من ف 4 ، من ج 1 ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )
إبن الجوزي وكتابه ( تلبيس إبليس )

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٠١ - نوفمبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

                إبن الجوزي وكتابه ( تلبيس إبليس )

من ف 4 ، من ج 1 ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )

لمحة عن الكتاب

1 ـ بدأ إبن الجوزي كتابه ( تلبيس إبليس ) بالأمر بلزوم السنة والجماعة والتحذير من البدع والمبتدعين ، ثم عرض لدور إبليس في انحراف الفرق المبتدعة من الفلاسفة وأصحاب الديانات القديمة ، ثم التفت للفرق الفلسفية من المتكلمين فرد عليهم وأفرد المعتزلة والخوارج والشيعة بالاهتمام , ثم عرض لآفات العلماء في عصره من الرياء وطلب الشهرة وحب الرياسة ثم ألمح إلى السلاطين والولاة والزهاد والعباد وما وقعوا فيه من زلل وابتداع . وأفرد الجزء الأكبر من الكتاب وهو حوالي الثلثين للحديث عن متصوفة عصره ، فذكر إنكار الناس على رواد الصوفية وعرض لآرائهم وعاداتهم وشطحاتهم ونبه على أخطائها ، وحكي الكثير من وقائعهم في الزي والعبادة والسماع والرقص والذكر وعدائهم للعلم وحبهم للطعام واشتهارهم بالشذوذ الجنسي وتأويلهم للآيات والأحاديث . وفى أثناء ذلك نقد كتب الصوفية مثل الإحياء للغزالي وقوت القلوب لأبى طالب المكي .

2 ـ وقد جرى إبن الجوزي في كتابه على طريقة الفقهاء والمحدثين معاً ، فهو يورد الأقوال المخالفة ويرد على الشبهات فيها ، ثم يحرص في رواياته على العنعنة والسند فيقول ( حدثنا فلان قال حدثنا فلان عن فلان إلخ ) ونظرا ً لتكرار كلمة ( حدثنا ) فإنه يختصرها إلى ( ثنا ) أي ( حدثنا فلان قال ثنا فلان ثنا ........) وهكذا. وقد أفاده علمه بالتاريخ في ردوده فكان يورد أحوال العرب الجاهلين أو تاريخ النبي عليه السلام  والسلف في معرض الرد والاستشهاد.

3 ـ ويلاحظ أنه لم يكثر من الاستشهاد بآيات القرآن , وفى القرآن الكفاية لمن أراد توضيح العقيدة الصحيحة والرد على أصحاب العقائد الفاسدة , وغلب على استشهاده بالقرآن ناحية التفسير ب ( المأثور) أي يعزز الآية التي يستشهد بها بما قاله ابن عباس مثلاً في تفسيرها .

4 ـ ووضح تأثر إبن الجوزي في كتابه ( تلبيس إبليس ) باثنين من العلماء أولهما : أبو الوفاء إبن عقيل شيخ الفقهاء والمتكلمين في عصره، وكان ابن الجوزي يروي عنه ويصفه ب (شيخنا ) أما الثاني فكان الغزالي . وبرغم الخصومة بين إبن عقيل وإبن الجوزي من جانب والغزالي من جانب آخر ، وبرغم ما قام به إبن الجوزي من ردود على الغزالي وكتابه الإحياء في تلبيس إبليس ، برغم ذلك فإن تأثير الغزالي واضح في منهج إبن الجوزي في الوعظ والرقائق ، ويكاد يتفق معه في التنبيه على خطأ المتكلمين والعلماء والسلاطين ، وربما يرجع ذلك إلى تأثر إبن الجوزي بالتصوف واعتقاده في جدوى التوسل بالقبور وإمكانية جريان الكرامات على ما يعتبرهم أولياء ، ولهذا لم يسلم كتابه من الاضطراب والأغلاط .

 5 ـ ونعيش مع صفحات من ( تلبيس إبليس ) لنتعرف على منهجه .

                                            نص من تلبيس إبليس

                   من ص 330 : 338 – المطبعة المنيرية

                  ( ذكر تلبيس إبليس في الشطح والدعاوى )

( قال المصنف رحمه الله : أعلم أن العلم يورث الخوف واحتقار النفس وطول الصمت ، وإذا اعتبرت علماء السلف رأيت الخوف غالباً عليهم والدعاوى بعيدة عنهم ، كما قال أبو بكر : " ليتني كنت شعرة في صدر مؤمن" . وقال عمر عند موته :" الويل لعمر إن لم يغفر له ". وقال ابن مسعود: " ليتني إذا مت لا أبعث " , وقالت عائشة رضي الله عنها: " ليتني كنت نسياً منسياً." قال المصنف رحمه الله: وإنما صدر مثل هذا من هؤلاء السادة لقوة علمهم بالله ، وقوة العلم به تورث الخوف والخشية. قال الله عز وجل: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) وقال صلى الله عليه وسلم ( أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية ) ولما بعد عن العلم أقوام من الصوفية لاحظوا أعمالهم واتفق لبعضهم من اللطف ما تشبه الكرامات فانبسطوا.

أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ  حدثنا أبو الفضل محمد بن على السهلكى قال : سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الله الشيرازي يقول :ثنا أبو بكر بن عمر ثنا أبو عمر الرهاوى ثنا أحمد بن محمد الجزري قال : سمعت أبا موسى الدليلي يقول : سمعت أبا يزيد البسطامي يقول : " وددت أن قد قامت القيامة حتى أنصب خيمتي على جهنم ". فسأله رجل : " ولما ذاك يا أبا يزيد ؟ فقال : " إني أعلم أن جهنم إذا رأتني تخمد فأكون رحمة للخلق ". أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري ثنا أبو سعد بن أبي سادق ثنا ابن باكوية إبراهيم بن محمد ني حسن ابن علوبة ني طيفور بن عيسى ني أبو موسى الشبلي قال : سمعت أبا يزيد  يقول : " إذا كان يوم القيامة وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فأسأله أن يدخلني النار " فقيل له : لم ؟ قال  حتى تعلم الخلائق أن بره ولطفه في النار مع أوليائه .

قال المصنف رحمه الله : هذا الكلام من أقبح الأقوال لأنه يتضمن تحقير ما عظم الله عز وجل أمره من النار ، فإنه عز وجل بالغ في وصفها فقال ( فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) وقال (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً  ) إلى غير ذلك من الآيات ، وقد أخبرنا عبد الأول نا ابن المظفر نا ابن أعين ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا إسماعيل ثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن ناركم هذه ما يوقد بنو آدم جزءاً من سبعين جزء من حر جهنم . قال له الصحابة : والله إن كانت لكافية يا رسول الله . قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها ) أخرجاه في الصحيحين . وفى أفراد مسلم من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام من كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ) . أخبرنا محمد ابن ناصر نا جعفر بن أحمد نا أبو على التميمي نا أبو بكر بن مالك ثنا عبد الله بن احمد ثنى أبى ثنا بهز بن أسد ثنا جعفر بن سليمان ثنا على بن يزيد عن مطرف عن كعب قال : قال عمر بن الخطاب : يا كعب خوفنا فقال : يا أمير المؤمنين أعمل عمل رجل لو وافيت القيامة بعمل سبعين نبياً لازدرأت عملك مما ترى . فأطرق عمر رضي الله عنه ملياً ثم أفاق قال : زدنا يا كعب قلت : يا أمير المؤمنين لو فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب لغلى دماغه حتى يسيل من حرها . فأطرق عمر ملياً ثم أفاق فقال : زدنا يا كعب . قلت : يا أمير المؤمنين إن جهنم لتزفر يوم القيامة زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مصطفى إلا خر جاثياً على ركبتيه ويقول رب نفسي نفسي لا أسألك اليوم غير نفسي . أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد نا حمد بن أحمد الحداد ثنا أبو نعيم الحافظ ثنا أبي ثنا أحمد بن محمد ابن الحسن البغدادي ثنا إبراهيم بن عبد الله الجنيد ثنا عبد الله بن محمد بن عائشة ثنا سالم الخواص عن فرات بن السائب عن زاذان قال : سمعت كعب الأحبار يقول : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ونزلت الملائكة وصارت صفوفا فيقول : يا جبرائيل ائتني بجهنم فيأتي بها جبريل فتقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرت زفرة طارت لها أفئدة الخلائق ثم زفرت ثانية فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثي على ركبتيه ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر وتذهل العقول فيفزع كل امرئ إلى عمله حتى أن إبراهيم الخليل يقول : بخلتي لا أسألك إلا نفسي ويقول موسى : بمناجاتي لا أسألك إلا نفسي . وأن عيسى ليقول بما أكرمتني لا أسألك إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني . قلت : وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا جبرائيل مالي أرى ميكائيل لا يضحك فقال : ما ضحك ميكائيل مذ خلقت النار وما جفت لي عين مذ خلقت جهنم مخافة أن أعصى الله فيجعلني فيها . وبكى عبد الله بن رواحة يوماً فقالت امرأته : مالك تبكى ؟؟ قال : أنبئت أنى وارد ولم أنبأ أنى صادر ."

قال المصنف رحمه الله : فإذا كانت هذه حالة الملائكة والأنبياء والصحابة وهم المطهرون من الأدناس وهذا انزعاجهم لأجل النار فكيف هانت عند هذا المدعى ؟ ثم إنه يقطع لنفسه بما لا يدرى به من الولاية والنجاة؟  وهل قطع بالنجاة إلا لقوم مخصوصين من الصحابة ؟. وقد قال صلى الله عليه وسلم ( من قال إني في الجنة فهو في النار ) وهذا محمد بن واسع يقول عند موته : " يا أخوتاه أتدرون أين يذهب بي ؟ يذهب بي والله الذي لا إله إلا هو إلى النار أو يعفو عنى " . قلت وهذا إن صح عن هذا المدعى فهذا غاية من تلبيس إبليس . وقد كان ابن عقيل يقول : قد حكى عن أبى يزيد أنه قال : " وما النار؟ والله لئن رأيتها لأطفأتها بطرف مرقعتي أو نحو هذا؟"  قال : " ومن قال هذا كائن فهو زنديق يجب قتله، فإن الأهون للشيء ثمرة الجحد ، لأن من يؤمن بالجن يقشعر في الظلمة ومن لا يؤمن لا ينزعج ، وربما قال يا جن خذوني . ومثل هذا القائل ينبغي أن يقرب إلى وجهه شمعة فإذا انزعج قيل له هذه جذوة من نار" . أنبأنا محمد بن ناصر نا أبو الفضل السهلكي قال : سمعت أبا عبد الله الشيرازي يقول ثنا أبو إسحق إبراهيم بن محمد قال سمعت الحسن بن علوية يقول : سمعت طيفور الصغير يقول سمعت عمى خادم أبى يزيد يقول : سمعت أبا يزيد يقول : " سبحاني سبحاني ما أعظم شأني " . ثم قال : " حسبي من نفسي حسبي ". قلت : هذا إن صح عنه فربما يكون الراوي لم يفهم لأنه يحتمل أن يكون قد ذكر تمجيد الحق نفسه فقال فيه : ( سبحاني ) . حكاية عن الله لا عن نفسه . وقد تـأوله له الجنيد بشيء إن لم يرجع إلى ما قلته فليس بشيء . فأنبأنا ابن ناصر نا السهلكي نا محمد بن القاسم الفارسي سمعت الحسن بن على المذكر سمعت جعفر الخلدي يقول : قيل للجنيد أن أبا يزيد يقول سبحاني سبحاني أنا ربى الأعلى . فقال الجنيد : أن الرجل مستهلك في شهود الجلال فنطق بما استهلكه، أذهله الحق عن رؤيته إياه فلم يشهد إلا الحق فنعته . قلت : وهذا من الخرافات . أنبأنا الحسن عن محمد بن الفضل الكرماني نا سهل بن على الخشاب , وأنبأنا أبو الوقت عبد الأول  نا أحمد بن أبى نصر الكوفلني نا الحسن ابن محمد بن فوزي نا عبد الله بن على السراج قال سمعت أحمد بن سالم البصري بالبصرة يقول في مجلسه يوماً : " فرعون لم يقل ما قال أبو يزيد ، لأن فرعون قال ( أنا ربكم الأعلى ) الرب يسمى به المخلوق يقال رب الدار، وقال أبو يزيد سبحاني سبحاني لا يجوز إلا لله " . فقلت : " قد صح عندك هذا عن أبى يزيد؟  فقال : " قد قال ذلك ". فقلت يحتمل أن يكون لهذا الكلام مقدمات يحكى بأن الله يقول سبحاني لأنا لو سمعنا رجلا يقول ( لا إله إلا أنا )  علمنا أنه يقرأ . وقد سألت جماعة من أهل بسطام من بيت أبى يزيد عن هذا فقالوا لا نعرف هذا . أنبأنا ابن ناصر نا أبو الفضل السهلكي قال سمعت أبا عبد الله الشيرازي يقول سمعت عامر بن أحمد قال سمعت الكناني يقول حدثني أبو موسى الدئيلي قال سمعت أبا يزيد يقول : " كنت أطوف حول البيت أطلبه فلما وصلت إليه رأيت البيت يطوف حولي " . قال الشيرازي : وحدثنا إبراهيم بن محمد قال سمعت الحسن بن علوية يقول سمعت طيفور الصغير يقول سمعت أبو يزيد يقول : " حججت أول حجة فرأيت البيت , وحججت الثانية فرأيت صاحب البيت ولم أر البيت , وحججت الثالثة فلم أر البيت ولا صاحب البيت ". قال الشيرازي : وسمعت محمد بن داودية يقول : سمعت عبد الله بن سهل يقول : سمعت أبا موسى الدئيلي يقول : سمعت أبا يزيد ( وسئل عن اللوح المحفوظ ) . قال : " أنا اللوح المحفوظ " . قال الشيرازي : وسمعت المظفر بن عيسى المراغي يقول : سمعت سيرين يقول : سمعت أبا موسى الدئيل يقول : قلت لأبى يزيد : " بلغني أن ثلاثة قلوبهم على قلب جبريل".  قال : " أنا أولئك الثلاثة "  : " كيف ؟ قال : " قلبي واحد . وهمي واحد . وروحي واحد" . قلت : " وبلغني أن واحدا قلبه على قلب إسرافيل " . وقال : " وأنا ذلك الواحد ، مثلى مثل بحر مصطلم لا أول له ولا آخر. " , قال السهلكى : وقرأ رجل عند أبى يزيد ( إن بطش ربك لشديد ) فقال أبو يزيد : " وحياته إن بطشي أشد من بطشه " . وقيل لأبى يزيد : " بلغنا أنك من السبعة ". قال : " أنا كل السبعة " . وقيل له: " إن الخلق كلها تحت لواء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم " فقال: " والله إن لوائي أعظم من لواء محمد . لوائي من نور تحته الجن والإنس كلهم مع النبيين"  . وقال أبو يزيد : " سبحاني سبحاني ، ما أعظم سلطاني ، ليس مثلي لا فى السماء يوجد ، ولا مثلي صفة في الأرض تُعرف . أنا هو وهو أنا ، وهو هو" . أخبرنا المحمدان بن ناصر وابن عبد الباقي قالا نا حمد بن أحمد نا أبو نعيم الحافظ ثنا أحمد ابن أبى عمران  ثنا منصور بن عبد الله . قال سمعت أبى يقول قيل لأبى يزيد : إأنك من الأبدال السبعة الذين هم أوتاد الأرض" , فقال : " أنا كل السبعة ".  أنبأنا ابن ناصر أبو الفضل السهلكي قال سمعت أبا الحسين محمد بن القاسم الفارسي قال : سمعت أبا نصر بن محمد بن إسماعيل البخاري يقول : سمعت أبا الحسين على بن محمد الجرجاني يقول سمعت الحسن بن على بن سلام يقول : " دخل أبو يزيد مدينة فتبعه منها خلق كثير فالتفت إليهم فقال ( إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدون ) فقالوا : "جُنّ أبو يزيد : فتركوه , قال الفارسي : وسمعت أبا بكر أحمد بن محمد النيسابوري قال : سمعت أبا بكر أحمد بن إسرائيل قال سمعت خالي على بن الحسين يقول سمعت الحسن بن على بن حياة يقول : سمعت عمى وهو أبو عمران موسى بن عيسى بن أخي أبى يزيد قال سمعت أبى يقول قال أبو يزيد : " رُفع بي مرة حتى قمت بين يديه ، فقال لي : يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك . فقلت:  يا عزيزي وأنا أحب أن يروني ". فقال : يا أبا يزيد إني أريد اريكهم . فقلت يا عزيزي إن كانوا يحبون أن يروني وأنت تريد ذلك وأنا لا أقدر على مخالفتك . قربني بوحدانيتك , وألبسني ربانيتك , وارفعني إلى أحديتك . حتى إذا رآني خلقك , قالوا رأيناك فيكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك : ، ففعل بي ذلك وأقامني وزيني ورفعني . ثم قال : " أخرج إلى خلقي فخطوت من عنده خطوة إلى الخلق خارجاً، فلما كان من الخطوة الثانية غُشي على فنادى : " ردوا حبيبي فإنه لا يصبر عنى ساعة" . أنبأنا ابن ناصر  نا السهلكي . قال سمعت محمد بن إبراهيم الواعظ يقول سمعت محمد بن محمد الفقيه يقول سمعت أحمد بن محمد الصوفي يقول سمعت أبا موسى يقول حكى عن أبى يزيد أنه قال : " أراد موسى عليه الصلاة والسلام أن يرى الله تعالى ، وأنا ما أردت أن أرى الله تعالى هو أراد أن يراني ". أخبر أبو بكر بن حبيب  نا أبو سعد بن أبى صادق الحيري  ثنا أبو عبد الله بن باكويه  ثنا أبو الطيب بن الفرغاني قال سمعت الجنيد بن محمد يقول : " دخل علىّ أمس رجل من أهل بسطام فذكر أنه سمع أبا يزيد البسطامي يقول : اللهم إن كان في سابق علمك أنك تعذب أحداً من خلقك بالنار فعظم خلقي حتى لا تسع معي غيري ".

قال المصنف رحمه الله : أما ما تقدم من دعاويه فما يخفى قبحها . وإما هذا القول فخطأ من ثلاثة أوجه . أحدها أنه قال إن كان في سابق علمك وقد علمنا قطعاً أنه لا بد من تعذيب خلق بالنار وقد سمى الله عز وجل منهم خلقاً. كفرعون وأبى لهب فكيف يجوز أن يقال بعد القطع واليقين إن كان . والثاني قوله تعظم خلقي فلو قال لا دفع عن المؤمنين ولكنه قال حتى لا تسع غيري فأشفق على الكفار أيضاً وهذا تعاط على رحمة الله عز وجل.والثالث أن يكون جاهلاً بقدر هذه النار أو واثقاً من نفسه بالصبر وكلا الأمرين معدوم عنده قلت : " ثم قال والله لقد تكلمت أمس مع الخضر في المسألة : وكانت الملائكة يستحسنون قولي . والله عز وجل يسمع كلامي فلم يعب علىّ ولو عاب علىّ لأخرسني " . قلت لولا أن هذا الرجل قد نسب إلى التغيير لكان ينبغي أن يرد عليه : " وأين الخضر ومن أين له أن الملائكة تستحسن قوله ، وكم من قول معيب لم يعاجل صاحبه بالعقوبة . وقد قال بلغني عن سمنون المحب أنه كان يسمى نفسه الكذاب بسبب أبياته التي قال فيها :

وليس لي في سواك حظ    فكيفما ما شئت فامتحني

فابتلى بحبس البول فلم يقر له قرار، فكان بعد ذلك يطوف على المكاتب وبيده قارورة يقطر منها بوله ويقول الصبيان أدعوا لعمكم الكذاب . "

قال المصنف رحمه الله : أنه ليقشعر جلدي من هذه أتراه على ما يتقاوى ؟ وإنما هذه ثمرة الجهل بالله سبحانه وتعالى ولو عرفه لم يسأله إلا العافية . وقد قال " من عرف الله كلّ لسانه". أخبرنا أبو بكر بن حبيب  نا أبو سعد بن أبى صادق نا ابن باكويه قال : سمعت محمد بن داوود الجرجاني يقول سمعت أبا العباس بن عطاء يقول :" كنت أرد هذه الكرامات حتى حدثني الثقة عن أبى الحسين النوري وسألته فقال كذا كان . قلت : كنا في سميرية ( مركب ) في دجلة فقالوا لأبى الحسين: " أخرج لنا من دجلة سمكة فيها ثلاثة أرطال وثلاث أواقي " فحرك شفتيه ، فإذا سمكة فيها ثلاثة أرطال وثلاث أواقي ظهرت من الماء حتى وقعت في السميرية . فقيل لأبى الحسين : " سألناك بالله ألا أخبرتنا بماذا دعوت"  فقال : قلت : " وعزتك لئن لم تخرج من الماء حوتاً فيها ثلاث أرطال وثلاث أواقي لأغرقن نفسي في دجلة " . أخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر بن ثابت قال أخبرني عبد الصمد بن الخطيب ثنا الحسن بن الحسين الهمداني قال سمعت جعفراً الخلدي سمعت الجنيد يقول سمعت النوري يقول : " كنت بالرقة فجاءني المريدون الذين كانوا بها وقالوا : " نخرج ونصطاد السمك ". فقالوا لي : " يا أبا الحسين هات من عبادتك واجتهادك وما أنت عليه من الاجتهاد سمكة يكون فيها ثلاثة أرطال لا تزيد ولا تنقص" : فقلت لمولاي : " إن لم تخرج إلىّ الساعة سمكة فيها ما قد ذكروا لأرمينّ بنفسي في الفرات" , فأخرجت سمكة فوزنتها فإذا فيها ثلاثة أرطال لا زيادة ولا نقصان , قال الجنيد : فقلت له : " يا أبا الحسين لو لم تخرج كنت ترمى بنفسك ؟ " . قال : " نعم ".  أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعد بن أبي صادق نا ابن باكويه نا أبو يعقوب الخراط . قال : قال لي أبو الحسين النوري : " كان في نفسي من هذه الكرامات شيء،  فأخذت من الصبيان قصبة وقمت بين زورقين وقلت : " وعزتك لئن لم تخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لا تزيد ولا تنقص لا آكل شيئاً ". قال فبلغ ذلك الجنيد فقال : " كان حكمه أن تخرج له أفعى تلدغه ". أخبرنا ابن حبيب  نا ابن أبى صادق  نا ابن باكويه قال سمعت الحسين بن أحمد الفارسي يقول سمعت الرقي يقول سمعت على بن محمد بن أبان قال سمعت أبا سعيد الخراز يقول : " أكبر ذنبي إليه معرفتي إياه."

قال المصنف رحمه الله : هذا إن حمل على معنى أني لما عرفته لم أعمل بمقتضى معرفته فعظم ذنبي كما يعظم جرم من علم وعصى وإلا فهو قبيح .

أخبرنا ابن حبيب  نا ابن أبى صادق  نا ابن باكويه  ثنى أحمد الحلفاوي قال سمعت الشبلي يقول : " أحبك الخلق لنعمائك وأنا أحبك لبلائك " . أخبرنا محمد بن أبى القاسم أنبأنا الحسن بن محمد بن الفضل الكرماني  نا سهل بن على الخشاب , وأخبرنا أبو الوقت  نا أحمد بن أبى نصر  نا الحسن بن محمد بن فوزي قال  نا عبد الله بن على السراج قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد الهمدانى يقول : " دخلت على الشبلي فلما قمت لأخرج كان يقول لي ولمن معي إلى أن خرجنا من الدار : " مُرّوا أنا معكم حيثما كنتم وأنتم في رعايتي وكلاءتي" .

حدثنا محمد ابن ناصر  نا أبو عبد الله الحميدي  نا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني  نا أبو عبدالرحمن السلمي قال سمعت منصور بن عبد الله يقول : دخل قوم على الشبلي في مرض موته الذي مات فيه , فقالوا : " كيف نجدك يا أبا بكر؟ "  فأنشأ يقول :

إن سلطان حبه      قال لا أقبل الرشا

فســلوه فديته          ما لقتلـى تحرشا

قال ابن عقيل : " وقد حكى عن الشبلي أنه قال أن الله سبحانه وتعالى , قال : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) والله  لا رضىمحمد صلى الله عليه وسلم وفى النار من أمته أحد" . ثم قال : إن محمدا يشفع في أمته واشفع بعده في النار حتى لا يبقى فيها أحد. "  قال ابن عقيل : " والدعوة الأولى عن النبي صلى الله عليه وسلم كاذبة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يرضى بعذاب الفجار . كيف وقد لعن في الخمر عشرة . فدعوى أنه لا يرضى بتعذيب الله عز وجل للفجار دعوة باطلة وإقدام على جهل بحكم الشرع . ودعواه بأنه من أهل الشفاعة في الكل وأنه يزيد على محمد صلى الله عليه وسلم كفر ، لأن الإنسان متى قطع لنفسه بأنه على مقام النبوة بل يزيد على المقام المحمود وهو الشفاعة العظمى . قال ابن عقيل والذي يمكنني في حق أهل البدع لساني وقلبي ولو اتسعت قدرتي في السيف لرويت الثرى من دماء خلق . " .

أخبرتنا شهدة بنت أحمد قالت أخبرنا جعفر بن أحمد  ثنا أبو طاهر محمد بن على العلاف سمعت أبا الحسين بن سمعون سمعت أبا عبد الله العلقي صاحب أبا العباس ابن عطاء سمعت أبا العباس بن عطاء يقول : " قرأت القرآن فما رأيت الله عز وجل ذكر عبداً فأثنى عليه حتى ابتلاه . فسألت الله تعالى أن يبتليني فما مضت الأيام والليالي حتى خرج من دارى نيف وعشرون ميتاً ما رجع منهم أحد. قال وذهب ماله , وذهب عقله , وذهب ولده وأهله , فمكث بحكم الغلبة سبع سنين أو نحوها وكان أول شيء قاله بعد صحوه من غلبته :

حقاً أقول لقد كلفتني شططاً     حملي هواك وصبري إن ذا عجب "

قلت : قلة علم هذا الرجل أثمر أن سأل البلاء . وفى سؤال البلاء معنى التقاوي وذاك من أقبح القبيح . و- الشطط- الجور ولا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى . وأحسن ما حمل عليه حاله أن يكون قال هذا البيت في زمان التغير .

أخبرنا محمد بن ناصر أنبأنا أحمد بن على أن خلف  نا محمد بن الحسين السلمي سمعت أبا الحسن على بن إبراهيم الحصري يقول : " دعوني وبلائي . ألستم أولاد آدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه , وأسجد له ملائكته وأمره بأمره فخالفه ؟  إذا كان أول الدن دردي كيف يكون آخره ؟"  , قال : وقال الحصري : " كنت زماناً إذا قرأت القرآن لا أستعيذ من الشيطان وأقول الشيطان حتى يحضر كلام الحق ." قال المصنف رحمه الله قلت : أما القول الأول فإنه يتسلط على الأنبياء جرأة قبيحة وسوء أدب . وأما الثاني فمخالف لما أمر الله عز وجل به فإنه قال : ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ) .

أخبرنا أبو بكر ابن أبى طاهر نا عباد بن إبراهيم النسفي  ثنا محمد بن الحسين السلمي قال وجدت في كتاب أبى بخطة سمعت أبا العباس أحمد بن محمد الدينوري يقول : "  قد نقضوا أركان التصوف وهدموا سبيلها وغيروا معانيها بأسامي أحدثوها سموا الطمع زيادة , وسوء الأدب إخلاصاً , والخروج عن الحق شطحاً , والتلذذ بالمذموم طيبة وسوء الخلق صولة , والبخل جلادة , وإتباع الهوى ابتلاء , والرجوع إلى الدنيا وصولاً ، والسؤال ( التسول ) عملاً , وبذىء  اللسان ملامة . وما هذا طريق القوم " .  وقال ابن عقيل : " عبرت الصوفية عن الحرام بعبارات غيروا لها الأسماء مع حصول المعنى ، فقالوا في الاجتماع على الطيبة والغناء والخنكرة , أوقات .. وقالوا في المردان شاهد وفى المعشوقة أخت , وفى المحبة مريدة ، وفى الرقص والطرب وجد , وفى مناخ العهود والبطالة رباط ., وهذا التغيير للأسماء لا يباح ".

                                   التعليق

1 ـ في النص السابق يتضح منهج إبن الجوزي في كتابه ( تلبيس إبليس )؛ فقد بدأ حديثه عن شطحات الصوفية بالاستشهاد بأحاديث منسوبة للرسول عليه السلام وكبار الصحابة في الخوف من الله مع أن آية (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) تكفى . ثم أورد شطحات الصوفية بالسند والعنعنة ليثبت صدورها فعلاً من قائليها . ثم كان يرد على بعض هذه الشطحات بآيات من القرآن وبأحاديث وأقاويل للصحابة والسلف الصالح ، وواضح أنه تم وضعها للرد على الصوفية خصوصا .

2 ـ وثمة ناحية أخرى جنح إليها إبن الجوزي هي الاستشهاد بما قاله أعيان الصوفية في الهجوم على صوفية عصرهم،  فنراه يردد مقالة أبى العباس الدينوري في صوفية عصره ( قد نقضوا أركان التصوف وهدموا سبيلها وغيروا معانيها بأسامي أحدثوها ....الخ ) وقد أوردها القشيري في رسالته [1] ثم ذكر إلى جانبها مقالة شيخه ابن عقيل وهى أوقع , يقول ( عبرت الصوفية عن الحرام بعبارات غيروا لها الأسماء مع حصول المعنى فقالوا في الاجتماع على الطيبة والغناء والخنكرة : أوقات، وقالوا في المردان شاهد ، وفى المعشوقة أخت ، وفى المحبة مريدة ، وفى الرقص والطرب وجد ، وفى مناخ العهود والبطالة رباط , وهذا التغيير للأسماء لا يباح ) .

3 ــ وكان إبن الجوزي مؤمناً ببعض رموز التصوف كالكرامات , فهو يؤمن بإمكانية  وقوعها على أيدي الصوفية من أصحاب الشطحات والأقوال الكافرة , يقول ( ولما بعد عن العلم أقوام من الصوفية لاحظوا أعمالهم واتفق لبعضهم من اللطف ما تشبه الكرامات، فانبسطوا ) .

4 ـ وبسبب تأثره بالتصوف كان أحياناً يقع في محاولة للدفاع عن أصحاب الشطحات بدعوى التأويل،  تأويل الشطحات والاعتذار عنها , وذلك موقف صوفي يدافع به المعتدلون من الصوفية عن الصرحاء منهم , فقد ذكر سلسلة من شطحات أبى يزيد البسطامي ورد عليها ثم روى مقالة أبى يزيد ( سبحاني سبحاني ما أعظم شاني ) وعلق عليها بقوله ( قلت : هذه ــ إن صح عنه ــ فربما يكون الراوي لم يفهم لأنه يحتمل أن يكون قد ذكر تمجيد الحق نفسه فقال فيه : سبحاني حكاية عن الله لا عن نفسه ، وقد تأوله له الجنيد ) أي أنه يدافع عن البسطامي بأعذار حقيقتها في سريرة البسطامي نفسه , ولو أنصف إبن الجوزي لتذكر أن كل أقوال البسطامي التي ذكرها إبن الجوزي نفسه تفضح نفسيته وعقيدته , وكلها واضحة التعبير ولا تحتمل التأويل والاعتذار .

5 ـ ويؤمن إبن الجوزي بما أشاعه الصوفية من مصطلح ( التغيير ) ومعناه أن نفسية أحدهم تتغير من حال إلى حال ، وحينئذ يخرج عن مألوف شعوره ويقول ما يقول وهو في غيبة لا يعي ما يقول ، فإذا رُدّ إليه حاله وعى وأصبح مسئولاً عما يقول . ومفهوم أن تلك إحدى وسائلهم في الاعتذار عن الشطحات والدفاع عن أصحابها ، بأنهم كانوا في حالة ( غيبة واستهلاك ووجد ) وانجذاب.  ومن الطبيعي أن يلجأوا إلى مثل هذا الاعتذار في مجتمع كان يحاسب فيه الصوفية على ما يقولون من شطحات، وكانوا على أساسها يُحاكمون ويُدانون .

6 ـ وكان منتظرا من إبن الجوزي باعتباره مؤرخاً أن يتفهم الأسباب الحقيقة التي جعلتهم يشيعون هذه الإعتذارات عن التغيير والوجد والغيبة والتقية. إلا إنه آمن بهذه الأفكار، بل واعتذر بها عن أصحاب الشطحات بمثل ما يفعله الصوفية أنفسهم. ونرى إبن الجوزي يروى مقالة أحدهم في كلامه مع الخضر واستحسان الملائكة لكلامه وأن الله تعالى يسمع له ولم يعب عليه , ويرد إبن الجوزي ( قلت : لولا أن هذا الرجل قد نسب إلى التغير، لكان ينبغي أن يرد عليه ) . ويروى حادثة أخرى عمن سأل الله أن يبتله فابتلاه في أبنائه وماله وأهله وعقله ، ويعلن إبن الجوزي ( قلت : قلة علم هذا الرجل أثمر أن سأل البلاء .. وأحسن ما حمل عليه حاله أن يكون قال هذا البيت في زمان التغيير ) .

7 ـ وأحياناً يروى إبن الجوزي أساطير الكرامات بالعنعنة والسند كما لو كانت عنده أحاديث  يؤمن بها ، أو من المعلوم عنده من الدين بالضرورة . ومعلوم أن الرواة الذين ينقل عنهم هم من الصوفية الذين أشاعوا الاعتقاد في أساطير الكرامات . وينقل إبن الجوزي عنهم كالمصدق لهم ، ثم يورد في معرض التعليق كلام شيخهم الجنيد فيمن طلب أن تخرج له من الفرات سمكة زنتها ثلاثة أرطال بالتمام والكمال , يقول الجنيد ( كان حكمه أن تخرج له أفعى تلدغه ) . ومعناه أن الجنيد ينقم على صاحبه أن استعرض كراماته وذلك لا يجوز , فهو تأكيد خفي لإمكانية وقوع الكرامات ما كان ينبغي أن يذكره إبن الجوزي بدون تعليق يضع الأمور في نصابها ، لولا أنه كان يؤمن فعلاً بكرامات الصوفية ولو كانوا من أصحاب الشطحات وادعاء الألوهية .

8 ـ ولو أنصف إبن الجوزي لربط بين ادعاءات الصوفية في الألوهية ـ وقد نقل جانباً منها ــ وبين ادعائهم الكرامات أو التصريف في ملك الله ، ولأوضح أن ادعاء الكرامات والتصريف في ملك الله إنما هو إحدى سمات التأليه الذي يضيفونه للولي الصوفي ، وإذا أنكر عليهم شطحاتهم في ادعاء الألوهية فكان عليه أن ينكر أيضاً أقاويلهم في الكرامات . وبذلك يستقيم منهجه في خط واحد.

9 ـ وقد حكى إبن الجوزي بعض شطحات أبو يزيد البسطامي والشبلي وغيرهما . ولم يحاول أن يربط هذه الشطحات بعقائد الصوفية في الحلول والاتحاد ووحدة الوجود , لأنه إذا تحدث عن عقائد التصوف وأساسها أمكن أن يتضح الاتفاق بين تلك الشطحات والعقيدة الأساسية التي قام عليها التصوف . وإبن الجوزي تعرض في باب الفلسفة لمقالات أهلها وعقائدهم وعقائد الشيعة والباطنية وأصحاب الديانات الأخرى، إذا فلديه علم بالعقائد والفلسفات ، وكان يمكنه بقليل من التمحيص أن يرى الاتفاق بين شطحات الصوفية وأقوال الديانات الأخرى والفلسفات الوثنية ، ولو فعل لرأى أن تلك الشطحات لم تصدر عن فراغ ، وليست استثناء ، وإنما هي ترجمة حقيقية لعقائد ثابتة ، وكل ما هناك أن تلك العقائد كانت لا تزال في دور النمو والانتشار فلا بد أن تحمى نفسها بالستر والرمز ، ومن أعلنهما صراحة يُقال فيه دفاعا عنه أنه في حالة وجد وغيبة وتغير ولا تكليف عليه ، إلى آخر الاعتذارات المألوفة عن الصوفية الصرحاء .

10 ـ إلا أن إبن الجوزي تعامل مع الصوفية بالقطعة ، فهاجم نفرا منهم باعتبارهم أصحاب شطحات ، وظاهر عليهم بأقوال الصوفية المعتدلين ، ولم يفطن إلى نفاق أولئك المعتدلين كالجنيد والدينوري،  ثم أوقع نفسه في الاعتقاد في رموز صوفية كالكرامات والتوسل والتزكية بالصلاح والتقوى , ومن هنا كان اضطرابه في النقد وضعفه في الرد .

12- والشطحات والدعاوى التي أوردها إبن الجوزي عن الصوفية إنما تمثل عقائد صوفية ثابتة في تأليه الولي الصوفي باعتباره متحدا بالله ، وعلى ذلك الأساس يمكن أن نفهم مقالة البسطامي ( سبحاني ما أعظم شاني ) وأقواله ( وما النار ؟ والله لئن رأيتها لأطفأتها بطرف مرقعتي ) ( إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدون ) ( رفع بي مرة حتى قمت بين يديه فقال لي يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك فقلت يا عزيزي وأنا أحب أن يروني فقال : يا أبا يزيد إني أريد أن اريكهم فقلت يا عزيزي ... قربني بوحدانيتك وألبسني ربانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا رأيناك فيكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك , ففعل بي ذلك وأقامني وزينني ورفعني .. )  وذلك تصوير لعقيدة الصوفية في الاتحاد بالله وحلول الله فيهم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا , ويقول الشبلي لأصحابه إذا خرجوا من عنده ( أنا معكم حيثما كنتم وأنتم في رعايتي وكلاءتي ) يشبه نفسه بالله تعالى حيث يقول ربنا جل وعلا لعباده (..وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ..الحديد4).

بل إن الصوفي قد يفضل نفسه على الله كقول أبى يزيد لمن قرأ (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) فقال ( وحياته إن بطشي أشد من بطشه ) وقوله ( سبحاني سبحاني ما أعظم سلطاني ليس مثلى في السماء يوجد ولا مثلى صفة في الأرض تعرف أنا هو وهو أنا وهو هو ) .

وإذا كان الصوفي يؤله نفسه بل ويفضلها أحيانا على الله تعالى فمن المنتظر أن يفضل الصوفي نفسه على الأنبياء، وتلك عقيدة أساسية في دين التصوف  كتب عنها ابن عربي فيما بعد في بيت مشهور يقول :

مقام النبوة في بزخ     فوق الرسول ودون الولي

ومنذ بداية التصوف كان أبو يزيد البسطامي يقول ( والله إن لوائي أعظم من لواء محمد , لوائي من نور تحته الجن والإنس كلهم مع النبيين ) ويقول عن موسى عليه السلام ( أراد موسى عليه السلام أن يرى الله تعالى وأنا ما أردت أن أرى الله  تعالى ، هو أراد أن يراني ) وقال عن الشفاعة ( إن محمداً يشفع في أمته، وأشفع بعده في النار حتى لا يبقى فيها أحد) . وسبق في نص المناقب عن إبراهيم الدسوقي ما يفيد تفضيله على موسى عليه السلام .

13 ـ ويضيق الصدر عن متابعة أقوالهم . ومن شاء المزيد فليرجع للنص ، وإنما ذكرنا على سبيل الاستشهاد . ونُفضّل ترك الفرصة للقارئ في تفهم النصوص والحكم عليها .

 



[1]
الرسالة القشيرية 31 .

اجمالي القراءات 4007