رحلتى الى اسرائيل وفلسطين ( 2 )
خامسا : اللقاءات فى القدس :
1 ـ طبقا للجدول الذى أعده البروفيسور ماكس سنجر كان يوم الأربعاء 21 مارس موعد إلقاء ندوة فى معهد للدراسات العليا فى القدس . وصلت الى هناك ومعى ابنى محمد ، وكانت المرة الأولى التى ألتقى فيها بالبروفيسور ماكس سنجر . كان ينتظرنا عند باب المعهد ومعه مدير المعهد ـ وآسف إذ نسيت إسمه . ودخلت الى قاعة إحتشد فيها الطلبة الاسرائيليون ، وقد طلب منى مدير المعهد أن أتكلم باللغة الفصحى . وبدأ هو الندوة بأن قدمنى للحاضرين ـ ومعظمهم من الشباب ولكن بينهم مجموعة من الأساتذة كبار السّن . فى تقديمه لى تكلم عن موجزسيرتى بما ابهرنى ، ثم تكلم عن القرآنيين ، ووصفنا بأننا نشبه طائفة القرّائين فى الديانة اليهودية ، وهم الذين يتمسكون بالكتاب وحده ويرفضون التفسيرات والحواشى والتلمود . ودعانى للحديث . بدأت الكلام بأن أهل القرآن يؤمنون بالسلام والحرية الدينية والسياسية والعدل وحقوق الانسان ، وأن الاسلام هو السلام فى التعامل السلوكى مع الناس مهما إختلفت أديانهم ، وأن الذى يهمنا هو إحلال السلام فى الشرق الأوسط بحيث يعيش الطفل الفلسطينى والطفل الاسرائيلى فى بيئة آمنة يحقق فيها طموحه المشروع . وتحدثت عن منهجنا فى تدبر القرآن الكريم وفى بحث التراث ورفضنا للأحاديث التى تمت كتابتها بعد موت النبى محمد بقرون لكى تسوّغ خروج الخلفاء عن الاسلام.
وبدأت المناقشة ، وكان الأغرب أن السؤال الذى تكرر هو : إذا كنتم ترفضون السُّنّة فكيف تعرفون كيفية الصلاة ؟!. نفس السؤال الخالد للسلفيين ، ولكنه يأتى هذه المرة من الباحثين الاسرائيليين . أذكر أنه بعد إنتهاء الندوة لحق بنا شاب بلحية كثيفة ومعه زميلة له ، ويتكلم العربية الفصحى بالطريقة السلفية ، ولكن مع أدب جمّ . قال لى إنه ليس مقتنعا بما قلت عن موضوع الصلاة وأنها متوارثة من ملة ابراهيم ، وأن السنة هى التى عرفتنا كيفية الصلاة ومواقيتها طبقا لحديث ( صلوا كما رايتمونى أصلى ) . سأله ابنى محمد : هل تصلى ؟ قال : نعم . ( أى هو عربى اسرائيلى سنى سلفى ) . سأله محمد : ومن علمك كيفية الصلاة : قال : أبى . سأله : ومن علّم أباك الصلاة ؟ هل تعلمها من البخارى ؟ سكت . قال له محمد : وهل الناس قبل البخارى وغيره ممن كتب الأحاديث كانوا لا يعرفون الصلاة ؟ سكت . قال له : هل تعرف أن البخارى فى كتابه قام بتشويه الصلاة . إرتاع وسكت . أكملت له الشرح . أظهر مزيجا من الاقتناع والامتعاض ، وتركنا بنفس الأدب الذى جاء به .
من المضحك أيضا أن إستاذا إسرائيليا فى هذا المعهد كان ينظر لى مبتسما وأنا أتحدث فى الندوة ، ثم بعدها تجمع آخرون يسألون ، وكان هو منهم . قال لى إنه دعا شيخا باكستانيا الى بيته فى القدس ، وهذا الشيخ الباكستانى مشهور بالاعتدال ، أى داعية لما يسمى بالاسلام المعتدل . وقبل أن يدخل هذا الشيخ بيت الاستاذ الاسرائيلى سمع نباح الكلب فى الداخل . كلب يقتنيه الاستاذ . رفض الشيخ الدخول لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة . حكى الاستاذ هذه القصة مبتسما وسألنى عن رأيي ، شرحت له مقالى عن ( أبوهريرة والكلاب ) وأن أبا هريرة المتعصب للهرة ( القطة ) ضد الكلاب هو الذى صنع هذه الأحاديث ضد الكلاب وجعلها نجسة ، وهذا بالمخالفة للقرآن الكريم . أما عن خرافة أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة ، فقد قلت له إن الله جل وعلا ذكر فى القرآن الكريم أن لكل فرد إثنين من الملائكة تسجل أعماله وأقواله . فلو كان هذا الحديث صحيحا وأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة فستكون فرصة هائلة للفاسقين رواد الحانات وبيوت الدعارة وصالات الديسكو ، حيث تزدان تلك الأماكن بالصور ، ويدخلها العُصاة يرتكبون الفواحش بينما الملائكة يقفون فى الشارع يرتعبون من الصور داخل تلك البيوت . لمحت السعادة فى عينيه لهذا التفسير .
2 ـ بعدها إصطحبنا البروفيسور ماكس سنجر الى بيت د افرائيم إنبار رئيس معهد القدس للدراسات الاستراتيجية ، وقد صحبنا بسيارته فى جولة فى أعلى بقعة أثرية فى القدس ، ومنها ترى كل معالم القدس والآثار الرومانية وهى تحت التنقيب ، وشرح لنا معالم القدس القديمة . بعدها ودعنا ، وصحبنا بروفيسور ماكس سنجر الى بيته ، وسعدنا بلقاء زوجته ، وهى غاية فى الأدب وحُسن الضيافة ، وإستغرقت فى الكلام مع ابنى محمد بينما إنشغلت بالكلام مع بروفيسور ماكس .
3 ـ بعدها كان لقاء فى مطعم حضره لفيف من الأساتذة منهم البروفيسور هليل الذى كان ينتظرنا فى المطار . وعلى العشاء تبادلنا حديثا ممتعا ، ورجعنا الى الفندق فى القدس القديمة .
4 ـ فى اليوم التالى الخميس 22 مارس كنا على موعد مع أساتذة معهد القدس للعلاقات الخارجية . وحضره معى البروفيسور ماكس وصديقى الدكتور هارولد رود الذى أعرفه من قبل فى واشنطون ود. دان ديكر . كان معى ولداى محمد وحسام . دار الحديث بالانجليزية ، بدأت بالقول بأننى حين أتكلم عن الاسلام لا أقوم بالتبشير به بينكم لأن مهمتنا هى إصلاح المسلمين بالاسلام وليس التبشير بالاسلام بين غير المسلمين ، وأن هذا الاصلاح مفيد فى مواجهة الارهاب الذى يقتل المدنيين عشوائيا ، وشرحت لهم منهجنا فى تدبر القرآن ، مع لمحة عن القرآنيين وموقع أهل القرآن . وتوالت الأسئلة ، معظمها كان مريحا ، ولكن جنرالا متقاعدا كان يعمل محللا فى الاستخبارات واجهنى بأسئلة ، منها ما جاء فى القرآن الكريم من لعن اليهود ، وشرحت له أن مصطلح اليهود فى القرآن يخص الأشرار من بنى إسرائيل ، ولكن تم تعميمه فى التراث ليشمل الجميع خلافا لما جاء فى القرآن ، وقلت له : طبقا للقرآن الكريم فان البشر عند الموت وفى اليوم الآخر وطبقا لأعمالهم وإيمانهم يتم تقسيمهم الى ثلاثة درجات: إثنان فى الجنة وهما الأحسن والحسن ( السابقون والمقتصدون أصحاب اليمين ) ثم قسم فى النار وهم الأشرار . وأن هذا التقسيم يسرى على أهل الكتاب وعلى المؤمنين عموما وعلى الصحابة فى عهد النبى محمد . وسألنى عن آيات سورة التوبة فقلت إن التشريع فى القرآن منه ماهو خاص بوقته ، ومنه ما هو مستمر . التشريعات الخاصة بوقتها منها جاء خاصا بالنبى محمد وازواجه ، ومنها ما كان خاصا بعلاقاته بالمشركين المعتدين ناكثى العهود . وما جاء فى سورة التوبة داخل فى هذا ، أى خاص بزمانه ومكانه . سأل عن ما قاله الرئيس أبو مازن عن القتال فى سبيل الله طبقا لما جاء فى سورة الحج فى الايات من 39 : 41 ، قلت له أرجع لما كتبناه فى موقعنا عن تشريع القتال الدفاعى فى الاسلام لأن الوقت لا يتسع . قال لى إن ما أقوله هو نفس ما يقوله الشيخ القرضاوى . قلت إن القرضاوى منافق يتكلم بوجهين ، يخدع الغرب بالكلام عن سماحة الاسلام فى الوقت الذى يتحدث فيه مع أتباعه من الاخوان المسلمين بالخطاب الوهابى ، وهو خادم للمستبد العربى ، أما نحن فلنا خطاب إسلامى واحد نتمسك به برغم ما نعانيه من إضطهاد من الارهابيين الوهابيين ومن الحكام المستبدين ، ونحن ماضون فى طريقنا برغم كل المصاعب.
تدخل فى الحديث ابنى محمد وابنى حسام . حسام تكلم عن منهج السلفيين فى إنتقاء الآيات وتحريف معناها ، بينما تكلم محمد عن الوسيلة الأمثل فى مواجهة الارهاب ، ذلك أن الجنرال الاسرائيلى قال إن المواجهة تكون بقتل الارهابى قبل أن يقتل الآخرين فهو قد قرر قتل نفسه مقدما . قال له محمد : فماذا إذا قتلته ؟ هل قمت بحل المشكلة ؟ سيأتى بعد آلاف وألاف أيضا هل ستتغلب عليهم جميعا ؟ سكت الجنرال المتقاعد ، فقلت إن شيوخ الارهاب يشنون الحرب الفكرية يقنعون الشاب المتدين إنه سيدخل الجنة إذا قام بتفجير نفسه ، وعندها سيجد الحور العين فى إنتظاره. وإذا إقتنع شخص بتفجير نفسه فلا يمكن هزيمته . الحل الوحيد معه هو حربنا الفكرية المضادة التى تأخذ سبيلها الى عقله مباشرة تقنعه من خلال الاسلام بأن ما يريد فعله يناقض الاسلام وأنه سيخسر الدنيا والآخرة ، بهذا ننقذه وننقذ ضحاياه . فى النهاية قال هذا الجنرال إنه يصدقنى ، نحن فعلا غير الشيخ القرضاوى .
5 ـ كان هناك موعد فى بيت المستشرق الاسرائيلى البروفيسور يوحانان فريدمان بناءا على طلبه ، وهو استاذ الدراسات الاسلامية فى الجامعة العبرية وفى كلية شاليم ، وأشهر مؤلفاته كتاب عن التسامح والاكراه فى الدين فى الاسلام ، والذى نشرته جامعة كمبردج ، عدا مؤلفات أخرى ، وقد حصل على أعلى تكريم من الحكومة الاسرائيلية على منجزاته الفكرية . كان موعد اللقاء هو الرابعة والنصف عصرا . نبهنى ابنى محمد أن أصهار ابنى الأمير ينتظروننا فى نابلس ، وأن الأمير ينتظرنا على أعصابه . سألت البروفيسور ماكس أن يؤجل معادنا مع البروفيسور يوحانان الى الرابعة والنصف عصر يوم الأحد . إتصل به ووافق . وودعناهم وأخذنا طريقنا الى نابلس قبل ليلة (الحنّة ) للعروسين ، وحيث لحق بنا ابنى الشريف منصور ، بعد إستجوابه فى مطار تل أبيب .
6 ـ فى يوم الأحد سافرنا من نابلس الى القدس ، وإلتقينا بالبروفيسير ماكس سنجر الذى صحبنا الى بيت البروفيسور يوحانان . إستقبلنا الرجل بحفاوة زائدة . كان تقريبا فى عمر صديقه ماكس سنجر ، أى تعدى الثمانين ، لكنه أكثر رشاقة منى وأكثر حيوية . بعد الترحيب بنا قال بلسان عربى فصيح ـ حرص على الحديث به معنا ـ أن لديه هدية لى. دخل مكتبته العامرة ورجع بنسخة من كتابه عن التسامح والإكراه فى الدين فى الاسلام ، وقد كتب عليه إهداء رقيقا لى . ثم دار حديث ودى دافىء حرصنا على أن نسمع منه أكثر مما نتكلم ، وفى كلامه كان يستشهد بالشعر العربى الأصيل وببعض الأحاديث وبعض الآيات القرآنية . قال إنه تعلم العربية الفصحى من استاذ له متيم باللغة العربية والتراث العربى ، وقال إنه معارض للحكومة الحالية ولا يأمل فيها إصلاحا ، وقال إن طالبة مسلمة عربية إسرائيلية محجبة كتبت له تعليقا على كتاب له : (إن ما يكتبه كفر ) ، فرد عليها بالعربية الفصحى إن ناقل الكفر ليس بكافر . ونصحها أن تتبرأ مما يكتبه فى يوم الدين . وقال إن عدد الطالبات المحجبات من العرب الاسرائيليين قد زاد بصورة ملحوظة بما يدل على انتشار السلفية فى عرب اسرائيل . وحكى إن له صديقا باكستانيا يقيم فى عكا ، وهو شيخ الطائفة الأحمدية فى اسرائيل ، وقد أراد الذهاب الى الضفة الغربية ليبشر بالأحمدية هناك بين الفلسطينيين كما يفعل فى اسرائيل ، وكان هذا خطرا على حياته . وقال إنه كتب فى قضية نصر حامد أبوزيد ، وفيما بعد ـ عندما وصلت لأمريكا أرسل لى بما كتب .
7 ـ بتوديعنا البروفيسور ماكس سنجر وصديقه البروفيسور يوحانان أنتهت اللقاءات مع الأستاذة الاسرائيليين ، وعدنا الى نابلس ..
8 ـ فماذا عن نابلس والحواجز الأمنية بين الضفة واسرائيل ؟