عورة الجارية فى الدين السُنى والحنابلة العباسيون

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٠٧ - فبراير - ٢٠٢٣ ١٢:٠٠ صباحاً

عورة الجارية فى الدين السُنى والحنابلة العباسيون
القسم الثانى من الباب الثالث : التشريعات الاجتماعية
كتاب ( تشريعات المرأة بين الاسلام والدين السنى الذكورى)
عورة الجارية فى الدين السُنى والحنابلة العباسيون
أولا : عورة الجارية ..
1 ـ راجت تجارة الجواري في العصر العباسي ، وكان تثقيفهن بالآداب والعلوم من الصناعات الهامة وقتها ، إذ كان يؤتى بالجارية من آسيا وأوروبا فيتعهدها أمثال إسحاق الموصلي وغيره بالتعليم والتهذيب حتى يعلو ثمنها وتكون صالحة لقصور الخلفاء والأمراء والقواد . وكانت عصابات خطف الرقيق تنتقي أجمل البنات من أواسط آسيا وأواسط أوروبا ، ثم تتنقل البنات المخطوفات بعدها إلى تجار النخاسة واحداً بعد واحد إلى أن تصل إلى أسواق بغداد والعواصم الأخرى ، ومن الطبيعي أن يتذوقها أولئك جميعا من أفراد العصابة إلى التجار ، إلى ان تأتي إلى قصر الخلافة محنّكة ، فإذا حظيت عند الخليفة استطاعت ان تتحكم فى السلطة من وراء ستار ، ونلاحظ أن كل الخلفاء العباسيين أبناء جواري ماعدا السفاح والأمين .
2 ـ وكانت الجارية حين تُعرض للبيع فى السوق ــ كأى سلعة ـ تكون عارية تقريبا ؛ مكشوفة الصدر والذراعين ، وللمشتري حق التنقيب فيما تحت ملابسها بحجة التأكد من جودة (البضاعة) وعدم وجود عيوب فيها كالأمراض الجلدية وغيرها . والجاحظ في رسالة القيان أوضح أن تجارة الرقيق من التجارات التي يُحتاج فيها إلى التقليب في المُباع وعدَّ من صور التقليب في البضاعة المفاكهة بالحديث ووضع اليد هنا وهناك ..
3 ـ وأشهر جارية في الخلافة العباسية هي الخيزران التي تحكمت في الخليفة المهدي وفي ابنها الخليفة الهادي ، فلما اعترض على سلطانها قتلته ، ثم واصلت تحكمها في ابنها الخليفة الرشيد إلى ان ماتت ، ومن ذريتها كان كل الخلفاء العباسيين بعدها .
3 / 1 : وقد جيء بالخيزران امام المهدي ــ قبل ان يتولى الخلافة ــ وعرضت عليه للشراء ، ولما فحصها قال لها آسفاً : " يا جارية انك غاية المنى ، إلا ان خموشة في ساقيك "...!! ، فأسرعت تقول له : " يا مولانا إنك أحوج ما تكون إليهما ... لا تراهما "... .!! ، وهي عبارة جنسية مثيرة ودبلوماسية ، شديدة الدلالة على ذكائها "وخبرتها" . وكان من الطبيعي أن تهيج أعصاب المهدي ، فاشتراها ، وحظيت عنده .
3 / 2 ـ والذي حكى هذه الرواية هو هارون بن عبد الله بن المأمون ، أي أحد أحفاد الخيزران . ولو كان هناك حرج ما قال هذا عن جدته بعد موتها . أى إنه أمر من ( المعلوم بالضرورة ) فى الثقافة العباسية وقتها ، أى كان التقليب في جسد الجارية على رءوس الأشهاد في السوق عُرفا اجتماعيا في العصر العباسي وما بعده ، وتعرضت لهذه المهانة كل الجواري وعلى رءوسهن أمهات الخلفاء العباسيين ، قبل أن يبتسم الحظ لهن .
4 ـ وحين بدأ التقعيد الفقهي شفهيا وتحريرياً كان على الفقهاء التابعين للسلطة العثور على حل لهذه المشكلة ، ولن يكون ذلك إلا بالتوفيق بين نصوص القرآن الكريم وواقع العصر ، فالقرآن الكريم يأمر بغض البصر عن المحرمات ، إلا ان الفقهاء جعلوا ذلك محصوراً في النساء الحرائر دون الإماء أو الجواري. والقرآن الكريم يأمر بإدناء الجلباب حتى يستر جسد المرأة ليعرف الناس عفافها فلا يتعرض لها احد بالأذى ، ولكنهم حبكوا رواية رددها المفسرون أن الجواري كان لهن زي خاص ، وأن عمر بن الخطاب كان يضرب الجارية إذا ارتدت زي العفاف الذي ترتديه الحرائر ، وعلى ذلك فإن إدناء الجلباب ليستر الجسد هو تشريع خاص بالحرائر . ثم حدّد الفقهاء عورة الأمة او الجارية بأنها ما بين السُّرة والركبة ، أي مثل عورة الرجل ، وما فوق السُّرة من الصدر والكتفين والذراعين وما تحت الركبة من الساقين كله مباح للنظر والتقليب . وتراضى الجميع على هذا ، فالجواري ـ عادة ـ أجمل وأرشق وأكثر تنوعا حيث يؤتى بهن من كل أرجاء المعمورة ــ المعروفة ــ أما الحرائر فهن أقل جمالاً وأكثر بلادة وتخلفا ، لذا يكون من السهل تعبئتهن في أكياس الحجاب والنقاب ، وبعدها ينطلق الرجل على ساحات بيع الجواري فيتمتعون بالنظر وباللمس ، ومعهم فتوى الفقهاء بأن عورة الأمة ــ الجارية ــ مهما بلغ جمالها ــ كالرجل تماما ــ وعلى رأي المثل : يا دار ما دخلك شر ...!!
5 ـ والمضحك ــ أو المؤسف ــ ان هذه من المسائل القليلة التي اجمع عليها الفقهاء على اختلاف مشاربهم ، من حنابلة متشددين وفقهاء معتدلين ، بل قال ذلك الجاحظ المعتزلى المتحرر جداً ، وقال ذلك ابن تيمية المتشدد الذي يجعل وجه المرأة ــ الحرة ــ عورة ، وردد كل المفسرين نفس الرأي في قوله تعالى " يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ " . وتطوع بعضهم ــ في عصرنا الراهن ــ فأفتى بأن النساء الفقراء كالإماء والجواري في العصر العباسي ، وعلى ذلك فهو يحرمهن من حق التحجب إذ لسن أهلاً له .
ثانيا : الحنابلة العباسيون
1 ـ سبقنا كل الباحثين بإثبات أن الأديان الأرضية نبتت فى بيئة تاريخية ردّ فعل للظروف السياسية والاجتماعية .
2 ـ ومنها أن الحنابلة في استنكارهم لأحوال عصرهم سبكوا أحاديث في سياق اللعن والتكفير لكل ما لا يعجبهم وما يعجزون عن مقاومته أو مصادرته ، وفى طيّات تلك الأحاديث إستنكار للسُّلطة العباسية فى العصر العباسى الثانى حين سيطر القادة الأتراك على الخلافة العباسية من عهد المتوكل ، وكانوا مشهورين بقسوتهم وشراستهم ، ووصلت درجة سلطتهم على الخلفاء أن كانوا يعزلون بعضهم بعد أن يسملوا عينيه بالحديد المحمى لكى لا يصلح للخلافة ، وبعضهم مثل الخليفة المهتدى بالله قاومهم وحاربهم فتخلى عنه الجميع ومنهم الحنبلة فانهزم ، وقتله الأتراك قتلة شنيعة بعصر خصيتيه .
3 ـ هناك أيضا نساء القصور العباسية من الزوجات الحرائر ومن كانت جارية فأعتقها سيدها وتزوجها ، بالاضافة للجواري والمحظيات والوصيفات الحسناوات المملوكات للخلفاء والقادة الأتراك فى بغداد وفى الأقاليم التابعة للخلافة . وجميعهنّ كّنّ يلبسن أحسن (الموضات) في الزي وفي الزينة ، وتتخيلهن وقد خرجن فى المواكب بأحدث التسريحات يصفهن الحديث الحنبلى : (رءوسهن كأسنمة البخت) مثل سنم الجمل ، وهنّ كما يصف الحديث الحنبلى ( مائلات ) في دلال ( مميلات ) للقلوب والعقول . الحرائر منهن لا يتقيدن بتحديدات الفقهاء لما يجب ستره من بدن الحرة ، والجوارى لا يلتزمن بذلك لأنهن جواري ، (وعورة الجارية) تختلف عن (عورة الحرة) .
3 : على أن الحنابلة لم يتغير تشددهم الفقهى حين صار لهم نفوذ فى الشارع العباسى ، إذ إستغلوا هذا النفوذ فى مطاردة وإضطهاد من يخالفهم فى الرأى حتى لو كان أعظم فقيه ومؤرخ و ( مفسّر ) فى الدين السُنّى . ونقصد به ( محمد بن جرير الطبرى ) .
إنتشر الدين الحنبلى بين العوام ، وصاروا له جنودا ، وجدوا فى التعصب الحنبلى وسيلة للسيطرة والمشاركة فى السلطة ، طبقا لحديث ( من رأى منكرا فليغيره .. ) . وشهد العصر العباسي منذ القرن الرابع اشتباكات بين العوام والشرطة العباسية حول السيادة على الشارع العباسي ، والتاريخ العباسي يذكر طرفاً من هذا الصراع .
3 / 1 حاصر آلاف الحنابلة بيت ( الطبري ) وهو فى شيخوخته ، لأنه اختلف معهم فكريا فى بعض المسائل . وهو تحت الحصار ارسل لهم يعتذر فما قبلوا إعتذاره ، وظلت الحرب سجالاً بينهم وبين الشرطة العباسية وقائدها التركي نازوك ومعه عشرات الألوف من الجند ، يحاول انقاذ الطبري منهم ، فما استطاع ، وفي النهاية مات الطبري داخل منزله ، وقد استطاع الحنابلة ردم منزله بالحجارة ، ومنعوا دفنه خارج منزله .وكان زعماء الحنابلة في هذه الموقعة ابن الجصاص وابن عرفه والبياضي ثم ابوبكر بن أبي داوود ، وكان ذلك سنة 310هــ.
3 / 2 : ابن الجوزى الحنبلى ت 597 ، تحامل على الطبرى فى تايخ ( المنتظم ) ، تجاهل تفصيلات حصار الحنابلة له فى بيته ، قال فقط : ( توفي أبو جعفر الطبري وقت المغرب من عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلثمائة ودفن ) ( وقيل‏:‏ بل دفن ليلًا ولم يؤذن به أحد . أنه إنما أخفيت حاله لأن العامة اجتمعوا ومنعوا من دفنه بالنهار وادعوا عليه الرفض ( أى التشيع ) ثم ادعوا عليه الإلحاد ‏.‏ ) العوام هنا هم الحنابلة . ويعيب ابن الجوزى على الطبرى هجومه على الحنابلة ، يقول : ( كتب ابن جرير..‏:‏ " لا عصابة في الإسلام كهذه العصابة الخسيسة." وهذا قبيح منه لأنه كان ينبغي أن يخاصم من خاصمه وأما أن يذم طائفته جميعًا وهو يدري إلى من ينتسب فغاية في القبح ‏.‏).
3 / 3 : المؤرخ إبن الأثير ( ت 630 ) قال تحت عنوان ( ذكر وفاة محمّد بن جرير الطبريّ : ( وفي هذه السنة توفّي محمّد بن جرير الطبريُّ، صاحب التاريخ، ببغداد، ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين، ودفن ليلاً بداره، لأنّ العامّة اجتمعت، ومنعت من دفنه نهاراً، وادعو عليه الرفض ، ثمّ ادعوا عليه الإلحاد؛ وكان عليٌّ بن عيسى يقول :" والله لو سُئِل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه، ولا فهموه،.! " ، وهكذا ذكره ابن مِسكويه صاحب تجارب الأمم، وحُوشي ذلك الإمام عن مثل هذه الأشياء . وأمّا ما ذكره عن تعصّب العامّة، فليس الأمر كذلك، وأنّما بعض الحنابلة تعصّبوا عليه، ووقعوا فيه، فتبعهم غيرهم، ولذلك سبَب، وهو أنّ الطبريّ جمع كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء، لم يصنف مثله، ولم يذكر فيه أحمد بن حَنبَل، فقيل له في ذلك، فقال: لم يكن فقيهاً، وإنّما كان محدّثاً، فاشتدّ ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد، فشغبوا عليه، وقالوا ما أرادوا).. ( وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه ) .
3 / 4 : ويذكر المؤرخ خليل الصفدي ( ت 764 ) فى تاريخه ( الوافى بالوفيات ) أن الطبري حين قدم بغداد من طبرستان تعصب عليه ابن الجصاص وابن عرفة والبياضي وأثاروا عليه الطلبة، فسألوه في المسائل الخلافية ، ولما لم ترضهم إجابته رموه بمحابرهم ، وكانت ألوفاً فهرب منهم إلى داره فردموا داره بالحجارة، حتى صارت الحجارة على باب داره كالتل العظيم، وركب نازوك صاحب الشرطة ففرق الناس عن داره بعشرات الألوف من الجنود، واضطر الطبري للاعتكاف في داره وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم، ومات، وعثرواعلى ذلك الكتاب مدفوناً في التراب فأخرجوه ونسخوه بعد موته.
4 ـ ولعل نهاية الطبري تفسر لنا المناخ الذي نبتت فيه تلك الأحاديث ، وكيف سيطر الحنابلة على مجتمع العلماء ، بالإرهاب ، ومن ينقل عنهم يزيدون في شهرته ، حتى لو كان له متواضع العلم مثل إلاههم أحمد بن حنبل ، ومثل البخارى ومسلم . أما من يختلف معهم فهم يرمونه بالإلحاد ويحاولون اغتياله كما حدث مع الطبري اكبر فقيه سُنّى ، وقد عكف أربعين عاما في التأليف ، يكتب كل يوم أربعين ورقة ، ومع ذلك فإن تأثير الحنابلة هو الذي ارتفع بابن حنبل والبخاري ومسلم فوق الطبري ـ بل ارتفع بهما الى مرتبة القداسة، يكفى أن المؤرخ الحنبلى إبن الجوزى صنّف كتابا فى تأليه إين حنيل : بدعوى مناقبه ، بل رفعه فوق رب العزة جل وعلا.
ختاما
1 ـ عادت الحنبلية الى الظهور بالدولة السعودية الأولى ودينها الوهابى، وتأسست عام 1745 م) ، وأتم تدميرها محمد على باشا عام ( 1818 م) ، ولكن دينها الوهابى إستمر خلال إعادة تأسيسها ، ثم سقطت ، ثم أعاد تأسيسها عبد العزيز آل سعود خلال 1901 ، وأعطاها إسم أسرته عام 1932 . وأدى تحالفها مع أمريكا وثروتها البترولية الى نشر دينها الوهابى فى العالم باسم الاسلام . وظهرت تنظيمات سياسية ودعوية شتى أدخلت المحمديين والعالم فى مذابح ، تهون الى جانبها ما فعله سلفهم الحنابلة فى العصر العباسى .
2 ـ الأخطر من هذا أن حنابلة العصر العباسى لم يزعموا إمتلاك الاسلام . ولكن نجح الوهابيون فى جعل الجميع يسمونهم ( إسلاميين ) . وبهذا شوهوا الاسلام العظيم فى كل شىء ، ومنه تشريعات المرأة . كما يبدو من هذا الكتاب .
3 ـ ظهور ( أهل القرآن ) هو ردُّ فعل لهذا البهتان .
اجمالي القراءات 4111