هذا الموضوع المقدم لحضراتكم هو إجتهاد شخصي قابل للنقد البناء فقط. والغرض من هذا الموضوع وضع حدا للإتهامات التي تكال للمسلمين من أتباع الصراط المستقيم فى إنهم يهمشون دور رسول الله – عليه أفضل الصلاة والسلام – وإتهامهم كذبا وبهتانا بإنهم منكري السنة الإسلامية. فكيف نطيع الله لو لم نطيع رسول الله! كيف نتبع القرآن لو لم نتبع رسول القرآن! كيف نصدق القرآن لو لم نصدق مبلغ القرآن! كيف نتبع الحق لو لم نتبع نبي الحق! ولكن للأسف، ولبعض الأغراض الدنيئة، يحاول البعض لف الحقائق وتزويرها ليمنعوا صوت القرآن من الوصول إلى عقول الجميع. لا زال البعض يري أن القرآن مهمته تكمن فى الختم الرمضاني، وشفاء المرضى، وثواب القراءة، والتجويد ومسابقات الحفظ، والديكور فى السيارة وعلى الأرفف، وتحت الوسادة كمضاد حيوي للكوابيس الشيطانية. وعليه فإن هؤلاء المدلسون لا يقبلون بأي صوت يدعو الناس للعودة للوحي الإلهي الحق والتمسك بالصراط المستقيم الأوحد. هؤلاء المخادعون الذين يعملون فى الخفاء لصالح أعداء الله ويحاولون إخراس أصوات الحق قبل أن تعلوا فتقوم الأمة من سباتها العظيم.
لقد هدانا الله للإسلام دينا وللقرآن صراطا مستقيما. والقرآن هو تفصيل عربي من غير ذى عوج لآيات الكتاب والذكر والحكمة والتي بعث لبلاغها محمد بن عبد الله رسولا. ولقد تضمنت الرسالة المفصلة قرآنا دلائل نبوة محمد بن عبد الله (ص)؛ أي أن الرسالة كمعجزة بإذن الله هي التي أثبتت نبوة محمد الرسول فآمن برسالته من شاء وضل من شاء. فلكل نبي معجزة تثبت نبوته وذلك ليطمئن قلب أمته ويؤمنوا برسالته، ودائما ما تكون هذه المعجزة منفصلة عن تلك الرسالة؛ فبعيدا عن التوراة، كانت معجزة موسى هي السحر فى وجه كبار السحرة بمصر، وبعيدا عن الإنجيل كانت معجزة المسيح تكمن فى الطب وإحياء الموتي فى وجه أطباء اليهود. ومن خلال إستعراض المعجزات والتغلب على العلماء كان كلا من موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام يثبتون أمام قومهم نبوتهم للتأكيد على أن رسالتهم موحاة من رب العالمين، فآمن من آمن وكفر من كفر. ولكن إختلف الحال مع الرسالة القرآنية الخاتمة، فقد جاءت معجزة سيدنا محمد ودليل نبوته من داخل رسالته ومن صميم الوحي الإلهي المنزل المفصل آياته قرآنا عربيا؛ فجاءت معجزة القرآن العربي (وضع عشرون خط تحت القرآن) لتتحدي بلغاء العرب وشعراء الأميين وتثبت وتؤكد نبوة محمد بن عبد الله: "وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ". وعجز الشعراء أمام بلاغة هذا الوحي السماوي ودخل الناس فى دين الله أفواجا. ولهذا لا يوجد وحي إلا سور الله القرآنية الإعجازية التي يعجز اللسان الآدمي على الخروج بمثلها، ولا مجال للقول بأن الروايات المنقولة - بلغة بشرية غير إعجازية - عبر ستة أجيال وحي يضاهي الإعجاز الإلهي والذى كان هو ولا زال المعجزة الوحيدة التي أيدت نبوة سيدنا وسيد العالمين محمد بن عبد الله – عليه أفضل الصلاة والسلام وأقنعت الناس برسالته. ومن يضيف وحيا آخر إلى الوحي المعجزة الذى أيد الرسول النبي الأمي، قد إفتري على الله كذبا وبهتانا عظيما.
لقد كلفنا الله بطاعة وإتباع رسوله ونبيه محمد بن عبد الله – عليه الصلاة والسلام. ففى طاعة الرسول طاعة لله ورسالته (وحيه) وفى إتباع نهج النبي إتباع للحق وإرساء للعدل المدني. ولقد وضحنا من قبل وإتفقنا على أن هناك فرق بين وظيفة الرسول ووظيفة النبي؛ أي أن هناك فرق بين دور محمد بن عبد الله (ص) كرسول ودوره كنبي. وقد وضح هذا فى القرآن الكريم من خلال تفصيل الله سبحانه وتعالي للآيات التي تخاطب الرسول والآخري التي تخاطب النبي. فالرحمن، مثلا، يخاطب سيدنا محمد (ص) بالنبي فى آيات العتاب أو الآيات الخاصة بموقف حياتي معين. وللقارىء أن يتدبر الأيات التالية والتي تحتوي على عتاب ويخاطبه الله بالنبي وليس بالرسول: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ – الأنفال 67، "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" – التحريم 1. ومن الإعجاز القرآني البلاغي الملحوظ أن الله فصل بين مفهوم الطاعة والإتباع الملزم علينا تجاه سيدنا محمد مما يؤكد على وجود بعدين لدوره الكريم. فالله أمرنا بطاعة الرسول محمد من جهة وإتباع النبي محمد من جهة أخري. أي أن السميع العليم لم يكلفنا بالطاعة لمحمد النبي (ص) كما كلفنا بطاعته كرسول؛ وهذا منطق إلهي بالغ الإتقان مما يجزم أن القرآن وحي إلهي لم يكتب أبدا بأيدي بشرية. فرسولنا ونبينا محمد جاء ليبلغ رسالة القرآن وكذلك ليرسى قواعد أول دول إسلامية مدنية على وجه الأرض. ومن هذا المنطلق أصبح له دور رسالي ودور قيادي؛ الدور الرسالي خاص بالقرآن وتبليغه والدور القيادي خاص بإتمام مكارم الأخلاق لإرساء دولة مدنية مزدهرة الرخاء. الرسالة جاءت عالمية الأبعاد مطلقة الحدود ولهذا وجبت الطاعة للرسول حاملها، وهي طاعة أيضا عالمية الأبعاد ومطلقة الحدود. أما القيادة النبوية فهي وقتية لتقييد الحلال المطلق زمنيا وطبقا لإحتياجات العصر، وعليه وجب إتباع النبي، المعلم، والقائد العظيم فى نهجه، وذلك بوضع أسس وقوانين طبقا لما يتناسب مع عصر كل أمة لتقييد مطلقها الحلال بما يدير النفع على المجتمع.
نحن ملزمون كأمة إسلامية بطاعة الرسول فيما وصلنا من شرائع وسنن إلهية. لا مجال لنا ولا للنبي أن يحرم أو يحلل ما حلل أو حرم الله تعالي. بل نحن مأمورون بالطاعة العمياء طالما رضينا بالإسلام دينا. أما فيما يخص الحياة المدنية البعيدة عن شريعة الله، فنحن فى حاجة إلى تقييد - وليس تحريم - الحلال المطلق للحفاظ على آدمية وإنسانية المجتمع. وكان هذا هو دور النبي القائد. فلقد وضح الله لنا ما حرم علينا وما دون ذلك دخل فى مطلق الحلال. فالله لم يحرم علينا – مثلا - أن أضع ميكروفون خارج غرفتي وأذيع قرآن ليل مع نهار بصوت عالي، ولكن المجتمع المدني قيد هذا الحلال المطلق بوضع قانون يمنع مثل هذا الإزعاج حفاظا على حقوق وراحة المواطنين. كذلك لم يحرم الله علينا أن نقود سياراتنا بلا حزام أمان، ولكن المجتمع المدني تدخل وقيد هذا الحلال المطلق وخرج علينا بقانون يحفظ السائق ومن معه من خطر الطريق وذلك بإلزامه بوضع حزام الأمان. وأخيرا، مثلا، لم يحرم علينا الله كسر إشارات المرور أثناء القيادة، ولكن تدخلت القوانين المدنية وقيدت هذا الحلال المطلق وأمرت بسحب سيارة من يكسر إشارات المرور ثلاث مرات ولمدة شهر كإلزام له بإتباع قواعد القيادة الآمنة. وهذا كان هو دور النبي كقائد يحكم أول أمة إسلامية مدنية. فبعيدا عن كونه رسول لا ينطق عن الهوي، كان محمد النبي – الغير معصوم - يقيد أويطلق الحلال المطلق طبقا لإحتياجات ومتطلبات مجتمعه المدني وليس الإسلامي.
فيحضرني الآن رواية حف الشارب ولنأخذها كمثال. قام الإخوة المسلمون بتعميم حف الشارب كفعل واجب على كل مسلم للإقتضاء بالنبي. ولكن ما يجهله البعض، أن هذه الرواية وإن صحت تدخل فى باب الحكم المدني وتقييد المطلق الحلال لوجود مؤثر خارجي يستدعي ذلك. فنبي الله ومن معه، وكعادة العرب إلى وقتهم الآن، كانوا يطيلون شعورهم بما في ذلك اللحية والشارب. فكان النبي هكذا، وكذلك أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو لهب وأبو سفيان وحنظلة وعكرمة وقتيبة وكل الأسماء العربية الأخري. وظلوا هكذا حتي بعد إسلامهم لأن تلك الجزئية خارجة عن نطاق الشرع والسنن الإلهية وتدخل فى سياق المدنية الإجتماعية. وبعدما بدأت المعارك الإسلامية مع كفار قريش وإزداد عدد المحاربين المسلميين من مهاجرين وأنصار، تبين للنبي القائد أن القومان المتصارعان لا يفصل بينهما فى الشكل وسيصعب التفرقة بين المسلم والكافر وخاصة بعد إزدياد عدد المسلمين وعدم معرفتهم بعضهم البعض. فجاء الأمر، البعيد كل البعد عن الوحي والسنة، وأمرهم النبي القائد بحف الشارب حتي يتسني للمسلم حقن دم أخيه المسلم وعدم قتله خطأ. هذا هو سبب حف الشارب الذى أمر به النبي القائد فى عصر ما ووقت ما ولسبب ما، وليس له دخل بالوحي لا من بعيد ولا من قريب، ولا يجب أن يعمم ويفرض علي الرجال على إنه أمر إلهي وسنة ينكرها من يرفضها. حف الشارب مثل وضع حزام الأمان، مطلوب لسبب وجيه ولمواجهة مؤثر خارجي، وضعه صاحب الأمر ووجب طاعته وقتها وإلغاءه إذا أنتفت علته. فأنا لن أضع حزام الأمان وأنا أقود سيارتي في إحدي القري مثلا لأنه لا توجد السرعة التي تستوجب وضع الحزام وذلك بسبب سوء أحوال الطرق أو عدم وجود طرق سريعة، وبالتالي ألغي الحكم.
ومن هنا يتضح الفرق بين طاعة الرسالة فى شخص الرسول وإتباع النبي فى وضع سنن مدنية تخاطب كل مجتمع بمؤثراته الداخلية والخارجية. ولهذا أيضا أمر نبي الله ألا تدون قوانينه لأنه يعلم إنها وقتية وأن الزمان يتغير وأن من حق كل قائد ولى الأمر أن يضع القوانين والسنن التي تناسب عصره وقومه. فخاف (ص) أن يختلط الأمر على المسلمين ويمزجون بين السنة السماوية والسنة المدنية الأرضية وبذلك يقيد الفكر والإبداع على أساسه. وهذا والله ما حدث بالضبط، فنحن فى القرن 21 الميلادي، ولا زلنا نعيش متخبطين بين حضارة قرننا هذا وحضارة القرن السابع الميلادي. لقد أعطانا الله الأدلة القرآنية الإعجازية ولكننا أبينا أن نعمل بها وإتبعنا ما ألفنا عليه آباءنا ولم نخف الله قدر خوفنا من السلف خير الخلف.
والسلام ختام....
المراجع: القرآن الكريم - صحيح مسلم - نحو فقه إسلامي جديد لدكتور شحرور