ßÊÇÈ حق المرأة فى رئاسة الدولة الإسلامية :
المرأة تتصدر الحكومة بنفسها

في الخميس ١٩ - ديسمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 

ثالثا : المرأة تتصدر الحكومة بنفسها:

- كانت هيبة الخلافة العباسية الدينية تمنع تصدر المرأة للحكم بنفسها . حيث كان يتعين وجود الخليفة الذكر الذى يمثل الدين والسلطة الدينية الزمنية وفق مفاهيم العصور الوسطى.

وهذا القيد تحررت منه نظم الحكم القادمة من المشرق والتى سيطرت على الخلافة العباسية ، أو التى أنهت الدولة العباسية ، مثل السلاجقة والبويهيين ، ثم المغول . وفى هذه الدول أتيح لبعض النساء أن يتصدرن الحكم بأنفسهن سواء مع وجود سلطان كان يسمح بذلك أو فى خلو المقع∈عد من السلطان ونذكر بعض أمثلة سريعة..

2- الترنجان أم النوشران زوجة طغرلبك ، وكانت أم ولد ، أى جارية أنجبت للسلطان ولدا ، وكان السلطان طغرلبك السلجوقى سامعا لها مطيعا ، وكانت الأمور ترد إليها ، واشتهرت بالتدين والمعروف والصدقات ، وبالرأى والحزم والعقل . وقد توفيت سنة 452 فى جرجان ، وحزن عليها السلطان حزنا عظيما ، وحمل تابوتها معه إلى الرى فى إيران حيث دفنها . وقبل موتها أوصت زوجها بأن يزوج ابنته الخليفة العباسى ونفذ زوجها وصيتها. (الصفدى :الوافى بالوفيات 9/352 ،353 ).

3-وهذا يذكرنا بالأميرة المغولية بغداد خاتون بعد ذلك بثلاثة قرون ، حيث سيطر المغول  على العراق وإيران وتقاسموا مناطقها . وكانت الأميرة بغداد خاتون بنت الأمير جوبان ومتزوجة من الشيخ حسن ، إلا أن السلطان المغولى الناصر بوسعيد كان يحبها ويريدها. ولذلك حارب السلطان بوسعيد الأمير جوبان وهزمه وأنتزع بغداد خاتون من زوجها وتزوحها . وحتى يرضيها أطلق نفوذها فى مملكته التى تشمل العراق وأذربيجان وجزءاً من أسيا الصغرى ، وقامت بغداد خاتون بتدعيم هذا النفوذ فطردت على باشيا خال بوسعيد ، ولم يعترض بوسعيد على ما تفعل ، وترك لها كل شئون الحكم إلى أن مات ، فتولى أربكون مكانه ، فقتل الأميرة بغداد سنة736هجرية (الصفدى ،نفس المرجع 10 /175 ،1760).

4- ونعود إلى السلاجقة فى القرن الخامس الهجرى وتصدر المرأة  للسلطة هناك . ونقابل الأميرة خاتون أو صاحبة اصفهان كما يقول المؤرخون ، وهى تركان بنت طغراج الملك ، وترجع فى النسب إلى افراسياب ملك الفرس . وقالوا أنها كانت شهمة حازمة قادت الجيوش ، وكان فى خدمتها عشرة آلاف فارس ، وقد مات زوجها ملكشاه فقامت بتدبير الأمور وحفظت الأموال وقامت بتأمين الطرقات فلم يكن يضيع للتجار عقال بعير . وكانت تقود الحرب بنفسها ، وظلت تباشر شئونها بنفسها إلى أن ماتت مسمومة فى الطريق سنة 487. (الوافى ،نفس المرجع 10/381،المنتظم لابن الجوزى 17/140).

5- وبعدها بقرن تقريبا ولدت الأميرة الأيوبية صفية خاتون (581-640) وقدر لها أن تتصدر السلطة . فأطلقوا عليها لقب "الصاحبة" وهو يعنى الوزارة لأن  لقب الوزير هو الصاحب ، ولكنهم وصفوها أيضا بأنها كانت " ملكة جليلة عاقلة " . وهذه الأميرة بنت الملك العادل الكبير الأيوبى وتزوجها الملك الظاهر غازى بن صلاح الدين صاحب حلب ، وأنجبت له العزيز الذى حكم حلب ، وكان الملك الناصر الأيوبى حاكم الشام حفيدها ، وعندما مات ولدها العزيز حاكم حلب تصدرت بنفسها للحكم : " وتصرفت كالسلاطين ونهضت بالملك أتم نهوض ولكن بعدل وشفقة وبذل وصدقة ،أزالت المظالم والمكوس فى جميع بلاد حلب ،  وكانت تؤثر الفقراء وتحمل لهم الصدقات الكثيرة " وحين ماتت " أغلقت حلب أبوابها ثلاثة أيام حزنا عليها كما يقول المؤرخون. :(الوافى 16/3280 ،أبوالفدا:المختصر فى أخبار البشر 3/ 1710 ،الذهبي:العبر فى أخبار من غبر 5/2650)

 

6- وأختلف الحال مع أم الملك الناصر سيف الإسلام الأيوبى حاكم اليمن ، والتى كانت معاصرة لشجرة الدر فى مصر فقد توفى ابنها فقامت بأعباء الملك خير قيام إذ ضبطت أحوال زبيد ، وبعثت تستقدم أميراً من البيت الأيوبى ليحكم معها . وعثرت على سليمان شاه الذى كان مدعيا للتصوف فى مكة ، فاستقدمته إلى زبيد وتزوجته ، ولكنه ملأ البلاد ظلما ثم غدر بها وتزوج عليها ، وكان يحارب مع بنى عمه الأيوبيين فأنهزم ، واستولى على اليمن الملك المسعود بن الكامل . وبعث به وبزوجته ليعيشا فى مصر (الوافي 15/391 ،3920) .

 

7- ونصل لشجرة الدر أشهر سلطانة فى تاريخ المسلمين .

فهى سيدة بدأت حياتها بين سطور التاريخ ولكنها قفزت إلى عناوين التاريخ لتحتل مركزا فريدا فى تاريخ المسلمين ، حيث إرتبط تاريخها بفترة حرجة ، إذ شهدت حملة لويس التاسع على دمياط وهزيمته وأسره فى المنصورة ، وعلى يديها الناعمتين تم إنتقال الحكم من الدولة الأيوبية إلى الدولة المملوكية حيث كانت أول سلطانة أو بمعنى آخر أول من تولى الحكم فى الدولة المملوكية.

بدأت حياتها جارية محظية للسلطان الصالح أيوب الأيوبى، وانتهت حياتها صريعة بنهاية مأساوية لا تتفق مع حرمة الأنثى ولكنها لعبة السياسة التى مارستها فلم ترحمها ، وماتت بنفس الكأس الذى اذاقته لغيرها.

كان السلطان الصالح أيوب مشهورا بالسطوة والوقار ولزوم الصمت والبعد عن العبث. وشخصية بهذه الصفات يكون من الصعب عليها أن تخضع للحب أو تستغرق فى الغرام ، ويكون من الصعب على جواريه أن تمتلك إحداهن قلبه وتتمكن من إقناعه بأن يعتقها ويتزوجها ، وذلك ما نجحت فيه شجرة الدر ، دخلت قصره جارية تركية حسناء وما لبثت أن اقتحمت بجمالها وذكائها حصون قلبه  فأعتقها ثم تزوجها ، وانجبت له ولداً توفى وهو طفل اسمه خليل ، فصار لقبها الرسمى "أم خليل" .

وجاءت فرصة أخرى لذكاء شجرة الدرلكن ظهر فى وقت حرج ، إذ هجم الصليبيون على دمياط وهربت الحامية وتركتها خاوية للفرنج وملكهم لويس التاسع، وحينئذ اشتد المرض على الصالح أيوب ويئس الأطباء من شفائه، وقد تحرك السلطان الصالح أيوب بالجيش إلى موقع مدينة المنصورة حيث أنشأها لمواجهة الصليبيين . وأثناء هذه المحنة نهضت شجرة الدر فاستكتبت زوجها المريض المشرف على الموت آلاف التوقيعات على أوراق رسمية بيضاء خالية ، وكونت لجنة لإدارة البلاد ومتابعة الأستعداد الحربى ، ومات الصالح ايوب فكتمت موته ، وبعثت لابنه الغائب توران شاه كى يأتى إلى مصر ليتولى السلطنة، وأخذت له البيعة، وواصلت جهودها حتى انتصرت على حملة لويس التاسع وأبادت جيشه وأسرته فى دار ابن لقمان بالمنصورة.

 ووصل توران شاه ليجد العرش والنصر فى انتظاره ، وبدلا من أن يرد الجميل لشجرة الدر والمماليك البحرية ، مماليك أبيه إلا أنه أغلظ لهم وبادر بتقديم مماليكه عليهم ، وطالب زوجة أبيه شجرة الدر بالأموال ، وتربص بها شراً ، فأشارت شجرة الدرعلى المماليك بقتله فقتلوه ، وبذلك بدأت شجرة الدر طريق التآمر وطريق السلطة أيضا .

فقد اتفق كبار المماليك على إقامتها سلطانة وأن يكون لها التوقيع على المراسيم السلطانية، وكانت علامة توقيعها" والدة خليل ". وخطبوا لها على المنابر بقولهم " اللهم أدم سلطان الستر الرفيع والحجاب المنيع ملكة المسلمين والدة الملك خليل ". وكان أول قرار لها هو التفاوض مع الملك الفرنسى الأسير . وقد افتدى نفسه من الأسر بأربعمائة ألف دينار . وبدأت سلطنتها يوم الخميس ، صفر 648هجرية ، ولبست خلعة السلطنة وهى خمار من الحرير المرقوم بالذهب ، وقام الأمراء بتقبيل الأرض أمامها حسب العادة .ولكن من وراء حجاب.

واستنكر الخليفة العباسى المستعصم تولى شجرة الدر السلطنة، وبعث يعير المصريين ويقول لهم :"أعلمونا أن لم يكن عندكم رجال لنرسل لكم رجالاً " فلما بلغ ذلك شجرة الدر تنازلت بنفسها عن السلطة وتزوجت عز الدين أيبك ليصبح أول سلطان مملوكى .

والواقع أن تنازلها عن السلطة كان ظاهرياً فقط  ظلت تحكم من وراء ستار ، وتجلى ذلك فى اختيارها عز الدين أيبك زوجا لها ليتولى السلطة بالاسم بينما تمسك هى بمقاليد الأمور فى يدها. والواقع أنه كان أمامها مرشحان للزواج والسلطنة، وتنافسا على الفوز بها ، الأول الأمير أقطاى زعيم المماليك البحرية وحوله شجعان الفرسان المماليك ومنهم بيبرس الذى تسلطن فيما بعد، والثانى عز الدين أيبك كبير المماليك فى القصر السلطانى وأشهر أتباعه قطز الذى تسلطن هو الآخر فيما بعد.

وقد فضلت شجرة الدر أيبك أعتقاداً منها أن نفوذها سيستمر معه وأنه أسلس قياداً من إقطاى . وتزوجت أيبك ، وغضب إقطاى وتآمر عليهما وسلط أتباعه يسلبون وينهبون ، فكان أن تخلص منه السلطان والسلطانة بمؤامرة أغتيال. وصفا لهما الجو ، ولكن ضاق أيبك بنفوذ شجرة الدر ودب النفور بينهما ، فترك أيبك لها القلعة وعاد إلى زوجته القديمة أم على ابنه ، وبعث يخطب أميرة أيوبية هى صاحبة الموصل كى يسكنها القلعة بدلا من شجرة الدر .

وجنّ جنون شجرة الدر، ومنعتها غيرتها من التفكير السديد فاحتالت على استقدام أيبك إليها وصالحته ثم قتلته ، ونسيت أن مماليك أيبك لن يرضوا بمقتل سيدهم ، وأن المماليك البحرية من أتباع أقطاى لن يتوانوا عن الإنتقام منها إذا سنحت لهم الفرصة ، وهذا ما حدث إذ حين عرف المماليك بمقتل السلطان اعتقلوا شجرة الدر وسلموها إلى غريمتها وضرتها أم على ، وانتقمت منها أم على انتقاما هائلا ، إذ جعلت جواريها يضربنها بالقباقيب حتى ماتت ، ثم ألقوا بجثتها عارية خلف أسوار القلعة ، وفى النهاية حملوها فى قفة ودفنوها. (السلوك للمقريزى 1/361 ، تاريخ ابن كثير 1399 ، فوات الوفيات 16 120 ، الذهبى : العبر5 222 

أبو المحاسن : النجوم الزهراء 7p السيوطى : حسن المحاضرة 2 39 ابن العماد الحنبلى : شفرات الذهبى 58).

أى أن شجرة الدر هزمت الأمراء والسلاطين من الرجال..ولم يهزمها إلا قلبها ..وضرتها .

 

8 ـ ونختم هذا الفصل بعقد مقارنة بين شجرة الدر والخليفة العباسى المستعصم بالله العباسى الذى أعترض على سلطنة شجرة الدر وبسبب هذا الاعتراض تنازلت شجرة الدر عن السلطنة .

ورأينا كيف حفظت شجرة الدر ملك زوجها وملك ابن زوجها فى وقت شديد التعقيد ، إذ أن جيوش الفرنجة كانت تتوغل فى الدلتا بعد هروب حامية دمياط ، والسلطان مريض، ثم يموت ، وهى تواجه بمفردها عدواً متحركاً نحوها ، وابن زوجها غائب، ومع ذلك فقد أحكمت سيطرتها وأدارت الأزمة بأقتدار حتى انتصرت وأسرت لويس التاسع وأبادت جيشه ،وحين تنكر لها السلطان الجديد الذى جعلته سلطانا قامت بكل جسارة بنقل السلطنة عنه وعن أسرته إلى نفسها وإلى المماليك ، مماليك الأيوبيين ، وظل السلطان فى أيدى المماليك يتداولونه من بعدها حتى الغزو العثمانى لمصر سنة 921 هجرية  /  سنة1517 ميلادية هذا ما فعلته المرأة السلطانة التى كانت جارية من قبل ..أقامت ملكا ( بضم الميم ) بينما أضاع الخليفة العباسى المعاصر لها ملكا ورثه بلا تعب. هذا هو الذى فعله الخليفة الذى تربى فى أسرة حاكمة ، استمر حكمها أكثر من سبعمائة عام .!

إن المؤرخ ابن طباطبا يصف الخليفة المستعصم فيقول عنه" كان مستضعف الرأى ضعيف البطش قليل الخبرة بالمملكة مطموعا فيه ، وكان زمانه ينقضى فى سماع الأغانى والتفرج على المساخر ..وكان أصحابه مستولين عليه ولكنهم جهال من أراذل العوام" .

المؤرخ ابن طباطبا كان معاصرا  لذلك الخليفة الذى أضاع بغداد والخلافة العباسية والمسلمين.

وقد يقال أن المؤرخ ابن طباطبا كان شيعى المذهب يتحامل على الخليفة المستعصم المشهور بتعصبه لأهل البيت .ولكن مؤرخا سنياً موثوقاً فيه مثل ابن كثير يتفق مع ابن طباطبا فى رأيه ، يقول عن ذلك الخليفة " كان محباً  لجمع المال، ومن ذلك استحل الوديعة التى استودعه إياها الناصر داود الأيوبى ، وكانت قيمتها نحوا من مائة ألف دينار ، فاستقبح هذا من مثل الخليفة " .وابن كثير يشير إلى أهم نقيصة لذلك الخليفة ، وربما كان السبب الأساسى فى هزيمته أمام المغول ، وهى نهم الخليفة بجمع الأموال وأكتنازها .

ذلك أن نهم الخليفة بالمال وحرصه عليه شأن أغلبية اسلافه أدى به إلى قطع مرتبات الجند فى وقت كان أحوج ما يكون اليهم والمغول يقتربون من بغداد ، وهنا  نرجع إلى المؤرخ ابن كثير وهو يقول عنه " صرف الجيوش‘ ومنع أرزاقهم حتى كانوا يتسولون على أبواب المساجد وفى الأسواق .. وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله . " .

على أن شحّ الخليفة المستعصم بالأموال على الجند فى وقت حاجته لهم يقابله فى الناحية الأخرى إسرافه الشديد فى الإنفاق على خدمه وأتباعه من الظلمة الذين يأكلون أموال الناس بالباطل . وكان أولئك الخدم من أراذل العامة والمماليك الذى صعد بهم الزمن الرديء فى عصر انحلال الدولة العباسية فاحتكروا الثروة بينما عاش العلماء والأشراف يتضورون جوعا .

ونضرب أمثلة تاريخية لبعض أثرياء الخدم فى عصر المستعصم ، منهم : علاء الدين الطيبرسى الظاهرى ، وكان دخله من أملاكه نحو 300 ألف دينار وكانت له دار لم يكن ببغداد مثلها ، وحين تزوج دفع صداقا قدره عشرون ألف دينار، ووهب له الخليفة المستنصر ليلة زفافه مائة ألف دينار وألحقه بأكابر الدولة ، ومنحه ضيعة كانت  تدر له  دخلا يزيد على مائتى ألف دينار سنويا. ومنهم مجاهد الدويدار وكانت أملاكه يتعذر ضبطها على الحساب . وفى ليلة زفافه حصل على هدايا تزيد على ثلثمائة ألف دينار ، وفى صباح زواجه أنعم عليه المستعصم بثلاثمائة ألف دينار أخرى ، وكان إيراده السنوى من أملاكه أكثر من نصف مليون دينار . ومنهم ابن فاخر شيخ الفراشين فى قصر الخلافة.والدليل على ثرائه أن داره كانت تشمل عدة حجرات للنوم . وفى كل حجرة جارية محظية وخادمة وخادم ، ثم هناك جارية لطعامه ،وأخرى لعمله وأخرى لشرابه وأخرى لترتيب فراشه ، وأخرى غسالة ، وأخرى طباخة ..وهكذا..

وفى مقابل هذا الثراء كان أعظم العلماء وقتها لا يتقاضى أحدهم أكثر من 12 دينار شهريا فحسب ..ذلك هو المرتب الذى كان يأخذه علماء المدرسة المستنصرية ، وابن القوطى وابن الساعى أشهر المؤرخين لذلك العصر كان كلاهما يأخذ راتبا شهريا قدره عشرة دنانير.. فأين أؤلئك من شيخ الفراشين في قصر الخليفة؟

وفى ذلك الوضع المقلوب لا بد أن تكتمل الصورة لأى إمبراطورية على وشك السقوط بغض النظر عن اللافتة التى ترفعها سواء كانت إمبراطورية فارسية ،أو بيزنطية أو رومانية أو عباسية،لابد أن تتفشى الرشوة وتكثر مصادرة الأموال وتتفاقم الاضطرابات الداخلية مع الانحلال الخلقى وينشغل الناس بالتوافه عن الخطر الذي يدق الأبواب.

 

ويقول الغساني صاحب كتاب "العسجد المسبوك "يصف السلطة العباسية في أواخر أيامها باعتباره شاهدا عليها، "اهتموا بالإقطاعات والمكاسب وأهملوا النظر في المصالح الكلية واشتغلوا بما لا يجوز من الأمور الدنيوية ، واشتد ظلم العمال (أي الحكام والولاة ) واشتغلوا بتحصيل الأموال ،والملك قد يدوم مع الكفر ولكن لا يدوم مع الظلم ."

وقد صدق الغساني في مقولته أن الملك قد يدوم مع الكفر ولكن لايدوم مع الظلم،لأن القاعدة القرآنية تقول "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" أى أمرناهم بالعدل " فَفَسَقُوا فِيهَا" أى حولوا الأمرالإلهى إلى خروج وفسق" فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16).. " ولا يمكن أن يحل التدمير من الداخل أو من الخارج إلا إذا اسشترى الظلم ، والله تعالى يقول"ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) الأنعام".

لم يستوعب  الخليفة العباسى ذلك الدرس فانغمس فى الفساد مع أتباعه الأراذل وأضاع جنده فأضاع ملكه . وشهد بنفسه أصنافاً من الإهانة قبل أن يقتله المغول رفساً بأقدامهم بعد أن دمروا بغداد وقتلوا مليونين من أهلها.

يقول الهمدانى فى كتابه " جامع التواريخ" إن هولاكو بعد أن اقتحم بغداد دخل قصر الخلافة واحضروا  له الخليفة المستعصم وهو يرتجف ، فقال له هولاكو :أنت مضيف ونحن الضيوف..فهيا أحضر ما يليق بنا ، فأحضر الخليفة له وهو يرتعد من الخوف صناديق المجوهرات والنفائس فلم يلتفت إليها هولاكو ومنحها للحاضرين ، وقال للخليفة ،إن الأموال التى تملكها على وجه الأرض ظاهرة وهى ملك لعبيدنا ،ولكن اذكر ما تملكه من الدفائن ما هى وأين توجد". فاعترف الخليفة بوجود حوض مملوء بالذهب فى ساحة القصر فحفروا الأرض حتى وجدوه  ،كان مليئا بالذهب الأحمر ، وكان كله سبائك تزن الواحده مائة مثقال .

واستحق الخليفة احتقار هولاكو السفاح الدموى ، إذ تعجب كيف يكون للخليفة  كل هذه الأموال ثم يبخل على الجند بأرزاقهم ؟!!. لذلك يقول هولاكو عن الخليفة المستعصم فى رسالته إلى حاكم دمشق التى أرسلها لينذره بالتدمير إن لم يسلم نفسه ، يقول عن خليفة بغداد : " وكان قد جمع ذخائر نفيسة وكانت نفسه خسيسة ، فجمع المال ولم يعبأ بالرجال.." .

ونعود إلى المؤرخ الهمذانى وهو يروى مشهدا أخر بين هولاكو والخليفة فى قصر الخلافة ، وقد أستحضر هولاكو نساء الخليفة فبلغن سبعمائة زوجة ومحظية وألف خادمة ، وقد تضرع الخليفة باكيا طالبا منه أن يمنّ عليه بأهل حرمه "اللائى لم تطلع عليهن الشمس والقمر" أى دفنهن كما دفن سبائك الذهب فى قصره ، وكانت تلك نظرته للنساء وشجرة الدر..ويقول الهمذانى : وقصارى القول إن كل ما جمعه الخلفاء العباسيون خلال خمسة قرون وضعه المغول  بعضه على بعض فكان كجبل على جبل : وقد قام هولاكو بصهر ذلك الذهب جميعه فى سبائك ، وأقام له قلعة محكمة فى أذربيجان : (مقال: ليس دفاعا عن هولاكو . بقلم المؤلف د. أحمد صبحى منصور ، نشرته الأ خبار فى 5/2 /  1990ونقله عنها الشيخ محمد الغزالى فى كتابه تراثنا الفكرى : دار الشروق :ص 108 ) هذا هو الخليفة المستعصم . وتلك هى شجرة الدر ..وكلاهما حكم بمنطق الاستبداد فى العصور الوسطى .. فأيهما  نختار إذا كان ولا بد من الرضى بالاستبداد ؟.

 

 

الخاتمة

1-الحكم هو القوة والسلطان .والشورى أو الديمقراطية هى فن ممارسة القوة والسلطان . والعلاقة بين الحاكم والشعب تحدد من هو صاحب القوة والسلطان ومدى وجود الشورى أى الديمقراطية فى تلك العلاقة.

هناك الحاكم المستبد الذى يستأثر بالقوة والسلطة وليس لشعبه عنده وزن ، بل يعتبر نفسه وصيا على ذلك الشعب ، وبالتالى يعتبر نفسه مصدر السلطات ، فهو المشير وهو المستشار وهنا تكون الشورى فى نطاق سلطاته التى يمنحها لنفسه ، غاية ما هنالك أنه يعين بعض المستشارين أو الخدم الذين يفكرون لمصلحته وإرضائه .

ولكن قد يحس الشعب ببعض الوعى وبعض القوة والتأثير مما يجعل الحاكم يضطر لتقديم بعض التنازلات تتناسب وتلك القوة التى يزعمها الشعب لنفسه ، لذلك تتغير مجالس الشورى فتحتوى على بعض الأتجاهات الحرة ، ويدور الصراع بين الحاكم وجماعات الأحرار فى الشعب ، يحاول الأحرار تقليص سلطات الحاكم ، ويحاول الحاكم من خلال أعوانه وخدمه تدعيم سلطاته، وهنا عصر البرلمانات الصورية وتزييف الديمقراطية.وهنا الشورى جزئية تعبر عن مصالح أصحاب الثورات وأصحاب الوعى الحر .

وقد تكون القوة كلها للشعب فيفرض سلطانه على الحكومة ويعين الحكومة ويسائلها ، ويكون الحاكم موظفاً بأجر وبعقد لدى الشعب فى فترة أوفترتين ، والشعب هو الذى يختار وهو الذى يعين وهو الذى يعزل ويسائل ويحاكم كل المسؤلين ‘ وهذا هو النظام الإسلامى فى الحكم . وفيه يستوى أن يكون الحاكم رجلا أم إمرأة ..

2- والديكتاتورية خروج على عقيدة الإسلام وعلى نظام الدولة الإسلامية . ومع ذلك فهى نظام شرعى طالما يرضى الناس بها ، والمستبد فيها حاكم شرعى ، رجلا كان أم إمرأة . إلا أن استقراء التاريخ والقصص القرآنى يظهر فيه أن المرأة فى الحكم المستبد تكون أقل ضررا وأكثر رأفة من الرجل المستبد .