الأسبوع الماضى أديت فريضة الحج فى أواخر الأشهر الحُرُم : رابعا :
1 ـ كان موعد السفر للحج هو العاشرة مساء الخميس 21 نوفمبر ، من مطار واشنطن الدولى ( دالاس ) بطائرة شركة يونايتيد الأمريكية الى ترانزيت فى مطار فرانكفورت ، ومنها الى مطار جدة بطائرة لوفيتهانزا ، لنصل اليوم التالى حوالى العاشرة مساءا . ثم المغادرة من جدة حوالى الساعة 2 صباح 28 نوفمبر الى فرانكفورت ومنها الى واشنطن الخميس 28 نوفمبر.
2 ـ حجز لى ابنى حسام مقعدا متحركا يستعمله المرضى والعاجزون عن السير فى الطرقات الطويلة فى المطارات . هناك نوعان : كرسى متحرك يدفعه شخص ، وهناك سيارات خاصة تنقل الأشخاص بأمتعتهم بمجرد دخولهم المطار ، كما فى مطار فرانكفورت . مطار العاصمة الأمريكية الدولى متخلّف فى هذه الناحية . يتعين على المريض مثلى أن يسير على قدميه ومعه حقائبه حوالى كيلومتر الى أن يصل الى منفذ شركة الطيران التى حجز فيها . وهناك بعد تسليم الحقائب ينتظر الى أن يأتيه شخص بالمقعد المتحرك يسير به الى البوابة المخصصة لطائرته . الكرسى المتحرك ضرورى بالنسبة لى ، ليس فقط فى تخفيف عناء المشى أميالا داخل المطار وبواباته وطوابقه ، ولكن أيضا لأن إجراءات التفتيش والجوازات تجعل الأولوية للمعاقين راكبى هذه الكراسى .
3 ـ كان مقررا أن نسافر أنا وأم محمد ومعنا ابنى الأمير من واشنطن، ونتقابل مع ابنى حسام فى ترانزيت فرانكفورت ، لأنه سيسافر من لوس انجلوس حيث يعمل . أوصلنا ابنى محمد وسار معنا أنا وأم محمد وأمير لتسهيلات الحقائب ، وأخذ الأمير جواز سفرى وسبقوا جميعا بالحقائب الكثيرة الى حيث توجد منافذ شركة يونايتيد . كنت أسير بعدهم بنفسى لاهثا متكئا على عصاى ، وحدث أن سقطت العصا فكانت رحلة مضنية فى الانحناء لإلتقاطها ،هاجمتنى فيها آلام الظهر . وصلت وقلبى يخفق ، وجلست أنتظر إنهاء الحصول على التذكرة باستعمال جواز السفر وإنهاء تسجيل الحقائب ، والأهم وصول من يدفع بى الكرسى المتحرك الى حيث ننتظر ركوب الطائرة . أشعر بحرج شديد فى الجلوس على مقعد متحرك ، لأن علامات الشيخوخة ليست واضحة عندى تبرر إستعمال هذا الكرسى ، خصوصا وأنا أرى الأمريكيين الأكبر منى سنا وهم يسيرون بنشاط يدفعون حقائبهم . يزيد الحرج مع حظى التعس حين يكون الشخص الذى يدفع بى الكرسى إمرأة أو رجل عجوز مثلى ، لا أرى إن هذا يليق بى ، ولكنه الإضطرار . لهم بقشيش بطبيعة الحال ، ولكن هذا لا ينفى الحرج . فى هذه المرة كان الذى يدفع الكرسى بى عجوزا فى نفس سنّى ، سألته هل هو من باكستان فرد فى أنفة أنه من بنجلاديش . دفع بى الكرسى وهو يلهث ، وكان باديا عليه الإجهاد ، وكان يطلب من ابنى الأمير أن يعاونه ، وشعرت بالأسف من أجله وتمنيت فى لحظة سيريالية أن أهبط من الكرسى وأساعده .!!. كانت المعاناة التالية فى ركوب طائرة شركة يونايتيد الأمريكية . كنا فى درجة الفقراء ( الإقتصادية ) وعاقبتنا الشركة بمقاعد ضيقة يشكو منها الراكب الشاب النحيف فكيف بعجوز مريض بدين مثلى ؟
4 ـ تفصيلات المعاناة هذه مهمة لأنها مرتبطة بأعظم ما فى التشريع الاسلامى ، وهو التخفيف والتيسير ورفع الحرج . ليس فى الحج فقط فى هذه الرحلة بل فى الصلاة والطهارة أيضا . لله الحمد رب العالمين أننى طيلة حياتى ما أضعت فرضا من فروض الصلاة التى أوجبها رب العزة على المؤمنين كتابا موقوتا . أتيمم صعيدا ( أى مرتفعا ) طيبا بإسعمال مناديل ورقية أمسح بها الوجه واليدين ، التيمم بالتراب دليل التخلف العقلى فى تشريعات المحمديين ، فكيف يكون التراب الذى نسير عليه صعيدا طيبا ؟. لا عذر فى تضييع الصلاة فى أوقاتها حتى فى الحرب والمطاردة ( صلاة الخوف ) . أنا أصلى الصلاة فى وقتها بأى كيفية وأنا فى السيارة أو فى الطائرة ، وأحاول الخشوع ما إستطعت .
5 ـ هبطت بنا الطائرة اليونايتيد فى مطار فرانكفورت ، ووجدت فى إنتظارى رعاية لا أحلم بها ، شخص مرافق بسيارة يوصلنى الى مرافق آخر ، وركوب سيارة مريحة أميالا الى أن وصلت الى بوابة الطائرة المتجهة الى جدة . ومن حُسن الحظ أنها ليست يونايتيد بل لوفتهانزا. الفقراء أصحاب درجة الاقتصادية يتمتعون فيها بطرقات واسعة وكراسى مريحة . وإلتقينا بحسام فى مطار فرانكفورت .
6 ـ وصلنا معا الى مطار جدة فى اليوم التالى الجمعة 22 نوفمبر العاشرة مساءا . كان ينتظرنى الكرسى المتحرك ، وكنا نتظاهر بعدم القلق ، وقد إستعد حسام والأمير لابلاغ شقيقهم الشريف بأى شىء يحدث لنا ، وكان شريف وقتها فى أسبانيا يقضى أجازة عيد ميلاده الأربعين ، ومنتظر بالتليفون . لم يحدث شىء . فى الجوازات كنت فى المقعد المتحرك أمام فتاة منقبة سعودية تراجع جواز سفرى وطلبت بصماتى وإلتقاط صورة لى كالمعتاد ، وأنتهى الأمر ، وربما إبتسمت ( داخل النقاب ) وهى تشير لى مرحبة بدخول المملكة السعودية . تنفسنا ( الصعداء ) ، أى أنفاسا تصاعدت الى السماء .! ومن جدة الى مكة حرص حسام على أن يستأجر لنا سائقا سعوديا حتى نجتاز الحواجز بلا تعقيدات ، ولفت نظرى إتساع الطريق السريع وكثرة سيارات النقل ذوات المقطورة بما يدل على رواج . وكان حسام قد حجز لنا جناحا فى فندق ( أجنحة هيلتون جبل عمر ) ، يطل مباشرة على الحرم ، وأحد أبوابه يبتعد عن الحرم مسافة قصيرة، ومن شباك الغرفة نرى الحرم ونسمع الأذان والصلاة .
7 ـ كنا فى غاية الارهاق بعد سفر طويل وليلة بلا نوم ، ومع ذلك نزلنا سريعا لأرى الكعبة لأول مرة فى حياتى . إجتزنا ساحات مبلطة معبّدة غير مسقوفة بعدها ساحات مسقوفة ، وكلها تحيط بالحرم الذى تتوسطه الكعبة . ونبّه علينا حسام أن ندخل الحرم من باب الملك فهد رقم 73 حسبما أتذكر ، فهو المواجه للفندق إختصارا للطريق .
8 ـ من حُسن حظنا أنه لم يكن وقتها إزدحام فى الطواف . قلت لأم محمد وحسام وأمير ، نبدأ نية الإحرام والطواف . كانت لديهم معرفة سابقة بمناسك الحج الاسلامية ومعنى الإحرام . كانت معى عصاى أتوكأ عليها ، وطمأنت الأولاد أننى سأستطيع الطواف ، وأخذ كل منهما بعضدى يعيننى على السير ، وأمامى زوجتى وبدأنا الطواف ، أطوف وهم معى أقرأ آيات القرآن الكريم فى التسبيح والحمد والدعاء وهم يسمعون ، وكانت لحظات إيمانية رائعة . إنتهى الطواف وقررنا الإعتكاف الى صلاة الفجر . ومكثنا نقرأ القرآن ونصلى . أخذنى التعب وغلبتنى الحاجة للتبول فإصطحبنى الأولاد الى الفندق لأصلى الفجر فيه ، وصممت أم محمد على البقاء لتصلى الفجر فى الحرم . وهكذا كانت تفعل معظم الأيام ، أكرمها الله جل وعلا . كانت تتركنى بعد العشاء أو فى منتصف الليل لتذهب الى الإعتكاف فى الحرم ، واشعر بالقلق على سيرها وحدها ، فأتذكر الأمن والأضواء التى تحيل الليل نهارا والحركة المستمرة من الفندق الى الشارع الفاصل بينه وبين ساحات الحرم ، فأحمد الله جل وعلا .
9 ـ فى اليوم التالى عزمت على الراحة ، ولكن الأمير رأى ألّا نفوّت هذا اليوم بدون أداء بعض المناسك . وإقترح تأدية السعى بين الصفا والمروة . وطلبوا كرسيا متحركا من الفندق ، ونزلت به ليلا وهما يدفعانه ، وبمعونتهما تمكنت من السعى بين الصفا والمروة راكبا الكرسى . إستلزم هذا منهما جهدا كبيرا ، ليس فقط لطول المسافة ولكن أيضا للإرتفاع والإنخفاض فى الطريق .
10 ـ وهذا يحتم الإشادة بالتجهيزات التى أقامها آل سعود فى البيت الحرام وحوله . السعى بين الصفا والمروة جعلوا له طريقين متوازيين للمُشاة ، وبينهما طريقان متوازيان لمن يسعى راكبا الكرسى . الطواف حول الكعبة له طوابق تضاف الى الأصل حول الكعبة . قبل الدخول الى الحرم المكى هناك ساحات مسقوفة وغير مسقوفة تحيط به تتسع لعشرات الألوف من المصليين ، وبوابات للحرم المكى مرقمة ، وإشارات بالعربية والفارسية والانجليزية تيسّر الأمر على الحجّاج ، والمئات من الخدم والعسكر القائمين بالارشادات والتنظيم ، وآلاف من الكراسى الصغيرة التى يمكن إستعمالها عصا وفردها لتكون كرسيا . وكانت هذه الكراسى نعم الرفيق لى إذ لا أستطيع الجلوس على الأرض ولا أستطيع السجود فى الصلاة . ثم حواجز متحركة ليسهل التحكم فى أعداد الحاضرين حسب اللزوم ، ومنافذ لحنفيات الشرب من ماء زمزم،وآلاف النسخ من المصاحف متاحة للجميع . قضيت أوقاتا من الاعتكاف فى الحرم بين الصلاة والدعاء وقراءة القرآن حسبما إستطعت .
11 ـ فى اليوم التالى كان الوقوف بعرفة . كان لابنى حسام صديق مصرى ساعدنا فى كل شىء ، أكرمه الله جل وعلا . إصطحبنا بسيارته الى جبل عرفات ، وكان الطريق اليه مفتوحا ، ووصلنا الى الجبل ، وصعد الأولاد وأمهم الى أعلى الجبل ، وكان مستحيلا أن أفعل ذلك ، فمكثت فى السيارة أدعو وأذكر الله جل وعلا حسبما أمر . ليس فرضا قضاء الليل فى عرفات . هو مجرد إقامة حسبما يتيسر الوقت . مكثنا وقتا ثم أفضنا راجعين من عرفات حيث مررنا بالمشعر الحرام منى ومزدلفة فتوقفنا لذكر الله جل وعلا ، ثم عدنا الى الحرم .
12 ـ ظل معى الأمير وأم محمد فى الحرم بينما إنطلق حسام مع صديقه المصرى لشراء الهدى . وأنا فى الحرم لم أستطع الطواف للوداع . كنا عصرا وموعد المغرب يقترب وجموع الناس تتزايد . وصفوف الطواف حول الكعبة تملأ الطابق الأرضى المحيط بالكعبة . أحضروا لى كرسيا من الفندق لأطوف به ، حيث ستكون مسافة الطواف طويلة نظرا للإبتعاد عن الكعبة ، فمنعوا دخول الكرسى وقالوا أن الوقت المتاح هو بعد الحادية عشر ليلا . أعاد الأمير الكرسى . وتركنى أنتظره فى مكان تحوطه الحواجز ، بينما كانت أم محمد فى مكان آخر للسيدات . بسبب الزحام وإستمرار التوافد قاموا بإفساح الطريق ونقل الناس بعيدا عن الحرم فى الجزء المسقوف . إنتقلت أم محمد من مكان لآخر ، وعاد الأمير فتاه عن مكانى . كنت جالسا على هذا الكرسى الذى يمكن إستعماله عصا ، والجلوس عليه غير مريح ، هو للضرورة فقط ، والتليفون المحمول معى قدّم إستقالته ، وبسبب كثرة الجلوس بدأ الكرسى الضعيف يئن ويميل مؤذنا بإسقاطى ، ولو سقطت لن أستطيع القيام بنفسى ، هذا إذا لم يحدث لى كسر . أشغلت نفسى بالقرآن ، وكتابة ملاحظات عن بعض الآيات . بحث الأمير عن أمّه فوجدها ، شكى لها أنه لم يعثر علىّ ، أخذها الفزع ، وإنطلقا فى البحث عنى ، ووجدانى قبيل السقوط من على المقعد الحزين . كنت أحبس الرغبة فى التبول . طلبت الذهاب سريعا الى أقرب دورة مياه فعرفنا أن الأقرب منها هو الذهاب مباشرة الى الفندق . من حّسن الحظ أن الجناح الذى إستأجرناه فيه حمامان الأول منهما بجانب الباب مباشرة . هذه معاناة أنجاكم الله جل وعلا منها .
13 ـ أحضر حسام الهدى وقام بالمطلوب ، وسنتعرض لذلك بالتفصيل فيما بعد . لكن بالنسبة لى فقد قررت التحلل من الإحرام فقد أديت المناسك من طواف وسعى ين الصفا والمروة والوقوف بعرف وذكر الله جل وعلا والاعتكاف والصلاة وقراءة القرآن . بعد الإفاضة أو الرجوع من عرفات والمرور بمنى والمزلفة يتبقى فى شرعهم رمى الجمار وهو تشريع شيطانى ( وهناك يقولون على الطريق المؤدى لرمى الجمرات : طريق الشيطان ) . لم يبق إلا طواف الوداع ، ولم أستطع القيام به . وقد قررت الإستفادة بتشريع التخفيف والتيسير وأنه جل وعلا لا يكلف نفسا إلا وسعها . مكثت الأيام التالية مستريحا فى الفندق الى أن جاء أوان العودة.
14 ـ بينما إكتفيت بالحج معتكفا بالفندق كانت أم محمد مشغولة بالاعتكاف فى الحرم ، وقد أدّت العمرة للمرة الثالثة الى جانب الحج، وهو هنا المرة الثانية لها . وسألتنى هل تؤدى السعى بين الصفا والمروة فى العمرة أيضا وقد سبق أن سعت فى الحج ؟ فقلت : نعم . دخلت مرة منزعجة ، فهناك جراد منتشر فى الساحات المحيطة بالحرم ، وهى تحاذر منها وتخشى أن تسير عليها وتقتلها . وحدث أن تسللت جرادة الى ملابسها وجاءت بها الى الفندق ، فألقت بها فى الحمام . وسألتنى : هل هذا قتل للصيد ؟ قلت لا فليس الجراد صيدا .
15 ـ لقد فرض الله جل وعلا الحج على من إستطاع اليه سبيلا . أى المستطيع بماله وبصحته ، ليس لى مال ولست فى صحة تمكننى من أداء المناسك . ولكن هناك السبيل المُستطاع ، وهم أولادى ، بأموالهم وجهدهم . جزاهم الله جل وعلا خيرا .