النشر فى جريدة ( البلاغ الجديد ) : ف1 من كتاب : (جهادنا ضد الوهابية )

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٢٩ - يناير - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

النشر فى جريدة ( البلاغ الجديد ) :  ف1 من كتاب : (جهادنا ضد الوهابية )

 عبد الستار الطويلة والنشر فى البلاغ الجديد

أولا  :

1 ــ الاستاذ عبد الستار الطويل ، مناضل فريد فى مواقفه وفى كتاباته وهو لم يأخذ حقه من التكريم . بدأ ماركسيا مدافعا عن ( العدل ) وانتهى مدافعا عن العدل والحرية معا ، وفى مشوار حياته تمسّك بما يؤمن به ، ولم يداهن ولم ينافق ، فقاسى السجن والتعذيب . هذا الثراء فى تاريخه النضالى واكبه ثراء آخر فى مؤلفاته المتعددة من مقالات وكتب،تعتبر كلها مرجعا للتاريخ المصرى فى الفترة التى عايشها وكان فيها شاهدا على عصره.

قبل حكم العسكر إنضم الى تنظيمات ماركسية ، يدخل إحداها ليخرج منها الى الأخرى ، من "حدتو" الى "طليعة العمال" الى "الحزب الشيوعي المصري". ودفع الثمن سجنا لمدة ثمانى سنوات من شبابه . كانت تلك التنظيمات الماركسية غاية فى التزمت والانغلاق الفكرى والتشكك فى الآخرين ، ولعل هذا يفسر عدم مكوثه فيها . على أن إخلاصه للماركسية كلّفه ثمانى سنوات سجنا فى العهد الملكى . إستبشر خيرا بانقلاب الجيش ، ثم خاب أمله بإعدام إثنين من شباب النقابيين العمال ( خميس والبقرى )، وقف ضد عبد الناصر مع مجموعة من الشيوعيين يطالبون بالليبرالية  فتم تقديمه مع رفاقه للمحاكمة عام 1953 ، ثم ضاق صدر عبد الناصر بالشيوعيين فكان إعتقال حوالى 700 منهم عام 1959 ، حيث تعرضوا لتعذيب هائل ، ربما كان عبد الستار أكثر من عانى منهم وصمد . ثم أفرج عنه وعنهم عبد الناصر بعد خمس سنوات ونصف . ولم يهنأ بالحرية سوى عامين إذ سرعان ما إستضافته سجون عبد الناصر ستة شهور أخرى .!. ومع هذا دافع عن عبد الناصر بعد موت عبد الناصر ، وأيّد السادات فى حرب اكتوبر وفى معاهدة السلام مع اسرائيل معرضا نفسه لنقمة اليساريين . ثم ما لبث أن إختلف مع السادات بسبب الانفتاح الاقتصادى ، لم يسجنه السادات ، منعه فقط من دخول القصر الجمهورى . إقترب من مبارك مؤيدا له فى سياسته مع اسرائيل وفى موقفه من الاخوان وتنظيماتهم الوهابية الارهابية . وتوالت ــ فى الهجوم عليهم ـ  كتبه ومقالاته ، وكان ينشرها فى الوفد واخبار اليوم وروز اليوسف والمساء . وقد ضم معظم مقالاته فى كتاب بعنوان ( حكومة مدنية أم دينية ) نشرته الهيئة لعامة للكتاب عام 1996 .وتوفى عام 1998 عن سبعين عاما.

2 ـ شرفت بالتعرف الى الاستاذ عبد الستار الطويلة فى أخريات حياته ، معجبا بتاريخه النضالى وجمعه بين الدعوة للعدل والليبرالية. وأحسست بخيبة أمله فى سياسة مبارك التى تطارد الاخوان المسلمين أمنيا وسياسيا بينما تحمى الوهابية ـ دين الاخوان ـ فعليا . وربما كان هذا الذى دفع الاستاذ عبد الستار الى إصدار جريدة اسبوعية هى ( البلاغ الجديد ).

3 ـ تكلم معى الاستاذ عبد الستار الطويلة ، قال لى أن الرئيس مبارك منحه رخصة الجريدة ( البلاغ الجديد )، وأنه يريدنى كاتبا ثابتا فيها . قلت والى أى حد تكون حرية التعبير فى هذه الجريدة ؟ قال لى : أكتب ضد المتطرفين كما تريد . كان معه شاب وسيم ، من محافظة الشرقية . عرفت أنه المُموّل للجريدة ، وأنه متزوج من سعودية ثرية ـ ربما كانت أميرة من الأسرة الحاكمة .

بدأت النشر فى البلاغ الجديد ، بمقالات قرآنية تحت عنوان ( هذا بلاغ للناس ). فى نهاية عام 1994  . وتوالت المقالات من نفس النوعية . بعدها دخلت فى نقد الأحاديث فانتهت علاقتى بجريدته .

ونعطى نماذج لما سبق نشره فى البلاغ الجديد :

أولا : المقال الأول : 

جريدة البلاغ الجديد

7/12/1994

هذا بلاغ  للناس : دين الله المفترى عليه !!

* الله سبحانه وتعالى ينزل الدين لإقامة العدل والقسط بين الناس يقول تعالي " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" : الحديد 25

   أي أن الهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية هو إقامة القسط والعدل بين  الناس..

   ولكن الذي يحدث أن ينتشر الظلم بين الناس ، ثم يتستر الظلم برداء الدين ليصبح قتلا باسم الدين ، وأكلا لأموال الناس بالباطل باسم  الدين ، بل يظهر محترفو التدين الذين يتاجرون في الدين ويرتزقون باسمه أو بتعبير القرآن الحكيم " يشترون بآيات الله ثمنا قليلا " وأولئك يعملون في خدمة كل حاكم ظالم يزينون له ظلمه بالافتراء على دين الله والكذب على رسول الله ، وفي النهاية يتحول دين الله الذي نزل لإقرار القسط إلى نوعيات من التدين فيها كل أنواع الظلم .. وباسم الدين ..

* أولئك الذين يحولون عدالة  الدين وسماحته إلى ظلم وتعصب لا يظلمون البشر فقط ، ولكن يظلمون رب العزة حين افتروا على دينه ما لم ينزل به سلطانا ، ولذلك فإن القرآن العظيم يعتبر أفظع أنواع الظلم الافتراء على الله تعالى بالكذب والتكذيب بآياته .. يقول تعالى في صيغة التعجب والاستنكار " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ؟ إنه لا يفلح المجرمون ": يونس 17 .

   أي ليس هناك أظلم من الذي يكذب على الله أو يكذب بآيات الله ..

* ونحن نتوجه بنفس السؤال الاستنكاري إلى أولئك الذين حولوا دين الله العظيم إلى فتاوى بالقتل وسفك الدماء وتأسيس التعصب والكراهية بين الناس ، وبحور من الدماء في القرى والمدن والشوارع للشباب والشيوخ والنساء والأطفال والأبرياء من السياح المواطنين ..

    من المسئول عن اتهام الإسلام العظيم بالتطرف والتعصب والإرهاب ؟

    إنهم أولئك الذين افتروا على الله ورسوله كذبا من علماء السلف ..

    والذين يسيرون على منهاجهم يستعيرون مفاهيم العصور الوسطى من التعصب وسفك الدماء باسم الدين ، تلك المفاهيم التي نزل  القرآن لإلغائها فعادت متسترة بأحاديث وفتاوى تناقض وحي السماء .. القرآن العظيم ..

    لقد نزل القرآن بلاغا من رب العزة للناس فقال تعالى " هذا بلاغ للناس ولينذروا به " إبراهيم 52 .

   وقد آلت صحيفة " البلاغ الجديد" أن تصحح مفاهيم الإسلام الحق من خلال البلاغ الإلهي .. القرآن الكريم والله المستعان ..

 

مقال : ( هذا بلاغ للناس )( الدين لله والوطن للجميع ) بتاريخ 14/ 12 /1994م

* هل من حق المسلم أن يكفر أحدا من الناس ؟ بل هل كان من حق النبى أن يكفر أحدا من الناس ؟

نبدأ بالأجابة على السؤال الثاني ، فهو الأهم فى موضوعنا .. وفيه الإجابة على السؤال الأول .

 ونحكي هذه الحكاية التراثية ، وسندها الأصلى هو القرآن الكريم .

* كان المنافقون يتفنون فى إيذاء النبى وهو الحاكم المطاع في المدينة ، ومع أن النبى كان يمك سلطاته السياسية ويستطيع استعمالها ضد أولئك الذين يؤذونه إلا أنه لم يستخدمها، بل إن الله تعالى قال له " ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله : الأحزاب 48 " .

ومع أن النبي كان ينزل عليه الوحي يحكم بكفر أولئك المنافقين إلا أن ذلك الحكم بالتكفير كان حقا لله وحده، وليس للنبي بدليل أن الوحي القرآن كان ينزل بأمر للنبي بأن يعرض عن المنافقين وعن مكائدهم وايذائهم له.. ولذلك كان يدع ايذائهم ويعرض عنهم متوكلاً على الله دون أن يرد عليهم ودون أن يتهمهم بالكفر.. وهو النبي صاحب الوحي وصاحب الحكم السياسي في المدينة.

* والمنافقون كانوا من قبل أصحاب السلطات في يثرب قبل أن تتحول إلى مدينة الإسلام . فلما جاء الإسلام انقلبت أوضاعهم، ورأوا النبي وهو الحاكم يستشير كل الناس وليس كبار أهل المدينة فقط، فنقموا على النبي أنه يعطي أذنه لكل إنسان يسمع منه ويستشيره, فأطقوا على النبي أنه "أذن" أي يسمع من هذا وذاك, وكان من جملة ايذئهم للنبي هو تنذرهم عليه بذلك اللقب, ولم يرد النبي عليهم ولم يتهمهم بالكفر ولم يستعمل ضدهم سلتطه السياسية, إلى أن نزل القرآن وحياً يدافع عن النبي، يقول تعالى عن أولئك المنافقين "ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذنُ خير لكم, يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين, ورحمة للذين آمنوا منكم, والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم:التوبة61" أي أن الله تعالى هو الذي يرد عن النبي ويدافع عنه ويقول أنه حين يستمع للناس فذلك خير للناس, وأنه يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين أي يثق فيهم ويطمئن إليهم، ثم أنه رحمة للمؤمنين..وقد أرسله الله تعالى رحمة للعالمين. ومع أن أولئك المنافقين يحكم الله تعالى عليهم بأن لهم عذاباً أليماً إلا أن الرسول الذي هو رحمة للعالمين ورحمة للمؤمنين لايتهم أولئك الجناة بالكفر مع أنهم يستحقونه.. بل كان على العكس.. كان يحاول معهم بكل ما يستطيع أن يستميلهم للهدى, فكان يدعوهم ليستغفر لهم, وكانوا يرفضون, ويلوون رؤوسهم في أنفة واستكبار ويقول تعالى في ذلك "وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووُا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون" ويقول تعالى في الآية التالية منبهاً النبي ألا يتعب نفسه معهم "سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم, لن يغفر الله لهم:المنافقون5 , 6 ".

   ومع ذلك فإن النبي بخلقه الرفيع ورحمته بهم كان يستغفر لهم, فنزل قوله تعالى " استغفر لهم أو لاتستغفر لهم, إن تستغفر لهم سبعين مرة, فلن يغفر الله لهم :التوبة:80" .

* كان النبي يستغفر للمنافقين الذين نزل القرآن يحكم بكفرهم, والذين كانوا يتفنون في ايذائه والكيد له .. لم يكن يرد عليهم, ولم يكن يتهمهم بما يستحقونه , وهو الكفر..وذلك أدب الإسلام كما جاء في القرآن.   فإذا كان ذلك هو سلوك النبي وتلك هى سنته الحقيقة فكيف يستبيح أحدنا لنفسه أن يتهم الآخرين بالكفر؟

                                      مجرد سؤال لبعض علمائنا الأفاضل !!  

ملاحظة :

فى هذا الوقت كنت أقصد (التكفير السلفى ) الذى يعنى الدعوة الى تطبيق حد الردة وقتل من يتهمونه بالكفر لمجرد أنهم يختلفون معه ، وقد شاعت فتوى الغزالى فى محاكمة قتلة فرج فودة فى أن من يقتل المتهم بالردة لا عقوبة عليه ، هو مجرد أنه (إفتأت على السلطة ) أى قام بما يجب على الدولة القيام به وقتل المتهم بالردة .  كنتُ أنا والاستاذ عبد الستار الطويلة خصوما للوهابيين وتطاردنا إتهاماتهم لنا بالردة . جاء هذا المقال للرد عليهم.   

 

أخيرا :تركت البلاغ الجديد بسبب حديث ( من رأى منكم منكرا )

1 ـ حديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده .. ) كان ــ ولا يزال ـ الدستور العملى للوهابيين الارهابيين الثائرين ، وهم يصلون به الى درجة تغيير نظام الحكم القائم بإعتباره منكرا يجب فى شرعهم إزالته . أعددت عدة حلقات عن هذ الحديث الارهابى ، ونشرت معظمها ، وقبل إستكمال النشر إتصل بى تليفونيا المُموّل ـ زوج الأميرة السعودية ـ وانطلق فى هجوم شديد على ما أكتب ، دون أن يسمح لى بالرد ، ثم أغلق سماعة التليفون . شعرت بالأسف ، ليس عن نفسى ، ولكن عن الاستاذ عبد الستار الطويلة الذى كان يتمنى المواجهة الفكرية للوهابي من داخل الاسلام .

2 ـ وانتهت علاقتى بالبلاغ الجديد وبالاستاذ عبد الستار الطويلة .

 

 بحث ( من رأى منكم منكرا ) الذى لم يكتمل نشره فى جريدة البلاغ الجديد:

أولا : الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى شريعة الاسلام :

1 ـ انه امر قولي باللسان فقط ،فاذا اصر الشخص علي رأيه فهذا شأنه طالما ان الضرر لا يمتد الي الغير ،فان امتد ضرره الي الغير اصبح جانيا مستحقا للعقوبة المناسبة لذلك الجرم وخرج الامر من دائرة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الي دائرة العقوبات المستحقة علي جريمة ارتكبها مجرم.والعقوبات المنصوص عليها في الاسلام تخص السرقة ،وقطع الطريق ،والقتل ،والزنا ،وسب النساء العفيفات.

2 ـ وقد حدث تحوير واضافة الي هذه العقوبات عندما تدخلت السياسة، ونفس الحال حدث مع قضية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقد كان امرا ونهيا باللسان ثم اعراض عمن لم يلتزم ، تطبيقا لقوله تعالي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) المائدة )  ثم تدخلت السياسة والصراعات السياسية فتحول الي ثورة باسم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وتحول الي دين بشري توضع له الاحاديث والفتاوي .

والنبي عليه السلام قال له ربه عن اصحابه المؤمنين (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (215) أي كن لينا مع اصحابك وهينا. فماذا يحدث اذا عصاه اتباعه المؤمنون ؟.هل يضربهم ؟هل يحكم بكفرهم ؟ نقول الاية التالية (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) الشعراء )،أي فان عصوه فليس عليه إلا ان يتبرأ من عملهم المنكر ،لم يقل فان عصوك وفعلوا منكرا فعاقبهم وقم بتغيير المنكر بيدك أو لسانك ،بل حتي لم يقل له فان عصوك فتبرأ منهم ،ولكن تبرأ فقط من عملهم المنكر ،وليس منهم . اذا فالملمح الاول من حدود الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو النصيحة القولية فان لم تنفع فالاعراض عن العاصي المؤمن والتبرؤمن عمله فقط وليس منه شخصيا .

ثانيا : لمحة تاريخية عن نشأة هذا الحديث :

في الدولة الاموية :

1 ـ إشتد الصراع المسلح فيها ،وكان الخوارج اكثر الثوار تطرفا ،واشتهر الخوارج بوصف القراء ،الذين يقضون الليل في قراءة القرآن ثم ينشغلون في النهار في الجهاد الثوري، واصبح لقب القراء عاما علي الفقهاء المتدينين في العصر الاموي من الخوارج غيرهم.

2 ـ ولم يلبث بعض الفقهاء القراء من خارج الخوارج ان خرجوا ثائرين علي الدولة الاموية ،واستغلوا خلافا حدث بين محمد بن الاشعث القائد الاموي والحجاج الوالي علي شرق الدولة الاموية ، وما زال القراء بمحمد بن الاشعث حتي استدار بالجيش المتوجه للفتح ، استدار به ليحارب الحجاج القائد الاعلي لهذا الجيش ،ودارت عدة معارك بين الفريقين كان آخرها معركة دير الجماجم سنة 83 هـ ، وكان الفقهاء الثوار في مقدمة جيش ابن الاشعث ،ومنهم اشهر فقهاء عصره سعيد ابن جبير، وقبل الالتحام وقف احد كبار الفقهاء يخطب في الثوار يحرضهم ،وهو عبد الرحمن ابن ابي ليلة المعروف بتشيعة قائلا : (يا معشر القراء ، إن الفرار ليس بأحد من الناس اقبح منه بكم ،اني سمعت عليا ابن ابي طالب يقول يوم لقينا اهل الشام في صفين :انه من رأي عدوانا يعمل به ومنكرا يدعي اليه فانكره بقلبه فقد سلم وبرىء،ومن انكره بلسانه فقد نال اجره وهو افضل من صاحبه ،ومن انكره بالسيف فذلك الذي اصاب سبيل الهدي ) .

وهذا القول الذي نسبه الفقيه الثائر ابن ابي ليلة لعلي بن أبى طالب هو الاصل الذي نبع منه فيما بعد حديث (من رأي منكم منكرا فليغيره بيده ،فان لم يستطع ،فبلسانه ،فان لم يستطع فبقلبه ،وهذا اضعف الايمان ).  

3 ـ ولو كان للنبي حديث يقول (من رأي منكم منكرا)لاستشهد به علي ابن ابي طالب علي فرض انه قال فعلا يوم صفين ذلك الحديث الذي رواه عنه الفقيه الثائر ابن ابي ليلة. بل ان البحث في الاقوال المنسوبة الي الامام علي يؤكد انه لم يقل هذ الكلام فلم يرد في اقواله التي جمعها الشيعة اوالتي نسبها اليه السنة او ما قيل اثناء موقعة صفين ،بل ان صياغة ذلك القول المنسوب ضمن اقوال اخري نسبها الفقيه الثائر لعلي ابن ابي طالب تنطبق علي مظالم الحجاج وتدل علي ان الفقيه الثائر هو الذي اخترع هذا الكلام ونسبه الي علي ليحمس الثوار .

4 ـ وفى نهاية الدولة الأموية كان اختراع حديث ونسبته للنبي ـ وليس لعلى بن أبى طالب ـ وهو حديث يبرر الثورة علي الامويين ،ويتجلى ذلك في ثورة الحارث بن سريج التميمي احد زعماء بني تميم في خراسان والشرق وكان من قواد الامويين  ثم انشق عليهم في فترة الاضطراب الاخيرة في الخلافة الاموية ، وقد رفع راية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ،واراد ان يفلح في ما فشل فيه الفقهاء الثوار من اصحاب محمد بن الاشعث ، وقد نشر الحارث ابن سريج حديثا منسوبا للنبي يقول (يخرج رجل وراء النهر يقال له الحارث علي مقدمته رجل يقال له منصور يوطن او يمكن لآل محمد ،وجب علي كل مؤمن نصره ..)

وقد اشتهر ذلك الحديث حتي نشرته كتب السند فيما بعد ومنها مسند ابي داوود .

 فى الدولة العباسية :

1 ـ  لم ينفع ابن ابي سريج اختراع ذلك الحديث الذي يدعو الناس الي نصرته،  انهزم ابن ابي سريج وقتل مع اهله سنة 128،وسقطت الدولة الأموية عام 132 ، وتأسست الدولة العباسية التى راجت فيها صناعة الأحاديث بإعتبارها دولة دينية، وتحول فيها الصراع السياسى الى حرب بالسلاح وحرب بإختراع الأحاديث ، وفيها كان إختراع حديث المشهور( من رأى منكم منكرا ) ، وقدأصبح مشهورا لأنه يلبّى حاجة الثوار الى تبرير تشريعى ، يتيح لهم الخروج على السلطان . ولا يزال يؤدى هذا الدور فى عصرنا .

2 ـ قبل قيام دولتهم إستعان العباسيون بالفقهاء الذين كانوا يصنعون لهم الأحاديث الداعية الى قرب ظهور المهدى المنتظر من آل البيت ، وتبشر بقرب الخلاص من الظلم الأموى ـ وكان هذا وقت دعوتهم السرية ( للرضى من آل محمد ) ، وهى الدعوة التى تحولت الى جيش ضخم دمّر الدولة الأموية . ثم إحتضن العباسيون الفقهاء صُنّاع الحديث لتكتمل بهم ملامح الدولة الدينية ، فإذا كان الأمويون يسفكون الدماء بلا حاجة الى فتوى وتبرير دينى فإن الخلأفة العباسية هى التى إخترعت قتل خصومها بتهمة الزندقة وبما يعرف ب ( حد الردة ) .

3 ـ  ثم كانت محنة ابن حنبل سنة 219 نقطة فاصلة في العلاقة بين الدولة العباسية وفقهائها المحافظين ،بعد ان تحالفت الدولة خلال عصر المأمون وخلفائه المعتصم والواثق مع المعتزلة الذين يعتبرون الفقهاء المحافظين (حشوية )أي يحشون عقولهم باحاديث موضوعة، وكان النصر لصالح الفقهاء المحافظين الذين اطلق عليهم الحنابلة ،لأن خصومهم المعتزلة ينسبون اقوالهم اما لأنفسهم او لآباء الفلسفة اليونانية فبقي فكرهم محصورا في نطاق الاجتهاد البشري الذي يقبل الخطأ والصواب ، وبقي معبرا عن فئة من المثقفين والمفكرين بعيدا عن الشارع ، اما ثوار اهل السنة فقد حولوا آراءهم الي احاديث نسبوها للنبي تخدم اغراضهم وفي نفس الوقت تنتشر بين الناس علي اساس انها احاديث نبوية وجزءا من الدين .

4 ـ فى صراعهم مع الدولة العباسية إخترع الحنابلة حديث (من رأي منكم منكرا فليغيره بيده واما بلسانه واما بقلبه وذلك اضعف الايمان )، صنعوه علي مثال حديث بن ابي ليلة السابق ،وحرصوا في صياغته علي ان تكون دعوة عامة لكل انسان خارج نطاق جهاز الدولة الرسمي ان يبادر بتغيير المنكر بيده (من رأي منكم منكرا فليغيره )وجعلوا حركة تغيير  المنكر شعيرة دينية واجبة.

5 ـ وتطور الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من مجرد الامر والنهي القولي مع الاعراض الي واجب حتمي جماعي ،أي حولوه الي حركة ثورية دينية . وبدأت هذه الثورة الدينية مع بداية ازمة خلق القرآن .

وانتهز احمد بن نصر الخزاعي فرصة سفر الخليفة المأمون الي خراسان ،واخذ البيعة لنفسه بين العوام علي اساس الامر بالمعروف والنهي عن المنكر . ولم يكن ابن نصر هذا فقيها بارزا في مجال العلم ،ولكن كان صاحب شعبية وسليل اسرة شهيرة ،اذ كان جده مالك بن الهيثم احد زعماء القبائل من خزاعة الذين ايدوا الدولة العباسية في بداية امرها ،ثم نشأ احمد بن نصر في بيت علم يخدم الدولة العباسية وينال عطاياها حتي كان ابوه نصر الخزاعي يملك سويقة نصر في بغداد.

وحين اضطهدت الدولة العباسية ــ في خلافة المأمون- فقهاءها في موضوع خلق القرآن بدأ احمد بن نصر يستغل جاهه في الخروج علي الدولة تحت راية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فتمت صياغة ذلك الحديث ، وتحرك في اواخر خلافة المأمون ، الا ان المأمون عالج الامر برفق حتي اضطر احمد بن نصر الي الاعتكاف في بيته، ثم تولي المعتصم بعد المامون ،ثم تولي هارون الواثق بعد المعتصم ،وقام احمد بن نصر بجمع اعوانه ،وسيطروا علي شوارع بغداد الغربية واعلان العصيان في شعبان 231 هـ وتحركت الدولة العباسية بسرعة فاعتقلت احمد بن نصر  واصحابه ،وبسرعه عقد مجلس للحكم عليه في عهد الخليفة الواثق ،وحققوا معه في موضوع خلق القرآن ورؤية الله تعالي يوم القيامة ليسهل عليهم اتهامه بالكفر طبقا لمذهبهم ،وتجاهلوا حركته الثورية وبسرعة تمت ادانته ـ،وقتله الخليفة الواثق بيده في مجلس الحكم .وعلقوا رأسه في مكان وجسده في مكان آخر سنة 231هـ وسجن اصحابه .

6 ــ ومات الخليفة الواثق سنة  232فكان هذا ايذانا بانتهاء نفوذ المعتزلة وتولي الخلافة  المتوكل، الذى تحالف مع الحنابلة ، وفى عهده  تم تطبيق حديث (من رأي منكم منكرا ) بيد الدولة واعوانها الحنابلة .وفي سنة 234امر الخليفة المتوكل بتكريم الفقهاء الحنابلة وامرهم بالسفر الي الافاق للتبشير باحاديثهم التي اخذت مصطلح السنة ومن وقتها ، وذلك للرد علي بقايا المعتزلة والشيعة ،وكان ابرز الفقهاء الحنابلة في هذا الشأن الشيخ ابو بكر بن ابي شيبة ، وهو احد شيوخ البخاري،واحد الرواة الاساسيين لحديث (من رأي منكم منكرا ..).

نفي حديث من رأي منكم منكرا:

1 ـ ولم يرو البخاري عن ابي بكر ابن شيبة ابي هذا الحديث ،وانما كان مسلم هو الذي رواه عنه في صحيحه مع وجود احاديث اخري في مسلم تخالف حديث (من رأي منكم منكرا)بعضها يحث علي طاعة ولي الامر مهما كانوا يفعلون طالما يقيمون الصلاة .

2 ـ وروي مسلم وهو تلميذ ابى بكر ابن ابي شيبة ذلك الحديث بهذا النص (حدثنا ابو بكر ابن ابي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان ،حدثنا محمد بن المثني حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عن شعبة ،كلاهما عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال :اول من بدأ الخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان فقام اليه رجل فقال الصلاة قبل الخطبة فقال :قد ترك ماهنالك، فقال ابوسعيد :اما هذا فقد قضي ما عليه ،سمعت رسول الله -ص- يقول من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الايمان .) .

رواة هذا الحديث هم مجموعة اشخاص في ازمنة مختلفة عاش الراوي الاول وهو ابو بكربن ابي شيبة في عصر مسلم وروي ابن ابى شيبة هذا الحديث لمسلم في حدود 230هـ، أي بعد عصر النبي بقرنين من الزمان، وهو يزعم ان  الرواة الموتي من عصره الي عصر النبي خلال هذين القرنين قد روي كل منهم الي الاخر ذلك الحديث عبر سنوات مختلفة من عصر الرسول الي عصر الخلفاء الراشدين الي عصر الامويين الي العصر العباسي الاول فالعصر العباسي الثاني .

3 ـ  وبسبب تغلغل الشك في انتقال هذه الاحاديث عبر هؤلاء الرواة طيلة هذه السنوات فان علماء الحديث حاولوا البحث في مدي مصداقية اولئك الرواة وهل كانوا صادقين ثقاة ام غير ذلك .واشهر من بحث في (الجرح والتعديل )او علم الرواة كان الامام الذهبي المتوفي سنة 718 هـ في كتابه ( ميزان الاعتدال ).

فماذا قال الذهبي عن الرواة المذكورين في حديث (من رأي منكم منكرا فليغيره )

4 ـ روي الذهبي اقوال العلماء في انتقاد اولئك الرواة ونحن ننقل ذلك عنه :

قالوا عن ابي بكر ابن ابي شيبة واسمه الحقيقي عبد الرحمن بن عبد الملك انه ليس بالمتين وانه ضعيف وربما اخطأ، وقالوا عن وكيع بن الجراح انه كان يلحن وفيه تشيع ،وقالوا عن سفيان بن حسين ان في حديثه ضعفا وانه لم يكن بالقوي ،وانه مضطرب الحديث ولا يحتج بحديثه وليس الحافظ ، وقالوا عن محمد بن المثني ان في عقله شيئا وانه كان يغير في كتابه ،وقال عن محمد ابن جعفر ولقبه غندر انه كان مغفلا ،وقالوا عن قيس ابن مسلم انه روي عنه اسماعيل ابن عبيد فقط أي انه لم يرو ذلك الحديث لأنه لم يلق رواته .اما طارق ابن شهاب فلم يذكره الامام الذهبي اصلا أي ليس له وجود ،وقالوا عن شعبة بن يحيى انه ليس بالقوي ولا يجب ان يكتب حديثه  

5 ــ وطبقا لقواعد علم الجرح والتعديل (علم الحديث )فان الحديث يسقط اذا كان احد رواته مطعونا فيه فكيف اذا كان رواته كلهم مطعونا فيهم ؟!!.

ثم ان الحديث هذا يتعارض مع العقل فمن الممكن تغيير المنكر باليد وربما باللسان ،ولكن كيف يمكن تغييره بالقلب ؟!! وهل تستطيع المشاعر القلبية تغيير منكر قائم مادي ؟!!.

اجمالي القراءات 3856