الصلاة الشيطانية والسجون المملوكية

آحمد صبحي منصور في الأحد ١١ - نوفمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

الصلاة الشيطانية والسجون المملوكية

مقدمة :

1 ـ لم يرد ذكر السجن فى القرآن الكريم تشريعيا ضمن العقوبات ، وجاء ذكره فقط  عن مصر فى قصة يوسف وفرعون ، ومنه نأخذ الملامح الآتية المعبرة عن النظام الفرعونى المصرى والذى لا يزال سائدا مع الديكتاتورية المصرية العتيقة العتيدة :

1 / 1ـ السجن وسيلة عقابية للمجرمين فى الدول الديمقراطية وطبقا لقانون عقوبات صاغته مجالس تشريعية وحكم به نظام قضائى يتحرى العدل . فى دولة الفرعون المستبد يكون العقاب بالسجن لمن يغضب عليهم المستبد وأصحاب النفوذ . لذا هددت إمرأة العزيز يوسف بالسجن إن لم يفعل بها الفحشاء ( يوسف 32 ) ، وهدد فرعون موسى نبى الله موسى بالسجن إن إتخذ إلاها غيره ( الشعراء 29 ) . أى إن المستبد وأعوانه يهددون بالسجن من لا يستجيب الى رغباتهم الدنيئة . كان هذا ـ ولا يزال ـ سائدا وساريا.

 1 / 2 ـ لا يوجد تعذيب فى سجون الدول المتقدمة ، لأن السجن فيها لاصلاح المجرمين وليس للإنتقام منهم . يختلف الوضع فى دولة المستبد ، فهو لا يكتفى بالزجّ بالأبرياء فى السجون بل يعذبهم جسديا. لذا إرتبط السجن المصرى بالتعذيب الأليم فى قول إمرأة العزيز لزوجها عن يوسف ( يوسف 25 ).

1 / 3 ـ والمتهم يتمتع بالاحترام ويتم بهذا خطابه رسميا حتى بعد إدانته وهو فى السجن . ولمست هذا بنفسى حين زرت سجنا أمريكيا . أما فى السجن المصرى فالأبرياء فيه يلاقون الإهانة والإذلال ، تعذيبا نفسيا مضافا للتعذيب الجسدى ، وهما مقترنان ، فالسجين يسمع اللعنات ويتلقى اللكمات. ونرى إرتباط السجن المصرى بالإذلال فى قصة يوسف ( يوسف 32 ).

2 ـ السجن المصرى الحالى يتشابه فى كثير مع السجن المملوكى من حيث الظلم المقترن بالصلاة الشيطانية ، وفى توقيع أكبر إيلام جسدى ونفسى بالضحايا . ولكن السجن المصرى الحالى يستعمل أحدث تكنولوجيا التعذيب التى لم تكن معروفة من قبل . ولكن كانت للسجن المملوكى إبداعاته أيضا. نتعرف عليها هنا.

أولا : لمحة سريعة :

 1 ـ بلهجة الفقهاء يقول المقريزى عن السجون التى كانت في عصره  ( إن ما يحدث فيها لا يجوز عند أحد من المسلمين، وذلك بسبب ما يتكدس فيها من الكثيرين في موضع ضيق، فلا يتمكنون من الوضوء والصلاة ، وقد يروى بعضهم عورة بعض ، ويؤذيهم الحر في الصيف والبرد في الشتاء، وربما يحبس أحدهم السنة وأكثر ولا جريمة له ويكون أصل حبسه على ضمان )، أى يكون مسجوناً لأنه ضامن للغير فى ديون ، أى مسجون بلا جريمة ومع ذلك يظل في السجن وقد لا يحس به أحد إلى أن يموت.

2 ـ و فزع بعض المماليك من قسوة الحياة في السجن وخصوصا سجن الجب بالقلعة .وقبل أن يتولى السلطنة كان الأمير المملوكى شيخ المحمودى نزيلا فى سجن شمايل ، وقاسى مما فيه ، فنذر إن نجا منه وأصبح سلطانا ليهدمنه . وعندما تولى السلطنة بلقب المؤيد شيخ أوفى بنذره فهدم سجن الجب فى القلعة  وسجن شمائل، ولكن قامت السجون الأخرى مثل أبراج القلعة والمقشرة بنفس الدور وأشنع. فالمستبد يحتاج الى الكثير من القصور ليتنعّم ويحتاج الى الكثير من السجون ليأمن على حياته وليرهب شعبه. والتعذيب ـــ وليس العدل ـــ هو أساس المُلك المستبد.

3 ـ  وفي عصر قايتباى ذكر ابن الصيرفي إشارات للسجون المعروفة في مصر وقتها والتى كانت مبنية قبل عصر قايتباى مثل سجن الإسكندرية وسجن الجرائم وسجن الديلم وسجن الشرع وسجن المقشرة، وهذا   بالإضافة إلى سجن البرج بالقلعة.

ثانيا : أشهر المساجين وأشهر السجون :

 1 ـ وكان نزلاء السجون من الأمراء المماليك ، كنتيجة للصراع فيما بينهم ، ووقوع بعضهم ضحايا لهذا الصراع والفتن والمؤامرات . وقد يصبح سجين سابق من الأمراء المماليك سلطانا فيما بعد ، وحدث هذا قبل عصر قايتباى ، كما حدث فى عصره ، فالملك الظاهر يلباى كان مسجوناً في عصر قايتباى في سجن الإسكندرية ومات فيه بالطاعون في ليلة الاثنين أول ربيع الأول 873.

2 ـ وفي سجن الجرائم أودع السلطان قايتباى جماعة من الأعراب المفسدين من الشرقية وذلك يوم السبت 5 محرم 874. وهرب من هذا السجن أحد المجرمين المشهورين يوم الجمعة 17 ربيع الأول 875، وقد تمكن المماليك من القبض عليه وأمر السلطان بكحل عينيه- أى بوضع الحديد المحمى بالنار على عينيه حتى عمى. واستطاع شيخ الأعراب ابن زامل من الهروب من ذلك السجن يوم الجمعة ربيع الثاني 876. وفي يوم الثلاثاء 17 شعبان 876 أطلق السلطان سراح حوالى أربعين مسجوناً من سجن الجرائم وسجن الشرع. كان هناك نوعان من السجون ، احدهما للمجرمين العاديين والآخر لمن يغضب عليهم السلطان .

ثالثا :  أشهر السجون السياسية :

  1 : ( سجن الديلم كان ) مخصصاً لمن يغضب عليه السلطان من أرباب الوظائف فقد سجن فيه السلطان القاضى ابن العيسي وسجن فيه الوزير قاسم جغيته.

  2 : سجن ( برج القلعة ) الذى اعتقل فيه ابن العيني إلى أن أذعن ودفع للسلطان ما أراد ، وكان ذلك في 17: 19 من جمادى الثانية 873. وفي نفس البرج حبس السلطان موسى بن كاتب غريب في شعبان 873، ثم اعتقل السلطان زين الدين الاستادار في رمضان من نفس العام، وصار موسي محبوساً في برج القلعة وغريمة زين الدين الاستادار محبوساً في برج أخر يقول مؤرخنا ابن الصيرفي، وفي رمضان 874 أمر السلطان بسجن أسرى شاه سوار في برج القلعة. والعسكر الذى يحكم مصر من عام 1952 إستخدم نفس السجن ( سجن القلعة ) ولا جديد تحت الشمس فى مصر.

رابعا : سجن المقشرة : أشهر سجون العصر المملوكى للمجرمين العاديين  

1 ـ وكانت المقشرة أشهر سجن في عصر قايتباى وفي عصر المقريزي أيضاً. والمقريزي يحدد موقع سجن القشرة بأنه بجوار باب الفتوح فيما بينه وبين الجامع الحاكمى (أى المنطقة المجاورة لباب زويلة الآن).

2 ـ وأصل تسميتها بالمقشرة أنه كان فيها القمح، وكان موضعها سجنا مشهوراً يسمى خزانة شمايل، وقد تم هدمه وأقيم مكان سجن المقشرة. وهذا السجن يضم برجاً في السور وموضع المقشرة وأضيف له الدورة المجاورة التى هدمت، وأصبحت بذلك المقشرة سجناً لأرباب الجرائم.

3 ـ ويقول عنه المقريزي" وهو من أشنع السجون وأضيقها يقاسى منه المسجونون من الغم والكرب، لا يوصف، عافانا الله من جميع بلائه .!!.

4 ـ وذكر ابن الصيرفي إشارات لما حدث في عصره في سجن المقشرة . وتحديد ( الإجرام ) يخضع لمزاج السلطان :

4 / 1 :  فقد أودع فيه السلطان أسرى الفرنج الذين أسرهم أهل ادكو.

4 / 2 : والفلاحون الغلابة يكونون مجرمين إذا عجزوا عن دفع الضرائب ، إذ أنهم ( كفروا بالمال : الإله الأعظم للسلطان الورع قايتباى) . يقول ابن الصيرف إنه كان فى هذا السجن ( سجن المقشرة ) جمع من الفلاحين ممن ( إنكسر عليهم مال للسلطان) ، أى سجنهم لعجزهم عن دفع الضرائب والرشاوى التى يفرضها عليهم أعوان السلطان من الكاشف ومن هم دونه. .ولأنهم مظاليم فقد تجرأ بعضهم وإشتكى للسلطان مخدوعا بورعه وتقواه و أملا فى عدله وإقتناعا بوضوح قضيتهم ، وكانت النتيجة فظيعة ، إذ أمر قايتباى بسلخ أربعة منهم بحضور الباقين فسلخوا ، وأرسلوا إلى البلاد فاشهروا بها ( ليرتدع بها أمثالهم )، على حد قول مؤرخنا ابن الصيرفي الذى يعلق على هذه المأساة قائلاً عن السلطان " فنصره الله نصراً عزيزاً". أى يدعو له بالنصر . لم يعرف الفلاحون الغلابة أنهم بشكواهم قد إزدادوا كفر بالمال ، وهو الإله الأعظم لقايتباى وغيره من الخلفاء الفاسقين .

خامسا : المساجين يملكهم السجانون : إجبار المساجين على التسول لصالح السجّانين :

1 ـ السجانون  ــ كانوا على دين ملوكهم  ــ يؤمنون أيضا بالإله العظم ( المال ) ، لذا كان لهم الحق فى إجبار المساجين على التسول لصالحهم ، والويل للمساجين إن لم يجمعوا لهم المال المطلوب.

 2 ـ ووصف المقريزي أحوال المساجين باختصار فقال أنه : ( لا يوصف ما يحل بأهلها من البلاء وأنه اشتهر أمرهم أنهم يخرجونهم في الحديد حتى يشحذوا وهو يصرخون في الطرقات قائلين: الجوع.. فما يصلهم من الصدقات يأخذ معظمه السجان وأعوان الوالى، ومن لم يحصل من المساجين على صدقات يبالغ السجان وزبانيته في عقوبته.).!

3 ـ  وقبل ذلك كانت خزانة شمايل أبشع السجون، وقد هدمها السلطان شيخ المحمودى يوم الأحد 10 ربيع الأول 818، وكان والى القاهرة يفرض على السجان فيها مقداراً يومياً من المال يحمله إليه، ويحصل السجان على هذا المال من شحاذة المسجونين.واستمر ذلك في عصر السلطان قايتباى باستمرار الظلم المملوكي.

4 ـ  في يوم الأحد 11 صفر 875 أمر السلطان الورع قايتباى ( بتوسيط سجين ( أى قتله بقطعه نصفين ) بعد أن أشهره على الجمال مسمرا يُطاف به فى الشوارع ، وعرضه الموكلون به أمام السلطان، والسبب في توسيطه وتسميره وتشهيره أنه كان مسجوناً بالمقشرة من سنين وقد قرر عليه السجان قدراً معلوماً كل يوم فكان يخرج في الحديد ويستعطى ويحضر ما عليه للسجان كل يوم، وحدث أنه لم يحصل في ذلك اليوم على ما يوفي بالمقرر عليه فأراد الهروب خوفاً من الضرب والعصر )، أى عصر قدميه بآلات التعذيب وآلات العقاب. يقول ابن الصيرفى : ( فحصل بينه وبين الجمدار مشاجرة وضربا بعضهما فأصاب الجندار ضربة فمات فقتلوا هذا به...".). أى حسبما يذكر المؤرخ ابن الصيرفي أن المسجون كان إذا لم يتسول للسجان قدراً كافياً يرضى نهمه فإنه يتعرض للضرب وعصر قدميه بآلات العذاب.

5 ـ وفي يوم الأحد 6 ذى الحجة 875 انتحر مسجون من سجن المقشرة لأنه خاف من العقوبة التى سينالها لأن ما حصل عليه من التسول كان أقل من المقرر عليه، يقول ابن الصيرفي:( ضرب شخص من الذين هم في سجن المقشرة ويسألون في الحديد صحبة الجندار،نفسه بسكين، فخرجت مصارينه في وسط السوق، وسبب ذلك أن هذا الذى قتل نفسه كان عليه مقرر في كل يوم للسجان ثلاثة أنصاف وللذى معه قدر أخر، فإن لم ينهض فيعاقب عقوبة شديدة ويجعلون رجليه في الخشب، وطال ذلك عليه فقتل نفسه، وحسابه على الله".).كان هذا هو ما ناله المسكين من عبارات التعزية من مؤرخنا القاضى ابن الصيرفى..!!

6 ـ وربما أدى انتحار ذلك المسجون المسكين إلى صحوة مؤقتة للضمير.. فقد أصدر قايتباى مرسوماً بألا يأخذ السجان من المسجون ولا من أقاربه شيئاً وأخذ عليهم التعهدات ألا يفعلوا ذلك.، وألّا يأخذ نواب القضاء والعاملين معهم شيئا من السجّانين ، إذ كان أعوان الوالى ــ وهو القائم بالقبض على المجرمين وتنفيذ أوامر الشرع السنى المملوكى ــ هم المتحكمين فى السجّانين يأخذون منهم الأموال ، والسجانون يرغمون المساجين على التسول لهم ولاعوان الوالى . وصدر ذلك المرسوم يوم الخميس 15 محرم 876، يقول مؤرخنا: ( أشهر النداء بالقاهرة أمام الوالى حسب المرسوم الشريف أن أحداً من النقباء والرؤوس النوب لا يأخذ من السجان على السجون الذى يودعه عنده شيئاً، وأن سجاناً لا يأخذ من أحد يزور السجون شيئاً ، وأن زوجة السجان لا تأخذ شيئاً في كل ليلة جمعة كما كانت عادتها، وأن يكتب عليهم قسائم بأن لا يعودا لذلك فكثرت الأدعية للسلطان.) .أى كان السجان وزوجته يستغلون المساجين وزوجاتهم وأهليهم.

7 ـ ومع صدور هذا المرسوم فإن الأمور عادت إلى ما كانت عليه، وعاد السجان يرغم المسجون على التسول لحسابه وإلا فأمامه العذاب الشديد..

8 ـ وكان بعض المساجين يثور على الوضع فيقتل الجندار أو الحارس كما حدث من قبل. في يوم السبت 16 من ذى القعدة 876 ( أمر السلطان بتوسيط لص مسجون" خرج يستعطي كعادته فقتل الجمدار المرسم عليه، قيل أنه عصر بيضه فمات، فرسم بتوسيطه".). أى إنّ هذا المسجون البائس قد تم قطعه نصفين .

سادسا : الهروب من السجن:

1 ـ ويبدو أن المساجين في السجن مقامات حتى في العصر المملوكى. فالسجين الثرى من مشايخ الأعراب كانت له امتيازات لا تتاح لغيره من الفقراء المساجين الذين عليهم أن يتسولوا ليرضوا جشع السجان والحراس ، إذ كانوا يغدقون المال على الحراس ، هو المال إلاههم الأعظم .

2 ـ وقد استغل بعض المساجين الأثرياء تلك التسهيلات ــــ التى اشتراها بماله  ــــ استغلها في الهروب، حدث ذلك يوم الجمعة 18 ربيع ثان 876.  كان ابن زامل أحد مشايخ الأعراب محكوماً عليه بالإعدام ومسجوناً على ذمة الحكم في سجن الجرائم، وكان السلطان يؤجل تنفيذ إعدامه حتى يوفّي ابن زامل ما عليه من ديون لديوان السلطنة، ثم نقلوه من سجن الجرائم ، وأودعوه بقاعة المسجونين بين الصورين، بالقرب من بيت الأتابك أزبك قائد الجيش المملوكي،( وهو الذى تحمل حديقة الأزبكية بالقاهرة إسمه حتى الآن ) والأتابك أزبك هو الذى قبض عليه. وقد وثق ابن زامل علاقته بالقائمين على حراسته في قاعة السجن، وصار الحراس يخرجون به كل ليلة والحديد في عنقه لزيارة بعض أصحابه بالقاهرة حيث يأخذ منهم الأموال ويأكل أجود الطعام ثم يعطى حراسه المائة درهم والمائتي درهم. واستمر على ذلك  إلى يوم هروبه ، حيث خرج كعادته وكان معه اثنان من الحراس أحدهما حارس السجن، وقد قال لحارس السجن أنت أولى بأن تأخذ كل الدراهم، وأغراه بأن يصحبه وحده ويترك زميله، وتوجه معه وهو في الحديد إلى الباطلية، وهناك في المكان الذى أراد الدخول فيه كان هناك كمين ينتظر، فضربوا الحارس حتى أغمي عليه، وفكوا وثاق ابن زامل وأركبوه فرساً وهربوا به، واستمر الحارس ملقى على الطريق إلى أن أدركوه.

اجمالي القراءات 4237