المقريزى شاهد على العصر
أكابر المجرمين في طاعون عام 833 (1 )

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ١٤ - أبريل - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

أكابر المجرمين في طاعون عام 833 (1 )

 مقدمة :

1 ـ جاء برسباى ضمن المماليك الأجلاب. إشتراه الأمير المملوكى دقماق المحمدى ، وأهداه للسلطان الظاهر برقوق فأعتقه السلطان وجعله من مماليكه . وشق الأمير برسباى طريقه يتولى إمارة ثم يدخل السجن وهكذا، الى أن تولى السلطنة في الثامن من ربيع الأول عام 825 الموافق أول ابريل عام 1422 .

2 ـ كعادة السلاطين بدأ برسباى بشراء مماليكه السلطانية من عام 825 . وكالعادة أيضا لم يكن لديه وقت لشراء أطفال يربيهم ، كان شأن السلاطين البرجية يريد شبابا قادرا على حمل السلاح. كان الشباب في أواسط آسيا وأوربا يوقعون أنفسهم في الرق ليؤتى بهم الى القاهرة فيكونوا أمراء بل ربما سلاطين . ولم يرض لنفسه هذا الوضع إلا الشباب الوضيع الغارق في الجريمة . لذا كان سلاطين وأمراء وجنود المماليك البرجية أكثر العصابات وحشية ، وكان الشعب أبرز ضحاياهم .

3 ـ المماليك الجلبان الذين إشتراهم برسباى عام 825 وما بعده ليقيم بهم سلطانه قضى على معظمهم طاعون عام 833 . فإشترى برسباى غيرهم عام 833 وما بعده  فقضى على معظمهم طاعون 841 ، الذى شهد موت برسباى . يمكننا أن نتخيل أعمار هؤلاء المماليك الجلبان . جىء بهم شبابا عام 825 فإنغمسوا في الفتن مباشرة حتى قضى على معظمهم طاعون 833 . أي بعد 8 سنوات من مجيئهم . جىء بالجلبان الآخرين من عام 833 ، فإنغمسوا في الفتن 8 سنوات أخرى حتى قضى على معظمهم طاعون 841 . الطاعون هو بطل الأحداث هنا .

4 ـ أهمية عام 833 وعام 841 في أن الطاعون كان عقابا إلاهيا للظالمين من أكابر المجرمين من المماليك ورجال الدين ، كما كان عقابا إلاهيا للذين ظلموا رب العزة بتقديس البشر والحجر وارتكبوا كل الموبقات وجعلوها دينا.

5 ـ البشر وهم الآن تحت قصف وباء كورونا يجدر بهم أن يتعظوا . تقدمهم الهائل هزمه فيروس غاية في الضآلة ( البلايين من فيروس كورونا أقل حجما من حبة أرز ). أكابر المجرمين من السياسيين ورجال الدين يحتلون الصدارة ويصفق لهم الناس . جاء تسونامو كورونا يهدد الجميع . فهل نتعظ .؟ .  فيما نكتب بالتدبر القرآنى والبحث التاريخى نبتغى الإصلاح ما استطعنا . ( إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) (هود / 88 )

6 ـ  المقريزى في كتابه السلوك ( شاهدا على العصر ) يقول في التأريخ لعام 833:

أولا :( أهلت هذه السنة بيوم الجمعة ) . ( شهر المحرم‏:‏)

1 ـ  ( في يوم السبت ثانيه‏:‏ خلع على الأمير زين الدين عبد القادر أستادار خلعة الإستمرار ، ثم خلع عليه ثانياً في يوم الاثنين رابعه . ) ( وخلع على الأمير أقبغا الجمالي كاشف الوجه القبلي خلعة الاستمرار ، وقد أرجف باستقراره أستادارا ، وألزم بحمل عشرين ألف دينار‏.) ( وفي تاسعه‏:‏ خلع على الصاحب كريم الدين الوزير واستقر في نظر الديوان المفرد مضافاً إلى الوزارة ليتقوى به الأمير زين الدين إستادار‏.). إستمرار الأمير في منصبه يعنى أن يدفع رشوة للسلطان ، وهو يقوم بجباية اضعافها من الناس . ‏

2 ـ ( وفي العشر الثاني من هذا الشهر‏:‏ حملت نفقة المماليك السلطانية من حاصل الأستادار إلى قلعة الجبل لتنفق في المماليك على العادة في كل شهر، فامتنعوا من قبضها ، وطلبوا أن يزاد كل واحد على ماله مبلغ ثلاثمائة درهم في كل شهر . وكانوا قد فعلوا ذلك في نفقة ذي الحجة حتى زيد كل منهم أربعمائة درهم في كل شهر فبلغت الزيادتان في الشهر نحو الخمسة آلاف دينار‏. وكان قبل رضائهم بذلك قد استطار شرهم وتعدوا في العتو طورهم حتى خافهم أعيان أهل الدولة ، ووزعوا ما في دورهم خوف وقوع الفتنة‏.) . مماليك برسباى يطلبون زيادة المرتبات ، وهم يستطيلون على الناس ، ويرهبهم أكابر المجرمين من الجناح المدنى ، حتى كانوا يقومون بإخفاء ما في قصورهم من ذرية وأموال ومتاع . فماذا عن الشعب المسكين ؟!  

 3 ـ ( وفي رابع عشرينه‏:‏ قدم رسول ملك المشرق - شاه رخ بن تيمور - بكتابه يطلب فيه شرح البخاري للحافظ قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر وتاريخي السلوك للدول الملوك ويعرض فيه بأنه يريد أن يكسو الكعبة ويجري العين بمكة‏. ). شاه رخ بن تيمور أرسل يطلب نسخة من كتاب ابن حجر العسقلانى في شرح البخارى ، ونسخة من كتاب السلوك للمقريزى ، وطبعا الأجزاء الأولى من السلوك . وليست هذه الأخيرة منه .

ثانيا : ( شهر صفر أوله الأحد‏:‏)  

1 ـ ( في رابع عشره‏:‏ خلع على السيد الشريف شهاب الدين كاتب السر ونزل إلى الجامع المؤيدي وقد استقر ناظره على العادة فقرئ به تقليده بكتابة السر، تولى قراءته منشأة القاضي شرف الدين أبو بكر الأشقر نائب كاتب السر‏. وقد حضر قضاة القضاة الثلاث ولم يحضر الحنفي وحضر الأمير أركماس الدوادار، وكثير من الأعيان ، فكان من المجامع الحفلة الحشمة‏. ) . إحتفال بتولية كاتب السّر . ولا ننسى ان تولى منصب لا يكون إلا بالرشوة .

2 ـ ( وفي هذه الأيام‏:‏ ارتفع سعر الذهب حتى بلغ الدينار الأفرنتي مائتين وستين درهماً وارتفع أيضاً سعر الغلال‏. وقدم الخبر بغلاء الأسعار بمدينة حلب ودمشق وأن بدمشق وحمص طاعون فاش في الناس‏.) غلاء الذهب والغلال ، وإنتشار الطاعون في الشام . ‏

3 ـ ( وفي يوم الخميس سادس عشرينه‏:‏ خلع على قاضي القضاة علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وأعيد إلى قضاء القضاة عوضاً عن الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر . وخلع على قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني وأعيد إلى قضاء القضاة الحنفية عوضاً عن بدر الدين محمود العيني،  ورسم باستقراره صدر الدين أحمد بن محمود العجمي في مشيخة خانكاه الأمير شيخو عوضاً عن قاضي القضاة زين الدين التفهني.. ) ، عزل إبن حجر وتولى البلقينى ، وفيما بعد سيتولى ابن حجر بعد أن يدفع الرشوة ، وهكذا دورة من العزل والتولية ، والمستفيد هو السلطان الذى يبيع المناصب . والشعب هو الذى يدفع لأكابر المجرمين من العسكر ورجال الدين .

ثالثا : ( شهر ربيع الأول أوله الاثنين :

1 ـ (فيه خلع على صدر الدين أحمد بن العجمي واستقر في ميشخة الشيخونية‏. وفي يوم الثلاثاء سلخه‏:‏ خلع على سعد الدين إبراهيم بن كريم الدين عبد الكريم ابن سعد الدين بركة كاتب جكم واستقر في نظر الخاص عوضاً عن أبيه بعد وفاته وألزم بحمل ستين ألف دينار فشرع في حملها‏.). تولية مرتبطة بدفع الرشوة إلزاميا .!‏

2 ـ ( وفي هذا الشهر‏:‏ انحل سعر الغلال وسبب ذلك أن المحتسب أينال الششماني منع كل من ورد بغلّة إلى ساحلي مصر وبولاق من بيعها وتشدد في ذلك ، فامتنعوا ، وأخذوا في بيع الغلال السلطانية على أن كل أردب من القمح بثلاثمائة وستين درهماً ، فتوفرت الغلال في مدة بيعه ، ثم أذن لهم في بيعها ، وقد تكفي الطحانون بغلال السلطان ، فانحل السعر، ولله الحمد، وربما صحت الأجسام بعد العلل‏.). كانت للسلطان أراضيه وضياعه ، وكان يتدخل في التجارة الداخلية والخارجية محتكرا ، يفرض السعر . واحيانا كان في ذلك منفعة لإنقاذ الناس من جشع التجار .  

رابعا : شهر ربيع الآخر أوله الأربعاء‏:‏

1 ـ (  في رابعه‏:‏ خلع على قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني الحنفي واستقر في الحسبة بالقاهرة ومصر ، عوضاً عن الأمير أينال الششماني مضافاً لما معه من نظر الأحباس‏.) قاضى القضاة الحنفى بدر الدين العينى وهو أيضا المشرف على الأحباس ( الأوقاف ) يتولى أيضا منصب الحسبة بدلا من الأمير المملوكى الششمانى . كان للعينى نفوذ هائل في سلطنة برسباى .

 2 ـ ( وفي تاسعه‏:‏ خلع على الأمير شهاب الدين أحمد الدوادار واستقر في نيابة الإسكندرية وفي ثالث عشره‏:‏ خلع على الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم وأعيد إلى نظر الديوان المفرد عوضاً عن الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ.  وفي خامس عشرينه‏:‏ خلع على الأمير علاء الدين أقبغا الجمالي الكاشف واستقر أستاداراً عوضاً عن الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج على أن يحمل مائة ألف دينار بعد تكفية الديوان، فلم ينهض بها‏.). تولية مناصب  ودفع رشاوى إلزامية .

 3 ـ (  وفيه فشى الطاعون في الوجه البحري سيما في النحريرية ودمنهور، فمات خلق كثير جداً بحيث أحصي من مات من أهل المحلة زيادة على خمسة آلاف إنسان‏. ومن ناحية ( صا) زيادة على ستمائة إنسان.  وكان قد وقع بغزة والقدس وصفد ودمشق في شعبان في السنة الماضية طاعون واستمر إلى هذا الشهر‏.  وعُدّ هذا من النوادر فإن الوقت شتاء وما عهد فيما أدركناه وقوع الطاعون إلا في فصل الربيع‏. ويعلل الأطباء ذلك بسيلان الأخلاط في الربيع وجمودها في الشتاء ولكن الله يفعل ما يريد‏. وقدم الخبر بشناعة الطاعون بمدينة برصا من بلاد الروم وأنه زاد عدد من يموت بها في كل يوم على ألفي وخمسمائة إنسان‏. وأما القاهرة فإنه جرى على ألسنة غالب الناس منذ أول العام أنه يقع في الناس عظيم حتى لقد سمعت الأطفال تتحدث بهذا في الطرقات‏. فلما أهل شهر ربيع الآخر هذا‏:‏ كانت عدة من ورد الديوان فيه من الأموات اثني عشر إنساناً ، وأخذ يتزايد في كل يوم حتى بلغت عدة من ورد الديوان بالقاهرة في يوم الأربعاء سلخه ثمانية وأربعين إنساناً‏. وجملة من أحصاه ديوان القاهرة في الشهر كله أربعمائة وسبعة وسبعون إنساناً‏. وبلغ ديوان المواريث بمدينة مصر دون ذلك‏. هذا سوى من مات بالمارستان ، ومن جهز من ديوان الطرحاء على الطرقات من الفقراء وهم كثير‏.).

 إنتشر الطاعون آتيا من الشام فوصل الى الوجه البحرى بمصر وإنتقل الى بلاد الروم . وتعداد الضحايا رسميا كان عن طريق ديوان المواريث في ( القاهرة) و ( مصر ) أي  ضواحى القاهرة وقتها. أما الموتى في المستشفيات ( المارستان ) وأما جثث الفقراء الملقاة في الطريق فلا حصر لها.!!

خامسا : شهر جمادى الأولى أوله الخميس‏:‏

1 ـ ( فيه برز سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدة إلى خارج القاهرة وقد توجه معه كثير من الناس يريدون العمرة والحج‏.) . الحج وقت الطاعون ، وينتشر الطاعون .

2 ـ ( وفيه بلغت عدة من ورد الديوان بالقاهرة مائة على أنهم لا يرفعون في أوراقهم إلى الوزير وغيره إلا بعض من يرد لا كلهم‏.). عدد الضحايا وفقا لديوان المواريث في القاهرة مائة ، وهذا هو البعض فقط .

3 ـ ( وفيه نودي في الناس بصيام ثلاثة أيام وأن يتوبوا إلى الله تعالى من معاصيهم ويخرجوا من المظالم ثم يخرجوا في يوم الأحد رابعه إلى الصحراء‏. هذا والحكام والولاة على ما هم عليه‏:  لا تنه عن خلق وتأتي مثله    عار عليك إذا فعلت عظيم ) .

 نداء بالصيام وبالتوبة عن المعاصى والظلم ، والخروج الى الصحراء إعلانا للتوبة . والمقريزى يتندّر قائلا : ( هذا والحكام والولاة على ما هم عليه‏:

 لا تنه عن خلق وتأتي مثله    عار عليك إذا فعلت عظيم ) .!  

4 ـ ( وفي يوم الأحد رابعه‏:‏ خرج قاضي القضاة علم الدين صالح في جمع موفور إلى الصحراء خارج باب النصر وجلس بجانب تربة الظاهر برقوق ، فوعظ الناس على عادته في عمل الميعاد فكثر ضجيج الرجال والنساء وكثر بكاؤهم في دعائهم وتضرعهم، ثم انفضوا قبيل الظهر. فتزايدت عدة الأموات عما كانت‏.).

أكابر المجرمين من رجال الدين يقودون حملة للتوبة في الصحراء . النتيجة : ( فتزايدت عدة الأموات عما كانت‏.). ماذا لو خرج اليوم أكابر المجرمين في حملة للتوبة ؟ هل ستنهزم أمامهم كورونا ؟ أم ستنتشر أكثر ؟‏

5 ـ ( وفي حادي عشرينه‏:‏ قبض على الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج وكثير من أزلامه ( أتباعه ) ، وسُلّموا إلى الأمير أقبغا أستادار. ثم أفرج عنه في رابع عشرينه ، على مال يحمله‏.). هذا الرجل كان من أكابر الحرامية وكان له أزلام أي أتباع ، وهو من أكابر المجرمين من الجناح المدنى ، ويحمل لقب أمير.  لنفهم خلفية هذا الخبر :

5 / 1 :. قبلها بعام وفى شهر ربيع الأول ( ‏ فيه ترك طائفة كبيرة من مماليك السلطان الجلب الذين يسكنون الطباق بقلعة الجبل إلى بيت الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج أستادار وتسوروا الجدران حتى دخلوه فنهبوا ما فيه وكان غائباً عنه وعبثوا في طريقهم بالناس فأخذوا ما قدروا على أخذه ثم مضوا إلى بيت ناظر الديوان المفرد ثم إلى بيت الوزير فأدركهم مقدم المماليك والزمام وتلطفا بهم حتى انصرفوا عن بيت الوزير وسبب ذلك تأخر جوامكهم بالديوان المفرد لشهرين فلما شكوا ذلك إلى السلطان قال لهم امضوا إلى المباشرين‏. فنزلوا وكان يوماً شنعاً ) المماليك الجلبان يعرفون أن هذا الرجل من أكابر اللصوص ، ويرون أنهم أحق بما عنده من أموال فاستباحوا نهب قصوره وقصور الآخرين . 5 / 2 : لتعويض ما سلبوه منه قام بسلب القرى والفلاحين المساكين ، يقول المقريزى ( سار الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج أستادار إلى النواحي ففرض على كل بلد مالاً سماه الضيافة ليستعين بذلك على عجز الديوان المفرد لنفقة المماليك السلطانية فجبي مالاً كثيراً ، فإنه كان يأخذ من البلد مائة دينار ويأخذ من أخرى دون ذلك على حسب ما يراه، فاختل حال الفلاحين خللاً يظهر أثره فيما بعد والله المستعان‏.).

5 / 3 : رجع هذا الحرامى بما سلب من القرى والفلاحين فوجد سيده الحرامى الأكبر برسباى في إنتظاره ، يقول المقريزى ( وفي حادي عشرينه‏:‏ قبض على الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج وكثير من أزلامه،    وسلموا إلى الأمير أقبغا أستادار ثم أفرج عنه في رابع عشرينه على مال يحمله‏. ).

5 / 4 :  السمكة تفسد من رأسها ، سواء كانت رأس برسباى أو رأس السيسى ..ولا جديد تحت الشمس .. في مصر وغير مصر ...!

اجمالي القراءات 4379