تربية الطفل بين مصر وأمريكا

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٠ - أغسطس - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

  تربية الطفل بين مصر وأمريكا  

الحالة الأولى : ومن الحُبّ ما قتل :

1 ـ زوجة عاملة تعرف معنى العطاء والتفانى ، وزوجها خير من إستفاد من عطائها وتفانيها ، كان كسولا أنانيا ينتظر من زوجته أن تكون جارية له . وفعلت هذا حفاظا على بيتها . كانت تؤدى عملها الحكومى بنفس الاخلاص الذى تؤدى به عملها فى البيت . قبل الخروج للعمل ـ فى مدينتها الصغيرة ـ تكون قد جهزت الافطار لزوجها وأبنائها ، وأطعمت الطيور التى تربيها فوق السطح . وتعود لتواصل عملها فى شقتها وفى المطبخ والغسيل ..الخ . بينما زوجها يعود من عمله يجلس كسولا يشاهد التليفزيون ولا يملُّ من المناداة عليها لأى طلب بسيط حتى شربة ماء . خدمت زوجها وولديها بكل تفان وإخلاص ، وتخرج ولداها وسافرا للخارج ، وخرج زوجها على المعاش ، أصبح مريضا تحوطه الزوجة العاملة بإخلاصها .

2 ـ كل هذا والقصة عادية . الذى ليس عاديا هو حالة بنتها الوحيدة ، اصغر أولادها. كانت فى كسل أبيها وأنانيته . كانت الأم تشعر بسعادة بالغة وهى تحمل عنها كل شىء وتعمل لها كل شىء ، من الواجب المدرسى الى ترتيب ملابسها ودولابها . نشأت البنت معتادة على أن تعمل لها أمها كل شىء . لم تدخل المطبخ ولم تغسل ملابسها بنفسها ، ولا تعرف كيف تسوى فراش سريرها. أمها هى التى تفعل ذلك عنها . اكثر من هذا لو شعرت البنت أن أمها تعطى بعض الاهتمام لأقاربها تصطنع المرض حتى تستأثر بأمها . تخرجت البنت ، وتزوجت . بحالتها هذه لا يمكن أن يتحملها أى زوج ، لولا إن زوجها كان يعمل ورديتين ، يخرج صباحا ويعود منهكا منتصف الليل . وهى وجدت الحل فى أن تعيش مع أمها لتخدمها أمها كالعادة ، ثم تقوم بتوصيلها الى شقتها وتنظف شقتها ، وتتركها الى أن يأتى زوجها .

3 ـ إقتربت هذه الأم المعطاءة من الستين ، وأصبح زوجها قعيد البيت ، وأنجبت بنتها ولدا صار طفلا غاية فى الإزعاج . حوصرت الزوجة الأم بمرض زوجها وشكواه من بنته وصراخ وشقاوة ابنها ، وكسل بنتها ونومها ونهمها فى الأكل وعجزها عن خدمة نفسها وخدمة ورعاية ولدها . أخذ ابوها فى مرضه يصرخ فى ابنته المدللة ، وترد البنت بإصطناع الإغماء وزعم الاكتئاب . وأصبح التخلص منها ضرورة. أى لا بد أن تستقر فى شقتها وأن تمارس دورها كأم لابنها الصغير وزوجة لزوجها . أفهموها هذا بالحسنى فدخلت فى تمثيل الاكتئاب والاغماء . عرضوها على طبيب فقال ان عندها طفولة متأخرة ، ووصف لها أدوية أسهمت فى تفاقم حالتها . هذه التى يقول الطبيب أن عندها ( طفولة متاخرة ) بعد أن تقوم من النوم وتلتهم الطعام وترى أقاربها يساعدون أمها تنصب نفسها متحدثة تتحدث بطلاقة فى كل شىء من السياسة الى الرياضة ، بل حتى تُفتى فى حل مشكلات أقاربها . وحين ينصحها أحد بإصلاح حالها تسقط مغمى عليها قيسكت ، وتسكت أمها ويسكت أبوها.  

4 ـ قيلت لى هذه المشكلة ، فقلت : ان البنت ضحية لتدليل أمها وأبيها ، واصبحت هناك ضحية أخرى هو هذا الطفل أيضا . وقلت إن الله جل وعلا جعل (فصال الطفل عن أمه ) عامين ، هما وقت الرضاعة، بعدها يتجول مبتعدا عن أمه يكتشف ما حوله. ولكن هذه الأم المتفانية لا تزال تحمل إبنتها على كتفها . وإذا أنزلتها الى الأرض تزعم الإغماء. لا يوجد إلا حلّ وحيد ، أن تنزلها عن كتفها ، ولا تأبه بها لو سقطت . على هذه البنت أن تستقل بنفسها أو أن يرغمها أبواها على الاستقلال بنفسها حتى تستمر حيّة وترعى إبنها. أبواها الآن فى الفصل الأخير من الحياة ، وبعد قليل سيموتان ويتركانها ، ولا يستطيع أحد تحملها . فلا بد أن يبدأ معها والداها من الآن إجبارها عن الانفصال عنهما ، بالمنع النهائى من أن تزورهما ، وأن تظل فى بيتها وتتعلم أن تخدم نفسها وزوجها وابنها . هذا الحب لوالديها قضى عليها . بل ليس هذا حُبّا .

5 ـ هذه البنت لم تولد ( مُعاقة ) ، جعلها الحب الأعمى من والديها ( معاقة ).!

الحالة الأخرى :

1 ـ مثل معظم الأطفال المصريين ، نشأ هذا الطفل واخوته معتمدين على الأم ( ربة المنزل / ست البيت ) فى كل شىء . هو بالذات كان أكثرهم إعتمادا على أمه . تجهز لهم الفطار والغذاء والعشاء ، وتغسل ملابسهم وتكويها وتذاكر لهم ، وتنظف الحمام بعد خروج احدهم منه ، وتغسل أطباق الأكل ، وتحملها الى المطبخ ، وهم جالسون . هو نفس المعتاد فى البيت المصرى ، خصوصا فى المدن.

2 ـ صاحبنا تخرج فى الجامعة ونام فى البيت ينتظر التعيين . وكالعادة تخدمه أمه ، بينما عثر إخوته على فرص عمل فى الخليج . صار يحلم بالهجرة الى أمريكا . جاءته فرصة التأشيرة ، وهناك أسرع وتزوج أمريكية ، وأصبحت إقامته شرعية . تناقضت ثقافته المصرية مع ثقافة زوجته الأمريكية . أرغمته زوجته على المشاركة فى كل أعمال البيت بالاضافة الى عمله الشاق . زوجته أنجبت طفلة رائعة . تولت الأم الأمريكية تربيتها بثقافتها الأمريكية . من عامها الأول كانت تكلمها وتشرح لها كما لوكانت تفهم ما تسمع . ثم كانت تخيرها أى ملابس تلبسها ، وحين تبكى تتكلم معها بصرامة ، وفى كل الأحوال هى تنام فى سرير منفصل ، وتقرأ لها أمها القصص . بدأت تنطق ودخلت الحضانة  بعد أن اصبحت تمشى . تعلمت من أمها كيف تتعامل مع التليفزيون الموبايل وكيف تحمل شنطتها وكيف تسوى سريرها ، إذا أخطأت تقوم أمها بإدخالها غرفتها ، ومن بداية الكلمات التى تعلمتها أن تقول ( شكرا ) ( لو سمحت ) ( آسف ) . لم تبلغ العامين بعدُ ولكن لها شخصية مستقلة ، تساعد أمها أو تقلد أمها وأباها فى قراءة الكتب وفى عمل البيت ، وتخرج معهما تحمل حقيبتها الصغيرة  ، وتبتسم لمن تمرُّ عليهم مثلما تفعل أمها . أبوها ( المصرى ) فخور بها ، ولا يستطيع الابتعاد عنها ، وهى أكثر تعلقا به ، أكثر من تلقها بأمها ، لأن الأم صارمة معها . بهذه التربية تتاهل البنت لأن تكون مستقلة .

أخيرا

1 ـ الثقافة الغربية والأمريكية تتمحور حول ( الفرد ) . ويتربى الفرد فيها ليكون مستقلا ، عليه أن يختار نمط حياته وأن يتحمل مسئولية هذا الاختيار . والتاريخ الغربى فى نجاحاته قام على أكتاف ( أفراد ) . وفى مجتمع يتكون من (أفراد ) أحرار ومسئولين تتجذر الديمقراطية وحقوق الانسان ويصعب أن يخدع الناس فرد ليركب ظهورهم ويكون مستبدا .

2 ـ الثقافة العربية والمصرية تتمحور حول ( الأسرة ) ، وللأسرة كبير هو مصدر السلطة ، وينشأ الطفل معتمدا على هذا الكبير ، أبا وأما . ثم حين يكبر يعتمد على ( الأكبر ) وهو الحكومة ، هى التى تعلمه وهى التى توظفه وهى التى تتحكم فيه وتسلبه حريته وكرامته وحقوقه .

3 ـ ( التحول الديمقراطى ) الذى نرجوه لمصر وللعرب تكمن صعوبته فى كلمة ( تحوّل ) .

3 / 1 : هو ( تحول ثقافى بتأسيس ثقافة الديمقراطية ) بالتعليم والتربية فى البيت وفى المدرسة وفى الإعلام . ( تحول ) يتعلم منه الطفل الديمقراطية والتنوع فى الآراء ، وإحترام الحق فى الاختلاف مع قيم العدل بإعتبار ان الديمقراطية هى ( العدل السياسى ). الفيصل هنا هو منع حاتم وجازم وبات ونهائى لسيطرة الكهنوت ورجال الدين .  بدون هذا تصبح الديمقراطية أداة لتكريس الاستبداد وتفريخ المستبدين والفاسدين / ينتخبهم شعب جاهل ، وهذا ما يحدث الآن فى بلاد المحمديين

3 / 2 : هو أيضا  ( تحول عملى ) بتأسيس آليات لممارسة الديمقراطية ، تتولى إصلاحا تشريعيا بقيم ديمقراطية سليمة وإعداد القادة وتدريب الممارسة الديمقراطية والاشراف على الانتخابات ومراقبتها ، ونشر الجمعيات الأهلية التى تشجع الأفراد على ولوج العمل العام بما يُحدّ من تدخل الحكومة فى كل شىء تطبيقا للإصلاح التشريعى .

3 / 3 : بدون هذا ستظل الشعوب العربية مثل حالة البنت المُعاقة التى بدأنا بها هذا المقال.

3 / 4 : لم يخلق الله جل وعلا شعوبا مُعاقة ، ولكن الشعوب التى تجعل نفسها مُعاقة .  

3 / 5 بمجرد أن يقوم شعب بتغيير نفسه من الإعاقة الى العزة والكرامة فستعززه الإرادة الالهية : (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) 11) الرعد ).

اجمالي القراءات 6394