مولد الطفل البني .. قصة قصيرة

شادي طلعت في الجمعة ٠٨ - مايو - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

في يوم الـ 15 من أكتوبر 1970م، ولد طفل بني، لأم وأب بنيين، كان الإبن البكر لهما، وكانت فرحتهما كبيرة بولدهما، فقد توسما فيه خير كثير، ولما لا .. وهو الآن قد أصبح مستقبلهما، بل ودنياهما التي كانا يبحثان عنها، وقد أطلقا على الطفل إسم "واصل"، وخلال عشرة أعوام كانا قد أنجبا ستة أطفال آخرين، فأصبح لديهما أربعة ذكور وثلاثة إناث.

 

لكن .. كان "واصل"، هو من يحظى دائماً بالرعاية، والإهتمام، نظراً لأن لونه البني كان يميل لـ البني الفاتح، بخلاف أغلب الأطفال البنيين، واللذين كان لونهم البني يميل لـ البني الغامق، لذا كان وسيماً بين كل الأطفال، وبدأ كل من يراه من باقي البنيين يشبهه بأحد ما !.

فمن البنيين من شبهه بنجم سينمائي أمريكي، ومنهم من شبهه بنجم ذو أصول تركية، علماً بأن "واصل" صاحب شعر اقرب للأجعد مثله كمثل سائر البنيين، إلا أنها عادة البنيين .. دائماً ما يبالغون في الوصف والمديح، كما يبالغون في كل شيء.

 

وكان الطفل "واصل"، يسأل أمه : ماذا سأعمل عندما أصبح رجلاً ؟

فكانت تجيبه : ستكون طبيباً كبيراً - بل وسيسمع عنك العالم كله - ستصبح أشهر طبيب في العالم.

 

وكان الطفل "واصل يسأل أباه أيضاً : ماذا سأعمل عندما أصبح رجلاً ؟

فكان يجيبه : ستصبح نجماً سينمائياً كبيراً - فأنت تتمتع بوسامة لم تعطى لأحد من قبلك - ستصبح نجماً في هوليود، وليس في بلاد البنيين فقط.

 

وفي يوم أخذ الأب إبنه "واصل" صاحب العشرة أعوام، وذهب به لأحد المساجد، ليلتقي بشيخ هندي شهير، تندر زياراته للبلاد.

ويلتقي الأب بالشيخ، ويطلب منه مباركة إبنه "واصل"، فدعا الشيخ للطفل، ثم إنصرف عن الأب وإبنه، وذهب لركن في المسجد وجلس، وأتى من حوله الناس ليسمعوا منه الموعظة، وفي تلك اللحظة شعر الطفل "واصل" بالحرج الشديد لنفسه ولوالده، في حين أن الأب كان كان سعيداً بدعوات الشيخ، ولم يأبه لأنه تركهما وإنصرف.

فاستأذن "واصل" من والده، ليذهب وينال بركات الشيخ، فــ وافق الأب على الفور.

 

وجد الشيخ الطفل "واصل" يقتحم الصفوف ليقف أمامه، وهو جالس، وينظر له نظرات كلها مرارة، وقال له :

 

واصل : كيف تتركنا من دون إستئذان ؟

الشيخ : ومن أنتما حتى أستأذن منكما.

 

واصل : أيجب أن نكون أصحاب سلطة حتى تستاذننا ؟

الشيخ : هذا عرف بلادكم البنية، أنا يا بني .. لا أستأذن إلا ممن يفوقني علماً.

 

واصل : ومن قال لك أنني لن أفوقك علماً في المستقبل ؟

الشيخ : لم أشعر بذلك منذ نظرت إليك، وتصرفك هذا يدل على أنك إنسان أجوف، ولن ترقى أبداً لتكون صاحب علم.

 

واصل : وهل إطلعت على الغيب، أم أنك من المنجمين ؟

الشيخ : إن كنت تطلب العلم حقاً ما كنت تتجرأ علي بمثل هذا الحديث، بل تسعى إلي بأدب، لكنك لا ترغب - مثلك كمثل باقي الشعب البني.

 

واصل : أنا ساكون شيئاً كبيراً في المستقبل لكن مثلك لا يعلم ذلك ؟

الشيخ : وماذا ستكون .. هل ستكون كما تريدك أمك .. أم كما يريد أبوك .. أم كما يريد اقاربك أو إخوتك .. صدقني يا بني مثلك لا يعرف ماذا يريد، وستكبر وتصبح رجلاً، وستظل غير عالم بــ ماذا كنت تريد.

 

واصل : وكيف عرفت بأن كل من حولي يراني في صورة ما ؟

الشيخ : تلك طبيعة البشر عامة، لكنها تزيد عند البنيين، فيظن كل منهم أن ولده سيكون شيئاً !، مع أنهم لو فكروا قليلاً لوجدوا أن آبائهم كانت تفكر بنفس المنطق لحظة ولادتهم - وفي النهاية يا بني إن أردت أن تعرف ماذا ستكون .. فصدقني سيكون آخر طموح لك في المستقبل .. أن تكون كما كان والدك البني.

 

إنصرف الطفل من أمام الشيخ غاضباً، وذهب إلى والده، وطلب منه أن ينصرفا من المسجد، وفي المنزل قص على والديه ما دار بينه وبين الشيخ من حديث، وإذا بعلامات الفرحة والسرور تنهمر على والديه البنيين !، إنهما فرحان لأن طفلهما الصغير لم يخشى الشيخ وذهب إليه، وتحدث بطلاقة، وعندما رأى "واصل" فرحة أبويه، شعر بأنه إنسان مختلف ذو مستقبل باهر، ولم يفكر بــ كلمات الشيخ له، بل إنه نسي كل ما قاله الشيخ !.

 

وبعد سبعة أعوام أصبح واصل في المرحلة الثانوية، وهي التي ستحدد مستقبله الجامعي، ولم يبخل الوالدان على إبنهما في شيء، فكانا يهيآن له كل السبل حتى يتمكن من حفظ الكتب الدراسية عن ظهر قلب، ويحضرون له ما شاء من المعلمين، لأنهما يظنان أن واصل ليس كغيره من الفتيان.

 

وإنتهت الإمتحانات الثانوية، وسقط "واصل"، وسقطت معه أحلام أبويه الحالمين،  وبدأ الأب يتحدث مع الأم، ويخبرها أنهما قد أعطيا لــ واصل أكثر مما يستحق، ويبدو أن كلام الشيخ الهندي منذ سبع سنوات مضت كان صائباً، بيد أن الأم قالت للأب، وليكن .. علينا ان نظل بجانبه ليجتاز المرحلة الثانوية، وأن لا نشعره بذلك.

 

ومرت سنة أخرى وأصبح عمر واصل 18 عاماً، ونجح في إمتحانات الثانوية، لكنه حصل على نسبة نجاح أقل من 53%، وهي نتيجة لا تسمح له بدخول الجامعة، إلا أن فرحة النجاح كانت كبيرة جداً لدرجة جعلت كل المقربين من واصل، يرون الحياة بشكل آخر مختلف، وبدأت الناس تتهافت على منزل "واصل" لتقديم التهاني، وكل منهم يقترح إقتراحاً لمستقبله :

الأب : أرى أن يكون واصل طبيباً.

الأم : أرى أن يكون واصل مهندساً.

العم الأصغر لـ واصل : أرى أن يكون واصل طياراً.

الخالة الصغرى لـ واصل : أرى أن يكون واصل ضابط شرطة.

 

وهكذا تعددت الإقتراحات على الفتى الذي لا يملك من أمره شيئاً، فمجموع درجاته لا يسمح له بالدراسة في أي جامعة !، وفي النهاية إصطدم الجميع بالحقيقة المرة، وقرر واصل أن يعيد دراسته للمرحلة الثانوية النهائية، لعل وعسى يستطيع الحصول على مجموع كبير يمكنه من دخول الجامعة.

 

ومرت سنة أخرى، وأصبح عمر الفتى 19 عاماً، وإنتهت الإمتحانات للمرة الثالثة، وحصل الفتى على مجموع 60% مما مكنه من الدراسة بجامعة صغيرة، تخرج منها معلماً في مجال الرسم، وتم تعيينه في مدرسة ثانوية.

 

وما أن تخرج الشاب، وأصبح عمره 23 عاماً، حتى فكر والديه بتزويجه، واختار "واصل" عروسه، وتم الزفاف، وظل أهله جميعاً ينتظرون ذريته، وما أن جاء مولوده الأول، إلا وأصبح المديح يلقى عليه من كل صوب وحدب.

فتذكر "واصل" ما كان يسمعه من أهله عند ولادته، فشعر أن التاريخ يعيد نفسه، وهنا تذكر حديث الشيخ الذي قال له وهو ذو العشر سنوات : (سيكون آخر طموحك أن تكون مثل والدك البني).

 

ومرت أعوام سبعة أنجب فيها "واصل" ثلاثة أبناء آخرين، وفي نهاية العام السابع، بدأ ينتبه إلى نفسه، ها هو قد أنهى العقد الثالث من عمره، ومقدم على العقد الرابع، لكنه .. لم يقدم شيئاً جديداً للبشرية ..

إنه شخص كباقي البنيين، يأكل، ويشرب، ويتزوج، ويقضي حاجته، لم تستفيد البشرية منه في شيء، حتى عمله لا يقدم فيه جديد، إنه مجرد عمل روتيني ممل.

 

بسبب كثرة تفكير واصل، ساءت الأحوال بينه وبين وزوجته، إلى أن إتفقا على الطلاق، حتى تم الأمر، وبعد الطلاق ذهب الرجل يبحث عن ذاته، فقرر الإستقالة من وظيفته، وذهب ليعمل في الصحافة، عله يبدع في مجال آخر، ثم تزوج بأخرى وانجب منها، وتبدلت حياته، بيد أنه لم يجد نفسه التي يبحث عنها، لأنه لم يقدم جديداً للبشرية.

كانت مشكلة واصل، أن الشيخ الهندي قد صدقت توقعاته فيه.

 

وبعد أن أصبح واصل، في الخمسين من عمره، سافر لأداء فريضة العمرة، وأثناء وجوده بالحرم المكي، وجد الشيخ الهندي الذي إلتقى به منذ 40 عاماً مضت، جالساً وحده يقرأ، وكان قد كبر وهرم، وتخطى عمره الثمانين عاماً، إلا أن ملامحه الحادة ظلت عالقة براس "واصل" ولا يمحموها الزمان أو الهِرم، فذهب إليه، وجلس أمامه، وألقى عليه السلام ثم قال :

 

واصل : ألا تعرفني.

الشيخ : أنت شخص سبق وإلتقيت به سابقاً، ولكن لا أعرفك، لأن معالم الزمن قد غيرت من وجهك.

 

واصل : وكيف عرفت أننا إلتقينا من قبل ؟

الشيخ : يا بني ليس في الأمر براعة أو معرفة بالغيب، فطالما سألتني بتلك الطريقة، وببعض شيء من المنطق، إهتديت لإجابتي.

 

واصل : أنا .......... وسرد عليه قصة لقاءهما، ثم أكمل قصة حياته حتى لحظة لقاءه بالشيخ.

الشيخ : تذكرتك، أخبرني أأنت راضٍ عن نفسك الآن.

 

واصل : لا يا شيخ، فقد تحققت توقعاتك ولم أصبح شيء، وبات أقصى حلمي الآن أن أكون مثل الراحل أبي.

الشيخ : إذاً صدقتني بعد أربعين عاماً مضت.

 

واصل : نعم .. ولكن أريد أن أعرف منك سبب يقينك وقت ان أجبتني منذ 40 عاماً ؟

الشيخ : يا بني .. لقد حكمت عليك كما حكمت على كل من هم مثلك من قومك - أنتم قوم مساكين، وتظنون أنكم أغنياء - محتاجون تظنون أنكم موسرين - أغبياء ظننتم أنكم أذكياء – جهلاء وتعتقدون أنكم علماء.

 

واصل : ولماذا نحن هكذا ؟

الشيخ : إنها موروثات ورثتموها جيلاً بعد جيل، ثقافتكم لم تتغير، ولم تواكب العصر تلو العصر، ترفضون فكرة التغيير، وتتمسكون بماضٍ أليم، فالمبدع بينكم كافر أو غيرُ مستقيم، والرجل هو من ينجب، والمرأة هي من تلد، إنحصرت ثقافتكم داخل فكر القطيع، فأنى لكم الإختلاف أو التمييز أو النجاة.

 

واصل : بعد حديثك هذا، أجد نفسي غير راغبة بالعودة لبلدي البني.

الشيخ : يا ولدي .. ألا تعمل عقلك – ألا تعطي نفسك روية – ألا تترك أنانيتك وتفكر بغيرك - إن فعلت هذا منذ عقدود ما كانت الحيرة تتملكك الآن – ألن تكون سبباً في إحداث أذى بأبناءك إن تركتهم - ألا فكرت قليلاً كيف تستفيد منك البشرية – تخلى عن أنانيتك وستعلم أين طريقك.

 

واصل : بماذا تنصحني ؟

الشيخ : عش حياتك كإنسان، ولا تعش كالحيوان، أحكم نفسك بالأخلاق والقييم.

 

إنتهت الفريضة، وعاد واصل لبلاده البنية، ووجد إتصالاً يبلغه بأن إبنته الكبرى قد وضعت حملها، فذهب لتهنأتها، غير ومكترث للمولود الجديد.

فسألت الإبنة أباها :

الإبنة : ألا تقترح علينا إسماً ؟

واصل : أسموه ما شئتم، فتلك ليست المعضلة، المهم أن يكون متميزاً عن باقي الجموع التي حوله، وهذا لن يحدث بمجرد أن نختار إسماً متميزاً.

 

الإبنة : وكيف يكون متميزاً ؟

واصل : لا أعلم كيف، ولازلتُ أبحث عن إجابة، لكن .. عليكما أن تكتفوا بولد واحد، فبلادكم البنية مكتظة بغثاء السيل.

 

شادي طلعت

اجمالي القراءات 4097