القول السديد
سلامٌ من الله عليكم جميعاً ,
ورد القول السديد في كتاب الله جل وعلا مرتين , فما هو القول السديد ! و ماذا يراد به ! و إلى ماذا يشير !
الموضع الأول :
يقول سبحانه و تعالى في سورة الأحزاب ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ) 70 :
القول السديد هو القول الفعلي المبني على التقوى , أي هو التنفيذ العملي لكلام الله جل وعلا , أو بمعنى آخر هو ترجمة كلام الله جل وعلا إلى أفعال على أرض الواقع ,
فمهما قال الإنسان من أقوال حتى لو كان القائل نبياً مبعوثاً يبقى كلامه يحتمل الخطأ و الصواب , تلك حقيقة فعلية لا أحد يستطيع إنكارها , و الأدلة الناطقة على ذلك كثيرة , و نحن هنا لسنا بصدد سردها , ( مشيئة الله هي قوله و فعله , و مشيئة البشر هي قولهم و فعلهم , و مشيئته سبحانه و تعالى لا تحتمل سوى الصواب , أما مشيئة البشر فتحتمل الصواب و الخطأ ) ,
فلو رجعنا لبداية سورة الأحزاب , لفهمنا هذا المراد و تلك الحقيقة , حيث يقول سبحانه و تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) 1-2 :
و هنا نلاحظ ارتباط التقوى بالقول العملي و الفعلي المبني على ما أوحى الله جل وعلا – أي كلامه سبحانه و تعالى – و لا شيء سواه ,
و هنا نستخلص بشكلٍ واضح و جليّ بأن القول السديد هو قوله جل وعلا فقط و لا شيء سواه , و بما أنه قولاً سديداً فهذا يدفعنا للإيمان بأنه قولاً شاملاً كاملاً لا نقص فيه , فلا يحتاج منا أو من الأنبياء إلى أي إضافات أو تعديلات .
و لو نظرنا نظرةً سريعة لبداية سورة الأحزاب و لنهايتها لوجدنا في بدياتها الدعوة و الأمر للنّبي عليه السلام بإتباع القول السديد ( كلام الله جل وعلا ) و الاتكال على هذا القول فقط , مبتعداً عن أي قولٍ دونه ,
و لوجدنا في نهايتها الدعوة و الأمر لجميع المؤمنين من بعده بإتباع هذا القول السديد دون غيره من الأقوال ,
و هذا الإتباع الحصري مرهونٌ بترجمته إلى الفعل و العمل بالانصياع الكامل لأمره و نهيه , و به وحده يتحقق التقوى , و يتحقق الفوز و النجاح يوم الحساب ,
كما نرى في ختام سورة الأحزاب قوله جل وعلا ( يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) 71 :
فصلاح الأعمال هي تقبلها من الله جل وعلا يوم الحساب , و هذا التقبل مشروط بتنفيذ القول السديد و ترجمته الفعلية و العملية , و تطابق تلك الأعمال و انسجامها معه , و هذا ما نفهمه بطاعة الله جل وعلا و طاعة رسوله ( أي رسالته و قوله ) و ما جاءنا من أمر و نهي , كي نفوز الفوز العظيم – الجنة – يوم الحساب .
الموضع الثاني :
يقول سبحانه و تعالى في سورة النساء ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا ) 9 :
علينا هنا أن نستلهم ذاكرتنا بالتذكير بأن سورة النساء تحدثت عن الميراث و فصلته تفصيلاً , هذا التفصيل هو أمر الله جل وعلا ( أي هو القول السديد ) الذي ينبغي أن نفعله انصياعاً ,
كما نستلهم ذاكرتنا أيضاً بأنها تحدثت أيضاً عن الوصية لما يتركه الموصي لمن بعده ,
فكيف لنا أن نوافق ما بين الوصية و ما بين تفصيل الميراث الوارد بالقول السديد :
بما أن توزيع الميراث قد جاءنا مفصلاً , فنحن هنا أمام التنفيذ الحرفي له , أي لا ينبغي لنا أن نبدي شيئاً آخر يتنافى أو يتضارب مع ما هو مُفصّل , لأن هذا التفصيل هو القول السديد الذي لا ينبغي لنا سوى الانصياع إليه , و ترجمته للفعل العملي بناءاً لتفصيله و تفاصيله ,
و على هذا الأساس أرى بأنه لا يجوز للموصي بأن يوصي لورثته بشيء يخالف ما فصله الله جل وعلا ( و هنا أركز القول على ورثته الشرعيين فقط ) , لأن الميراث يقع ضمن الأرزاق التي هي بيد الله جل وعلا , و هو وحده من يوزعها على عباده كيف يشاء , و مشيئته سبحانه و تعالى في موضوع الميراث قد كتبها و بيّنها لنا مسبقاً , فأي تضارب مع هذا التوزيع أرى بأنه مخالفاً لمشيئته سبحانه ( أي يقع على عاتق و مشيئة الموصي ) ,
هذا ما أراه في قوله جل وعلا ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا ) , فالخشية هنا هي مفتاح التقوى , و التقوى هو الانصياع الكلي و الحرفي للقول السديد بتنفيذه و العمل وفقاً لما جاء فيه ,
و هنا نشاهد الأمر الإلهي جلياً و واضحاً بالنهي للموصي بأن يوصي لذريته أي لورثته بأي شيء يخالف التوزيع الوارد بالذكر الحكيم ( القول السديد ) , حتى و إن كان الموصي يرى بأن يوصي لورثته الضعفاء بشيءٍ أكبر مما ينتج عن القسمة الشرعية للورثة الشرعيين على حساب الورثة الأقوياء ,
هذا لا يعني بأن يعطي أو بأن يمنح صاحب الميراث ميراثه لأحدٍ من ورثته قبل موته , فهذا جائز و شرعي , لأنه صاحب المال و هو وحده المتصرف فيه حسب مشيئته و هو على قيد الحياة , و لكن لا يجوز له بأن يوصي في وصيته بعد موته توزيعاً لإرثه مخالفاً لما فصله الله جل وعلا في هذا التوزيع الشرعي الذي هو مشيئة الله ,
فوصية الموصي يجب أن تنسجم و تتوافق مع التوزيع الشرعي للورثة الشرعيين , فكما نرى فالآيات كلها تبين هذا الأمر و توضحه و تحث عليه , و لهذا نرى بأن الميراث يتم توزيعه على الورثة الشرعيين من بعد سداد الدين و من بعد تنفيذ ما أوصى به الموصي في وصيته , أي أن وصيته لا تشمل ورثته الشرعيين , بل تتعداهم لمن هم دون ورثته ,
فالوصية تقتصر و تكون من نصيب من لا حق لهم في الميراث , كأن يوصي الموصي في وصيته بالتبرع بمبلغٍ مذكور لأحد الأشخاص من غير الورثة أو لعملٍ يتم تنفيذه خدمتاً للبعض , أو بمنحه لأحدٍ من الجمعيات أو الجهات أو المؤسسات , حتى و إن كان هذا التبرع في وصيته يشمل كل أرثه ,
هكذا يتم التوافق و هكذا يتم الانسجام ما بين الوصية و ما بين تفصيل الميراث الوارد تفصيلاً في القول السديد , و الذي نحن مطالبون بترجمته للقول العملي و الفعلي كي ننال القبول من الله جل وعلا و نفوز بالفوز العظيم بتنفيذنا لأمره و لتفصيله .
كما أرى فإنه يحق للورثة الشرعيين بأن يعطي بعضهم بعضاً , و هذا من بعد أن يأخذ كلٌ منهم حصته الشرعية كما هي , و هذا العطاء هو الذي يؤلف بين الورثة , و يجعلهم أكثر تماسكاً و انسجاماً مع بعضهم البعض , فالقوي منهم يعطي الضعيف , و هذا ما أمر به الله جل وعلا في باب رعاية الأهل و الأقارب و صلة الأرحام , فلو كان التوزيع مخالفاً للتوزيع الشرعي فالعداوة و البغضاء و القطيعة تقع بين هؤلاء الورثة ( و هذا واقعٌ ماثلٌ و ملموسٌ بين أيدينا هذه الأيام ) .
هذا المقال يبين لنا إدراكنا لوجوب العمل بالقول السديد دون غيره , و هنا أكرر بأن القول السديد هو قول الله جل وعلا فقط , مع الأخذ بعين الاعتبار و التنويه لمصطلح ( القول المعروف ) و هو الفعل الذي تعارف عليه البشر و تعارفت عليه المجتمعات , و هو ما تركه الله جل وعلا ليحكم فيه البشر حسب مشيئتهم , أما مشيئة الله جل وعلا فينبغي أن يعمل بها دون أي تضارب أو تخالف ( مشيئة الله غالبة على مشيئة البشر ) , أي لا مشيئة للبشر فيما شاءه الله جل وعلا .