أبو إسحاق الزجاج ( احترف صناعة الزجاج لكى يتعلم ( النحو ).!
آحمد صبحي منصور
في
السبت ١١ - ديسمبر - ٢٠٢١ ١٢:٠٠ صباحاً
أبو إسحاق الزجاج ( احترف صناعة الزجاج لكى يتعلم ( النحو ).!
لمحة عنه
1 ـ هو ( إبراهيم بن السري بن سهل ) المشهور بأبي إسحاق الزجاج ، أشهر عالم فى اللغة والأدب ، والمتوفى سنة 311 عن سبعين عاما . وقد حاز على تقدير عصره ، فوصفوا أبا إسحاق الزجاج بأنه كان من أهل الدين والفضل حسن الاعتقاد جميل المذهب . وهى أوصاف العصر عمّن تديّن بالدين السُّنى .
2 ـ وإذا قارنا بين الزجاج وغيره من العلماء في عصره وجدناه الأكثر شهرة والأكثر علما وتخصصا فى مجاله " النحو " بالإضافة إلى مؤلفاته الأخرى .
مؤلفاته :
1 ـ وكان له من المؤلفات :" المؤاخذات على الفصيح لثعلب " ، " الاشتقاق " ، " القوافي " ، " العروض "، " الفرق " ، " خلق الإنسان " ، " خلق الفرس " ، " مختصر النحو "،" فعلت و أفعلت "،" ما ينصرف وما لا ينصرف "،" شرح أبيات سيبويه "،" النوادر "،" معاني القرآن "، " ما فسر من جامع المنطق "،" الأنواء ".
2 ـ وواضح أنه كان موسوعيا . لم يقتصر على الكتابة في النحو وعلوم اللغة :
2 / 1 : كتب فى النقد والتعليق على أئمة النحو مثل " المؤاخذات على الفصيح لثعلب "، شرح أبيات سيبويه ".
2 / 2 : أوضح آراءه النحوية فى مؤلفات عامة مثل " مختصر النحو ".
2 / 3 : كتب فى جزئيات صرفية ونحوية بتفصيل وإفاضة مثل " الاشتقاق " ،" وفعلت و أفعلت " ، " ما ينصرف وما لا ينصرف " .
2 / 4 : كتب فى العروض كتابي "القوافي "، " العروض ".
2 / 5 : و كتب فى العلوم الأخرى: المنطق والتفسير والأدب والفرق الفلسفية والكلامية .
الزجاج بين حرفة صناعة الزجاج وعلم النحو واللغة
1 ـ هو نوع فريد من العلماء ، لم يتحرج من ممارسة حرفته لكى ينفق على نفسه ، بدأ من الصفر ، وكافح ، يعمل بيد في حرفة الزجاج ، وباليد الأخرى يطلب العلم ،الزجاج لم يكن مثل غيره يطلب العلم هربا من الحرفة ، وإنما استخدم كسبه من الحرفة لكي يعلم نفسه ، وظل يحترف صنع الزجاج وهو يتعلم "النحو" على يد " المبرد " عالم اللغة المشهور .
2 ـ ونستمع الى قصته مع استاذه المبرد
2 / 1 : يقول " كنت أخرط الزجاج فاشتهيت النحو ، فلزمت المبرد لتعلمه ، وكان لا يعلم مجانا ، ولا يعلم إلا بأجرة ، وأن تكون الأجرة على قدرها ، فقال لي : أى شيء صناعتك ؟ قلت : أخرط الزجاج وكسبي فى كل يوم درهم ونصف وأريد أن تبالغ فى تعليمي وأنا أعطيك كل يوم درهما ، وأشرط لك أنى أعطيك إياه أبدا إلى أن يفرق الموت بيننا سواء استغنيت عن التعليم أو احتجت إليه ".
2 / 2 : ويستمر الزجاج فى روايته فيقول إنه لازم المبرد يتعلم منه ويخدمه ويعطيه كل يوم درهما حتى وصل إلى مرحلة الاستقلال العلمي ، فطلب بعض الناس من المبرد أن يرشح لهم معلما لأولادهم يعلمهم النحو ، فطلب الزجاج من استاذه المبرد أن يرشحه لهم ، وبذلك تولى أول وظيفة وترك حرفة الزجاج وعمل معلما للنحو ، وظل على اتفاقه مع المبرد يبعث إليه كل شهر ثلاثين درهما ويخدمه كلما استطاع .
2 / 3 : ثم جاءت الفرصة الكبرى للزجاج حين طلب الوزير عبيد الله بن سليمان من المبرد أن يختار معلما يعلم ابنه القاسم بن عبيد الله بن سليمان ويؤدبه ، فقال له المبرد : لا أعرف لك إلا رجلا زجاجا يعلم أولاد بنى فلان ، وكتب المبرد إلى الزجاج فجاء ، وجعله يقوم بتأديب القاسم ابن الوزير ، وظل الزجاج على عهده مع المبرد من دفع الأجرة الشهرية له وخدمته حتى مات المبرد .
فى خدمة الوزير :
1 ـ وعمل الزجاج على توثيق صلته بتلميذه القاسم ،يستثمرها للمستقبل ، فقال له يوما : إن بلغك الله مبلغ أبيك ووليت الوزارة ماذا تصنع بي ؟ فقال له القاسم : ما أحببت . قال له الزجاج : تعطيني عشرين ألف دينار ، وكانت تلك أمنية الزجاج كما يقول ، فوافقه القاسم . ومرت الأيام وتولى القاسم الوزارة للخليفة المعتضد ، وكان الزجاج ملازما للقاسم ونديما له . ولما تولى القاسم الوزارة تردد الزجاج فى تذكيره بالوعد الذي كان بينهما .وكان القاسم في وزارته كما يصفه ابن طباطبا فى كتاب " الفخري في الآداب السلطانية " : " من دهاة العالم ومن أفضل الوزراء وكان شهما فاضلا لبيبا كريما مهيبا جبارا ". لذا لا نلوم الزجاج الذي كان نديم هذا الوزير يجالسه ويؤانسه ، ومع ذلك كان يهابه ويخشى من تذكيره بالوعد ، إلا أن الوزيرالقاسم ما لبث أن قال للزجاج : " يا أبا إسحاق لم أرك أذكرتني بالنذر ؟ " فقال الزجاج : " عولت على رعاية الوزير أيده الله " ، أي إعتمد على ذاكرة الوزير . فقال له الوزير : " يا أبا إسحاق إنّه المعتضد .!! "، وكان الخليفة المعتضد مُهابا شديد القسوة وكثير الشك ، وكان سهلا عليه قتل كبار قادته ورؤوس دولته ، وكان الوزير القاسم يخشاه ، ويخشى أنه إذا أعطى العشرين ألف دينار إلى الزجاج دفعة واحدة أن يحس الخليفة بذلك . فاخترع له حيلة ، إذ أجلسه على بابه يأخذ الشكاوى من الناس ويأخذ منهم الأموال ، وجعل له ما يحصل عليه من الأموال إلى أن يكتمل له مبلغ العشرين ألف دينار . وأباح له أن يشفع عنده فى كل صغيرة وكبيرة . وقام الزجاج بتلك الوظيفة ، وكان يحصل على توقيع الوزير على كل شكوى ، وكان الوزير يسأله : "كم أعطوك عن هذه ؟ " فيقول : " كذا " ، فيقول له الوزير : " قد خدعوك هذا يساوى كذا وكذا ".. وينصحه بالرجوع والاستزادة منهم ، فيفعل . وبذلك أتم الزجاج لنفسه المبلغ المطلوب في عدة شهور .
2 ــ ونتوقف مع الزجاج وهو يكمل قصته التى أوردها الخطيب البغدادي في موسوعته عن ( تاريخ بغداد ) وابن الجوزى فى ( تاريخ المنتظم ) ، يقول : " وعرضت عليه شيئا عظيما ، فحصلت عندي عشرين ألف دينار وأكثر منها ، فقال بعد شهور : " يا أبا إسحاق حصل مال النذر؟ فقلت: " لا " ، فسكت ، وكنت أعرض عليه الرقاع فيسألني فى كل شهر أو نحوه : " هل حصل المال ؟ " فأقول " لا ". خوفا من انقطاع الكسب ، إلى أن حصل عندي ضعف ذلك المال . وسألني يوما فاستحييت من الكذب المتصل ، فقلت : " قد حصل ذلك ببركة الوزير" ، فقال : " فرجت والله عنى فقد كنت مشغول القلب إلى أن يحصل ذلك "، ثم أخذ الدواة ووقع لي بثلاثة ألألف دينار صلة فأخذتها ، وامتنعت أن أعرض عليه شيئا ، فلما كان من الغد استدعاني لأعرض عليه الرقاع فقلت له : " ما أخذت من أحد رقعة ، لأن النذر قد وقع الوفاء به " فقال : " يا سبحان الله .! أتراني كنت أقطع عنك شيئا قد صار لك عادة وعلم به الناس وصارت لك به منزلة عندهم وجاه وصاروا يذهبون إلى دارك ويقفون على بابك وإذا اعتزلت العمل ظنوا أن جاهك عندي قد ضاع ؟؟ ولكن أعرض على الرقاع وخذ بلا حساب " ، فقبلت يده ، وباكرته من غد بالرقاع فكنت أعرض عليه كل يوم شيئا إلى أن مات " .
بين ابن الجوزى والزجاج
ويقول ابن الجوزى يعلق على هذه الواقعة : " رأيت كثيرا من أصحاب الحديث والعلم يقرأون هذه الحكاية ويتعجبون مستحسنين لهذا الفعل غافلين عما تحته من القبح ، وذلك أنه يجب على الولاة إيصال قصص المظلومين وأهل الحوائج ، فإقامة من يأخذ الأموال على هذا قبيح حرام . وهذا مما يؤخذ على الزجاج ، وهذا جهل منه بمعرفة حكم الشرع ، وإن كان يعرف فحكايته فى غاية القبح نعوذ بالله من قلة الفقه .."
ونقول تعقيبا على رأى ابن الجوزى
1 ـ ابن الجوزى يحكم على الزجاج بمنطق الفقهاء والزهاد من معارضي الدولة العباسية فى القرن الثاني الهجري ، أولئك الذين حرموا التعامل مع الدولة العباسية ، ووصلوا إلى الزهد فى الدنيا وطيباتها وانهمكوا فى البكاء ، وقد اندثر هذا الاتجاه، وظهر المذهب الواقعي الذي يسعى للتعامل مع الدولة هربا من الفقر والحرمان . وكان الزجاج أبرز من يعبر عن هذا الاتجاه ، وربما كان أحسن العلماء فيه خلقا مع ذلك ، وإن كان بالتأكيد أفضلهم علما وذكاء وتأليفا .
2 ـ ومن الممكن أن نقبل تلك الرواية التى تهاجم الزجاج لو كان الذي أصدرها سفيان الثوري أو الفضيل بن عياض من الفقهاء الزهاد فى القرن الثاني الهجري ، ولكننا لا نقبلها من ابن الجوزى فى القرن السادس الهجري ، وهو الذي ينتمي إلى نفس المدرسة الواقعية التى كان عليها الزجاج . وقد كان ابن الجوزى واسع الصلات بالخلفاء العباسيين فى عهده وكان له نفوذ ولم يكن بعيدا عن أموالهم ويبدو ذلك كثيرا بين سطور مؤلفاته .
يقول ابن الجوزى مثلا :
2 / 1 : فى حوادث سنة 571 " إنه تقدم إلىّ ( أي جاءه الأمر ب ) الجلوس تحت المنظرة الشرقية بباب بدر ، فتكلمت بكرة الخميس ثالث المحرم ، والخليفة حاضر ، وكان يوما مشهودا ، فأقبل الناس إلى المجلس من نصف الليل ، وكان الزحام شديدا زائدا على الحد ، وحضر أمير المؤمنين وفقه الله "..
2 / 2 : فى حوادث سنة 574 : " وكان يقول لي الوزير ما دخلت قط على الخليفة إلا جرى ذكر ابن الجوزى ، وصار لي خمس مدارس ، وهذا شيء ما رآه الحنابلة إلا فى زمني .. لم ير لواعظ قط مثل مجلس جمع الخليفة والوزير وصاحب المخزن وكبار العلماء ." وكان ذلك فى خلافة المستضيء العباسي الذي أكثر ابن الجوزى فى مدحه والإشادة به .
3 ـ هذا بينما لم يؤلف الزجاج أبدا في نفاق أولى الأمر .. وقد أهدى الزجاج إلى ميدان الاجتهاد النحوي عالما كبيرا من تلاميذه هو أبو على الفارسي .
4 ـ الذى يتميز به الزجّاج عن ابن الجوزى وغيره من الفقهاء إنه لم يكن منافقا . كان صريحا واضحا ، لم يتحرج من ذكر فقره ولجوئه الى حرفة الزجاج ، ولم يتحرج من ذكر خصوصياته مع الوزير القاسم . كان من الممكن أن يخفى هذا ويصطنع التقوى كما ساد في عصور التدين السطحى والاحتراف الدينى . ولم يلجأ الى الكذب ، بينما ملأ ابن الجوزى كتابه ( المنتظم ) بأكاذيب وافتراءات تحققنا من كذبه فيها ، حتى فيما كان ينقله عن المؤرخين السابقين كالطبرى وغيره . خطيئة ابن الجوزى الكبرى ( علميا ودينيا ) كانت في إخلاصه لدينه الحنبلى ، ويكفى ابن الجوزى ( الحنبلى ) عارا ما كتبه في مناقب ( احمد بن حنبل ) ، وهو ما يؤكد كفره بالله جل وعلا ، في منامات زعم في أحداها إن الله جل وعلا هبط الى قبر احمد بن حنبل .
نعود للزجّاج :
شعره وأخلاقه
1 ـ كانت للزجاج موهبة شعرية ساعدته على التأليف فى علم العروض ، وكان ينطق بالشعر فى المناسبات وحين تضطره الظروف .
2 ـ وما ورد إلينا من نوادر عنه يكشف عما كان فى أخلاقه من رفعة:
2 / 1 : كان سائرا فى شارع فى بغداد فألقى عليه الصبيان الماء ، فأخذ ينفض الماء عن ردائه وهو يقول :
إذ قل ماء الوجه قل حياؤه ولا خير فى وجه إذا قل ماؤه
2 / 2 : وحدثت خصومة بين الزجاج وبين أحد العلماء واسمه مسينة . وقام أعوان السوء بالوقيعة بينهما ، وأدى ذلك إلى أن قام الزجاج بشتم خصمه ، فكتب إليه خصمه قائلا :
أبى الزجاج إلا شتم عرضي لينفعه فأثمه وضره
وأقسم صادقا ما كان حرا ليطلق لفظه فى شتم حرة
ولو أنى كررت لفر منى ولكن للمنون على كره
فأصبح قد وقاه الله شرى ليوم لا وقاه الله شره
ووصل الشعر إلى الزجاج ، فقصده راجلا واعتذر إليه وسأله الصفح ..
رحمه الله جل وعلا .