتح 29 ) فالذين آمنوا فعلا و عملوا الصالحات فعلا لم يكونوا كل أولئك الذين حول خاتم المرسلين ، لذا جاء الوعد للمؤمنين الصالحين فقط منهم ، ولم يقل رب العزة حسب السياق اللغوى ( وعدهم الله مغفرة و أجرا عظيما)..
ونعود لآيتى سورة التوبة:(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) التوبة 4-5 ).. (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )(التوبة 10 -11 )، ونقرر أنه لا شأن لاعطاء الصدقة هنا بايتاء الزكاة المذكور فى الآيتين الكريمتين من سورة التوبة ، فايتاء الزكاة هو التطهر والسمو الخلقى . الدليل ان الدولة الاسلامية ليس لها ان تفرض على الناس تأدية الصلوات الخمس ، وليس لها أن تجمع الصدقات من الناس بالقوة والارغام ، اذ لا اكراه فى الدين – أى لا إكراه فى دخول الدين أو فى الخروج منه ، كما لا إكراه فى تأدية شعائره من صلاة وصيام وحج وصدقات وقراءة للقرآن وقيام لليل وتسبيح للمولى عز وجل. كل ذلك هى حقوق الله تعالى علينا ، وعلينا بدافع من التقوى أن نفعلها ابتغاء مرضاة الله تعالى وليس خوفا من السلطان أو مراءاة للناس.
وقد كان المنافقون فى عهد النبى عليه السلام يؤدون الصلاة ولا يقيمونها ، أى يتظاهرون بالصلاة رياء ونفاقا، لذا لم يقبلها الله تعالى منهم واعتبرها خداعا ليس لله تعالى وانما لأنفسهم (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ) النساء 142 ). أولئك المنافقون أيضا كانوا يعطون الصدقات متطوعيم لستر حالهم ، ولكن مع حقد شديد ، ولأن الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور فقد أخبر عن مكنون قلوبهم ومنع النبى أن يأخذ منهم صدقاتهم : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ) التوبة 53 – 54)..
فى ضوء هذا التوضيح القرآنى فان النبى محمدا عليه السلام لم يرغم الناس على اعطاء الصدقات ولم يرغمهم على تأدية الصلوات وسائر حقوق الرحمن. أما حقوق العباد – أو حقوق الانسان – فلا بد من حفظها والزام الناس باحترامها، لذا هناك عقوبات للقتل والزنا والقذف وقطع الطريق.
ولذلك فان المشركين المعتدين حين نقضوا العهود وأغاروا على المسلمين المسالمين أوجب الله تعالى قتالهم حفظا للحقوق البشرية، وجعل مقياس الطاعة هو الكف عن الاعتداء والتزام السلام.
ووفقا لمصطلحات القرآن التى غفل عنها أئمة التراث فان الاسلام له معنيان:
1- " السلام " أو المسالمة ، وهو هنا معنى سلوكى يستطيع أن يحكم عليه البشر حسب الظاهر فى التعامل مع الناس ، فكل انسان مسالم فهو مسلم بغض النظر عن عقيدته ودينه ، وليس لأحد أن يحكم على عقيدة أحد أو درجة ما فى قلبه من اخلاص أو رياء او نفاق أو اشراك. مرجع ذلك لله تعالى وحده يوم القيامة.
2- الاستسلام لله تعالى والانقياد له وحده : هذا هو الاسلام فى معناه القلبى العقيدى فى التعامل مع الله تعالى . انه استسلام لله جل وعلا فى العقيدة فلا اله الا الله ، وفى السلوك بالطاعة المطلقة له تعالى وبتقواه وحده لا شريك له . وهذا ما سيظهر فيه الحكم على كل منا يوم القيامة حيث سيحكم علينا الواحد القهار الذى لا يخفى عليه شىء فى الأرض والسماء.
وطبقا لمعنى الاسلام الظاهرى فان الذى يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة هو كل انسان مسالم لا يعتدى على أحد ولا يظلم أحدا بغض النظر عن عقيدته أو صلاته . المهم ألا يعتدى على أحد أو لا يظلم أحدا.
الشرك أو الكفر معناهما واحد فى المصطلح القرآنى ( التوبة 1-2 -17 )( غافر 42 ) ولهما ايضا معنيان:
1-- سلوكى ظاهرى فى التعامل مع البشر ويستطيع ان يحكم عليه البشر، والكفر والشرك هنا يعنيان الاعتداء والظلم للبشر, ولذا تأتى من مرادفاتهما فى القرآن مصطلحات مماثلة مثل الظلم – الفسق – الاجرام – الاعتداء. كل من يرتكب جرائم القتل ويظلم الناس ويستحل دماءهم فهو مشرك كافر حسب سلوكه ، ولا شأن هنا بعقيدته. وعلى هذا الأساس تأتى تشريعات القرآن الكريم فى التعامل الظاهرى مع المشركين فى الزواج وفى الموالاة مثلا، فلا تتحدث عن شركهم العقيدى وانما السلوكى الذى يمكن لنا أن نحكم عليه حسب تصرفاتهم العدوانية .( البقرة221 ) ( الممتحنة 1- 13 ) من المكن ان تصف بالكفر والشرك اسامة بن لادن ومن هم على شاكلته ممن يقتلون الابرياء ويعتدون على من لم يعتدى عليهم– طالما لم يتوبوا.
2- الشرك بالمعنى العقيدى اى اتخاذ أولياء وآلهة مع الله تعالى وتقديس البشر والشجر والحجر. وهذه عادة سيئة يقع فيها المسلمون وغيرهم ، مع ادعاء معظمهم بالايمان القويم ، لذلك فان الذى سيحكم على الناس جميعا هو الله تعالى يوم القيامة, اذ أنه ليس لهذا الشرك العقيدى عقوبة فى الدنيا اكتفاء بالخلود فى النار يوم القيامة . الله تعالى – وهو الأعلم بالقلوب – أكد فى القرآن أن اغلبية البشر يقعون فى الشرك العقيدى وانهم لا يؤمنون بالله تعالى الا وهم مشركون . ( يوسف 103- 106 ) لذا فان الفصل فى هذا الموضوع هو لله تعالى يوم القيامة ، وذلك ما تردد فى عشرات الآيات القرآنية. عندها – يوم القيامة – سيدخل الجنة الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فى سلوكهم السامى الظاهرى وفى عقيدتهم الصحيحة معا.
الفصل الأول
دورالزكاة المالية ( الصدقة ) فى تزكية النفس عقيديا ( 3)
مقدمة:
1 ـ تعرضنا فيما سبق لمفهوم الزكاة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأنها تعنى التزكية للنفس والسمو بها ،وأن تأدية الصلاة وإعطاء الصدقة هى مجرد وسائل للتزكية، لأن التزكية هى المقصد الأصيل فى تشريع الصلاة والصدقة.وهنا نستشهد بقول يقول رب العزة عن الزكاة المالية ودورها:(وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى)(الليل 15 :21 ) أى سينجو من عذاب النار ذلك المتقى الذى كان فى الدنيا يؤتى المال وينفقه تزكية لنفسه يبتغى به وجه ربه جل وعلا ، ولذا لا يلتفت الى رد الفعل من الناس ، ولا يعتقد أن باعطائه المال له فضل أو منّة على أحد ، و أنه ليس صاحب فضل أو نعمة على من يأخذ منه المال ، فكل ما يريده هو رضى الله جل وعلا عليه ، ولذلك سينعم هذا المتقى فى الآخرة برضى ربه عنه ، وسيرضى بمقام النعيم فى الجنة.
2 ـ واقع الأمر أن للزكاة المالية ( الصدقة ) دورا فى السمو بعقيدة المؤمن ، كما أنها الأساس فى السمو بأخلاقه ، كما أنها هى الأساس فى تشريعات الصدقة أو ( الزكاة المالية ) . وكلها تتداخل مع بعضها بحيث يصعب ـ أحيانا ـ الفصل بينها.
ومن خلال التزكية نفهم التشريعات القرآنية عن الزكاة المالية أو الصدقة ، واختلافها عن تشريعات (الزكاة ) فى الدين الأرضى السّنى.ونتوقف هنا مع بعض ملامح التزكية العقيدية كأساس فى الزكاة المالية ،أو الصدقة.
أولا : الايمان بأن المال مال الله جل وعلا:
1 ـ وتفسير ذلك هو أن الله جل وعلا هو الرزاق ، وهو صاحب المال فى الأصل ، فأنت حين تنفق فأنت لا تنفق من مالك ولكن من مال الله الذى أعطاه لك (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) ( النور 33 ) والمؤمن يجعل ذلك فى حسبانه ، ويعرف أنه ليس المالك الحقيقى للمال ، بل هو مستخلف فى ذلك المال الذى أعطاه الله تعالى لك.
2 ـ والاستخلاف هنا يعنى المسئولية ، والمسئولية تعنى وجود أوامر مفروض تنفيذها ، فالذى استخلفك على هذا المال هو الذى أمرك بالانفاق منه (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد 7).
3 ـ والاستخلاف يعنى أيضا قدرة صاحب المال على عقابك بحرمانك من هذا المال طالما تسىء استخدامه ولا تدفع الحقوق التى عليك ، أى فالذى رزقك بهذا المال يستطيع ليس فقط حرمانك منه ، بل يستطيع أن يتحول ذلك المال الى محنة لك ، يظل معك ليؤرقك و يسلبك راحة البال ، ويعطيك كثرة الأمراض من ضغط الدم الى أمراض القلب و المعدة ، عدا الأمراض النفسية من القلق والتوتر والأمراض العصبية.
وفى النهاية فهذا المال إما أن تتركه بالموت ،أو أن يتركك بالخسارة ، وفيما بين هذا وذاك فأنت مسئول ومحاسب أمام الله جل وعلا عما أعطاك من رزق مالى أو عينى.
4 ـ وهكذا فهنا جانب عقيدى هو الايمان بأن المال مال الله جل وعلا ، وأنه استخلفنا فيه لنقوم بحقه ، ولنعطى حقه ، وفق التشريع الالهى فى إعطاء الصدقة أو الزكاة المالية.
ثانيا :إيمان البشر بالدنيا أم بالآخرة : أو : البشر وإرادة الدنيا أو إرادة الآخرة:
1 ـ كل إنسان يتمنى أن يكون ثريا مليونيرا ولا يرجو أبدا أن يكون فقيرا مملقا محتاجا ، ولكن توزيع الرزق بيد الله جل وعلا وحده ، ولا يستطيع إنسان أن يحقق كل ما يريده إلا بمشيئة الرحمن جل وعلا ، ولهذا يغتنى أناس ثم يفتقرون ، ويتحول فقراء الى أغنياء ، ولا يضمن أكبر بليونير فى العالم أن يظل هكذا الى نهاية العمر.واقع الأمر أننا نحن ـ البشر ـ يتخللنا المال ذاهبا وآتيا و العكس ، يتنقل بيننا سواء كان مال سائلا وارقاما فى أرصدة البنوك ،أو مجرد عملات ورقية ،أو كان ملكية عينية من أرض وعقارات نتوالى على تملكها ، ونموت ليرثها آخرون بعد أن كانت لمن كان قبلنا ، ثم فى النهاية نحن محاسبون ومؤاخذون ومساءلون عما فعلناه بهذا المال وبتلك (الأعراض ) العينية فترة حياتنا فى هذا العالم.
2 ـ ويتصارع البشر ـ أو معظمهم ـ فى سبيل الثروة ، ومن أجلها يتعاركون للوصول الى السلطة و النفوذ. والثروة و السلطة وجهان لعملة واحدة ، تؤدى إحداهما للأخرى ، فالضابط فى جهاز الشرطة يستغل نفوذه وسلطته ليجمع المال والعقارات ، والثرى يصل الى مجلس الشعب ليحصل على نفوذ ، به يحمى ثروته ويحصنها بال ويضاعفها.
وفى سبيل السلطة والثروة ترتفع شعارات للضحك على الذقون ، منها شعارات دينية أو قومية أو وطنية أو اجتماعية للتلاعب بعقول البسطاء و العوام و اللأغلبية الصامتة ، ولركوب ظهورهم لبلوغ الهدف الحقيقى وهو الثروة و السلطة.أسوأ وأحقر أولئك المخادعين هم من يخلط السياسة بالدين. !. وكما يقال فى أمريكا بكل بصراحة نحتاجها فى بلاد العرب و المسلمين:( كل شىء هو فى سبيل المال: It is all for money ) فالمال هو المقصود الأعظم لكل البشر إلا من هداهم الله جل وهلا و أرادوا الآخرة وعملوا لها وهم أحياء فى هذا العالم.
3 ـ وبالتالى فنحن هنا أمام تقسيم قرآنى للبشر فى هذه الناحية ، وهو تقسيم رائع وهام لم يأخذ حقه من التدبر برغم أهميته الاخلاقية والنفسية و برغم ما سيترتب عليه من خلود فى الجنة أو النار بغض النظر عن المسميات والألقاب و الشعارات.
3 / 1 : هناك من يريد الدنيا فقط ، يعمل لها ، وحتى لو صام وصلى وتبرع وتصدق فهو لأجل متاع هذه الدنيا وزخارفها من مال ومتعة وصحة وأولاد و جاه ، ولا وجود مطلقا للآخرة فى حساباته أو فى حسبانه ، يبذل فى سبيل الدنيا كل دقيقة فى صحوه ونهاره ،وعليها يغمض عينيه قبل النوم ويفتحهما عند اليقظة ، وفى سبيلها تتكون صداقاته وعداواته ومنافساته ورؤيته للدين والدنيا . عبد الدنيا هذا لن يحصل فيها إلا على الرزق المقدر له سلفا مهما ركض وقفز وجرى ، ومهما بكى وصرخ واشتكى ، فمثله بقية البشر من أغنياء وفقراء ، لا ينال أحدهم سوى الرزق المقرر له كثيرا أو قليلا.وعبد الدنيا لن يرضى بالمقدر له وسيظل يطمع فيما فى يد الآخرين ، غنيا كان أم فقيرا.ولكنه بهذا ( النصيب ) المقدر له فى الرزق من لدن الله جل وعلا لن يكون له فى الجنة نصيب مهما عمل من الصالحات لأنه لم يؤمن باليوم الآخر ولم يعمل له حسابا.
يقول جل وعلا : (مَّن كانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ) أى من كان يريد الدنيا العاجلة ،فإن الله جل وعلا يعجل له فيها رزقه حسب قوانيه هو جل وعلا (مَّن كانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيد. ). أى طبقا لارادة الله جل وعلا وطبقا لمشيئته هو يأتى الرزق وفيرا أو قليلا لهذا أو ذاك ، إختبارا لهذا أو ذاك . لا دخل هنا لايمان أو كفر ،أو للطاعة أو المعصية.
3 / 2 : يتعلق الأمر بشيئين : أولهما سبق قوله وهو مشيئة الرحمن وحده فى توزيع الرزق و التفاضل بين البشر فيه يبسطه لمن يشاء ، ويقلله لمن يشاء ، والآخر هو إرادة العبد ، هل هو عبد للدنيا لا يرى سواها أم هو عبد لله جل وعلا يؤمن أن الله جل وعلا خلقه وأعطاه حرية العبادة أختبارا له ، وأمره باخلاص العبادة له ، وقال له فى صراحة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) ( الذاريات 56 ـ ) وترك له حرية الطاعة أو المعصية.
إرادة الانسان هنا هى عقيدته ومدى إيمانه أو كفره ، وهو يتمتع بكامل حريته هنا ، ولادخل لايمانه أو كفره بحظه ونصيبه فى الرزق لأن الرزق أحد الحتميات الأربعة ( الميلاد و الموت والرزق و المصائب ) التى لا مجال للافلات منها ، ولا حساب عليها . الحساب فى حرية الانسان فى العقيدة وفى الطاعة و المعصية فى تعامله مع الناس ورب الناس جل وعلا. والذى أراد الدنيا ووجه وجهه نحوها سيأخذ رزقه المقدر و الحتمى فى الدنيا وفق مشيئة الله تعالى وارادته وقسمته ، ولكنه فى الآخرة ليس له إلا النار..
3 / 3 : قد يقال : ولكن هذا الشخص الذى أراد الدنيا قد عمل الصالحات من حج وصيام وتشييد للمساجد و دور للايتام و المستشفيات ، فكيف ينتهى به الحال الى الخلود فى النار؟..ونقول إنه طالما وجّه وجهه للدنيا وسعى سعيه للدنيا فقط فكل أعماله الصالحة لم تكن لوجه الله تعالى و لكن للرياء و الشهرة و الاستحواذ على رضا الناس ، والله جل وعلا لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا لوجهه دون أدنى ذرة من نفاق او رياء.
3 / 4 : وقد يقال ايضا : ولكن لا بد لأعماله الصالحة التى أراد بها الدنيا أن يكون لها مقابل . ونقول هذا صحيح فله أجر فى الدنيا مقابل عمله الصالح للدنيا ، والله تعالى وعده بأن يعطيه أجره فى الدنيا ، ويوفيه هذا الأجر فى الدنيا ، ولكن ينتظره أيضا الخلود فى النار ، يقول جل وعلا (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )( هود 15 : 16 )( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ) ( الشورى 20)...
4 هذا عمّن أراد الدنيا .. فماذا عمّن أراد الآخرة ؟ .
إرادة الآخرة ليس مجرد شعار يرفع ، ولكنه إيمان يؤكده سلوك ملتزم ،أى سعى فى الدنيا بالعمل الصالح والاخلاق الحميدة ينبغ من رغبة حقيقية تبتغى وجه الله جل وعلا فى كل تصرف ، دون اهتمام برضى الناس او سخطهم.
4 / 1 : هذا الذى يريد الآخرة ويسعى فى الدنيا من أجلها مؤمنا بالله تعالى و باليوم الآخر ، هو لا يتكاسل عن السعى للمعاش بل يسعى فى الدنيا فى جد واجتهاد مثل من أراد الدنيا ووجه وجهه نحوها . ولكن الفارق فى الايمان ؛ وفى المصير.وهذا الذى إختار الآخرة تسرى عليه أيضا نفس القوانين الحتمية فى الرزق ، فقد يكون فقيرا أو غنيا ، أو تقلب بين الفقر و الغنى شأن من أراد الدنيا ، ولكن الفارق فى الايمان وفى المصير.
4 / 2 : يقول جل وعلا عن هذا الصنف الآخر من البشر : (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ) هذا أراد الآخرة وسعى لها سعيها الصالح أى عمل الصالحات وهو مؤمن صحيح الايمان ، ولذلك سيكون سعيه مشكورا فى الآخرة بينما أحبط الله عمل عبد الدنيا فلن يغنى عنه شيئا.
ومع أن الله جل وعلا لم يجعل للايمان أو الكفر دخلا فى قوانين الرزق إلا إن الفارق هائل بين هذين النوعين من البشر ،وهذا الفارق مترتب على إرادة هذا الدنيا ، وإرادة ذاك الآخرة.
4 / 3 : ومن الطبيعى ان الفائز فى الآخرة هو الذى اختار الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ، موقنا ان هذه الدنيا التى تنتهى بالموت لا تستحق أن يقصر الانسان عليها إرادته وعمله ونيته و ايمانه.أما الآخر فقد غفل عن هذه الحقيقة البسيطة ولم يقتنع بما يراه حوله من موت ينتهى اليه الجميع ، ومال يتنقل بين أيدى هذا وذاك لا يدوم لأحد . وبذلك يكون مريد الآخرة قد فعل الأفضل لنفسه فاستحق بايمانه وعمله ان يفضله الله تعالى على مريد الدنيا ، يقول جل وعلا:(كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ) ( الاسراء 18 : 21).
4 / 4 : أى لمريد الآخرة تفضيل فى الدنيا بما يتمتع به من رضا وصبر وحلم وتوكل على الله جل وعلا و راحة بال ، عكس صريع الدنيا ومريدها ، ثم تأتى الآخرة بالجنة لمريد الآخرة وبالنار لمريد الدنيا.
5 : ما يخص موضوعنا هنا عن دور التزكية أن من يريد الآخرة يسعى فى الدنيا بما معه من مال يبغى به وجه الله جل وعلا ، يشترى به الآخرة لينجو من عذابها ، يقول رب العزة :(وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى)(الليل 15 :21) .
صدق الله العظيم.!!