لمحة عن توظيف الشعر والشعراء

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠٣ - ديسمبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

لمحة عن توظيف الشعر والشعراء

مقدمة : كتب د رضا عامر تعليقا على مقال الأمس ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) ، يقول فيه : (اسمح لي اخي الدكتور ان اعيد نشر تعليق لى كنت قد كتبته في   السبت 30 ابريل 2016 ونصه الاتى : شعراء اليوم : أعتقد أن أكثر من ينطبق عليه الوصف القرانى للشعراء فى عصرنا الحالى هم الاعلاميون .. فهم فى كل واد يهيمون وعلى كل الموائد يأكلون وأنهم يقولون ما لا يفعلون وبذلك يتبعهم الغاوون .. ومن المعروف أن الشعر والشعراء قديما كانوا يشكلون الاعلام فى العصر الحديث فهم من كانوا يتناقلون أخبار الحروب والأحداث العامة كما أنهم كانوا يشكلون الرأى العام من خلال المدح والذم . الفرق الأساسى أن شعراء الماضى كانوا أكثر بلاغة .). تعليق رائع . وأرد عليه بهذا المقال الذى يعطى لمحة سريعة عن الشعر والشعراء .

أولا : الشعر والشعراء فى لمحة تاريخية

فى العصر الجاهلى :

1 ـ كان الشعر ميدان التفاخر بين القبائل  فى مناسبات إجتماعاتهم ومنها سوق عكاظ ، وكان مدار التسلية ، وتنوعت أغراضه من فخر ومدح وهجاء وغزل بالنساء. وكانت العادة أن تبدأ القصيدة بالغزل والبكاء على أطلال تركتها المحبوبة  . وكانت الرواية الشفهية هى السائدة ، وبها كان حفظ أشهر القصائد فى الجاهلية خصوصا المعلقات العشر ، وأشهر الأقوال فى تسميتها بالمعلقات أنه كان يتم تعليقها فى الكعبة . وشعراء المعلقات هم أمرؤ القيس وطرفة ابن العبد والحارث بن حلزة  وزهير بن أبى سلمى وعمرو بن كلثوم  وعنترة بن شداد  ولبيد بن ربيعة  والأعشى وعبيد بن الأبرص والنابغة الذبيانى  .

2 ـ وقد بدأ جمع الشعر الجاهلى وتدوينه فى العصر العباسى حيث إهتم به الخلفاء العباسيون الأوائل نوعا من التسلية فى مجالسهم . وبينما تكاثر الشعراء على أبواب الخلفاء فقد كان حُفّاظ الشعر الجاهلى قليلين ، وأشهر من قام بجمعه حمّاد الراوية ، وقد أتهم بالانتحال ، وإعترف أمام المأمون أنه أضاف واخترع قصائد كثيرة ، فأطلق عليه حمّاد الشاعر بدلا من حمّاد الراوية .

3 ـ  وهذا أحد أسباب الشك والخلط  فى الشعر الجاهلى ، يضاف اليه أن بداية علم النحو كانت تعتمد على تجميع الشعر الجاهلى وألفاظ العرب من الأعراب فى أعماق الصحراء والذين لم يتأثر لسانهم بمخالطة ( الأعاجم ) ولم يعرفوا اللحن، ثم إستخلاص قواعد علم النحو منها . ودبت منافسة بين أشهر مدرستين فى علم النحو ( البصرة والكوفة ) ، وتبارزتا بالشواهد الشعرية ، مما يعزز القول بأنهم صنعوا شواهد نسبوها للشعر الجاهلى وليست منه ، وبدا من هذا الشعر تأثره بالعصر العباسى. ولعل هذا ما جعل د طه حسين يشكك فى الشعر الجاهلى .

فى الدولة الأموية  :

1 ـ القرآن الكريم أبهر العرب وأذهلهم ، فليس بالشعر وليس بالنثر ، وترسب فى عقولهم إعجازه فى الفصاحة فقط . والهزة التى أحدثها الاسلام فى الجزيرة العربية أنست العرب ما تعوده من الاهتمام الزائد بالشعر . واستمر هذا بإنشغال العرب بالفتوحات ثم بالفتنة الكبرى .

2 ـ وعادت للشعر دولته فى الدولة الأموية التى أعادت الثقافة العربية ( الجاهلية ) بتعصبها للعرب ، وكان جيشها من القبائل العربية كما كان معظم الثائرين عليها من القبائل العربية ، وقد قام الخلفاء الأقوياء بالتوازن بين القبائل العربية التى تنتمى الى قحطان ( اليمنية ) والقبائل المنتمية الى عرب الشمال ، وأهمهم قبائل قيس . وحرصت على أن تجعل الفريقين يتنافسان فى خدمة الدولة ، وألّا يتحدا ضدها . وكان الشعر من وسائل الأمويين ، فحرضت الشعراء على التهاجى فخرا لنشر التعصب القبلى ، كما أغدقت الأموال على من يتقرب لهم بالمدح . واشتهر فى العصر الأموى ثلاثة شغلوا الناس بالهجاء فيما بينهم أو ( النقائض ) وإشتهر بهم سوق المربد بالبصرة ، وهم الفرزدق ت 114 هجرية  وجرير الخطفى  ت 110 ،و الأخطل التغلبى ( المسيحى ) ت 92 ، والذى كان يدخل على الخلفاء والصليب على صدره ، فلم يعرف الأمويون التعصب الدينى ، كانوا متعصبين للعرب ضد غير العرب حتى كانوا يأخذون الجزية ممّن أسلم من غير العرب .  

2 ـ كان الفرزدق يميل لأهل البيت مع ولائه للأمويين وأخذه عطاياهم ، وعلى العكس كان الكميت بن زيد  الذى أخلص لبنى هاشم وهاجم بنى أمية ، وإشتهر بقصائده الهاشميات ، وقد قتله الوالى الأموى فى العراق يوسف بن عمر عام 126 . الغريب أن الكميت الشاعر الشيعى كان صديقا للطرماح بن حكيم شاعر الخوارج ـ هذا على ما بين الشيعة والخوارج من تناقض فكرى ودينى . وقد سئل الكميت عن هذه الصداقة الغريبة وعن الذى يجمعهما فقال : (  إجتمعنا على بُغض العامة . ). الطرماح شاعر قحطانى من قبيلة ( طىء ) وإشتهر بهجائه المقذع خصوصا لقبيلة بنى تميم التى خدم معظمها الأمويين . وفى صف المعارضة أيضا ظهر الأحوص الذى نفاه الخليفة الوليد بن عبد الملك الى جزيرة دهلك فى جنوب البحر الأحمر ، وقد مات عام 105 . ثم الشاعر أعشى همدان الذى شارك فى الثورة على الحجاج مع محمد بن الأشعث ، ووقع فى الأسر بعد هزيمة الثوار فى معركة دير الجماجم ، وكان من بين آلاف الأسرى الذى قتلهم الحجاج عام 83 .  

3 ـ خارجا عن التوظيف السياسى للشعر والشعراء إشتهر وقتها الشعر العذرى لجميل بثية ومجنون ليلى ( قيس بن الملوح ) و ( كثير عزة ) وتخصص بعضهم فى الغزل المفضوح و ( التشبيب ) بالنساء ، وإشتهر منهم من  قريش الشاعر عمر بن أبى ربيعة ت 93 والشاعر العرجى  حفيد عثمان بن عفان ، وإشتهرت سكينة بنت الحسين بعقد مجالس للشعراء فى بيتها .

4 ـ فى إزدهار الشعر أتيح الشهرة ل ( نصيب بن رباح ) ت 108  وكان عبدا لعبد العزيز بن مروان والى مصر ، ثم إشتهر بمدحه لسيده عبد العزيز .  

فى العصر العباسى :

1 ـ فى صدر العصر العباسى كان الشعر من وسائل التسلية ، وتنافس الشعراء على ابواب الخلفاء والولاة طلبا للجوائز ، وأتيحت لهم الشهرة مع التدوين . ونبغ منهم أبن أبى حفصة وكان متعصبا للعباسيين ودفع حيلته ثمنا لذلك إذ إغتاله خصم للعباسيين عام  182 ،  ومنهم أبو العتاهية ت 213 ،  ومدح المهدى والهادى والرشيد ، وبشار بن برد الذى عاش العصر الأموى وأدرك العصر العباسى ، وهجا الخليفة المهدى فقتله ضربا بالسياط عام 168 ، وأبو نواس الذى إختص بالخليفة الأمين ومات عام 145 ، وأبو تمام ت 231  والبحترى ت 284 . وسار ( دعبل بن على ) على طريق الكميت بن زيد فى التشيع ، وكان أكثر منه شجاعة ، وقد هجا الخليفة المأمون هجاءا مُرا .

2 ـ بدأ تغير الأمر فى العصر العباسى الثانى من عهد الخليفة المتوكل ( 232 : 247 ) الذى بدأ فيه نفوذ الحنبلة السنيين المتعصبين مع نفوذ القواد الأتراك الذين كانوا يتحكمون فى الخلفاء يعزلونهم ويقتلونهم . لم يعد الخليفة مصدر السلطة بل الأتراك ، وإجتاحت الشارع العباسى لوثة سماع الحديث وتدوينه وإنخرط فى هذا الرعاع من الناس . ولكن حدثت صحوة فى دولة الحمدانيين  فى الموصل وحلب وجنوب الأناضول ، وإشتهر فيها المتنبى ت 354 ، وأبو فراس الحمدانى 357 .

فى العصر المملوكى

1 ـ واصل الشعر تدهوره بنجاح ساحق وحلّ أولياء التصوف والفقهاء ـ الذين يدينون بالتصوف السنى ـ محل الشعراء ، وانتشر  شعر التصوف برموزه وبالحلول والاتحاد وما يزعمونه بشعر العشق الالهى ونبغ فيه عمر بن الفارض وغيره . واستولى المغول على بغداد فأصبحت القاهرة المملوكية مركز الثقافة والسياسة . ولا ننتظر من المماليك أن يهيموا بالشعر ، لذا إزداد تدهورا ، وصار من سماته ضعف المعانى وسذاجتها وـ أحيانا ـ غموضها ، وأن يقع المعنى المراد تحت أثقال من التكلف والمحسنات البديعية التى أصبحت مقصودة لذاتها . وهناك نماذج كثيرة لهذا فى موسوعة خليل بن أيبك الصفدى التاريخية ( الوافى بالوفيات ) هذا مع انتشار الفُحش اللفظى إنعكاسا للتردى الأخلاقى الذى عاشه العصر المملوكى بتأثير التصوف .

 2 ـ ونجا من هذا الشاعر صفى الدين الحلى ت 752 ، وهو صاحب قصيدة ( قالت ) التى شدا بها محمد عبد الوهاب ، وفيها روعة البلاغة فى المقابلة والتورية . وقد عمل صفى الدين الحلى بالتجارة إذ لم يعد الشعر مصدرا للرزق .

3 ـ وانتشرت مأساة أن يلجأ الموهوبون من الشعراء الى الارتزاق بأى وظيفة ، بل إن منهم من إحترف الجزارة  وهو الشاعر المشهور فى عصره جمال الدين  أبو الحسين الجزار ابن  مدينة الفسطاط المتوفى عام 672 ، وقد كان مثقفا إلا إن هذا لم يكن كافيا لأن يعيش بما يليق فإمتهن مهنة أسرته وهى الجزارة ، واشتهر بلقب ( الجزار ) . وهو يمثل خفة الدم المصرية ، ومن شعره المشهور عمّن سأله لماذا يعمل بالقصابة ( الجزارة ) :

لا تلمني يا سيدي شرف       الدين إذا ما رأيتني قصابا

 كيف لا أشكر الجزارة         ما عشت وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلاب ترجوني  وبالشعر كنت أرجو الكلاب

4 ـ وبرز شعراء أميون يقولون الشعر الشعبى ، وبعضهم كان يقول شعرا بالفصحى مثل الشاعر ابراهيم المعمار ت 749 ، وكان ظريفا فى شعره ، وله لمحات رائعة مثل قوله :
قد بلينا بأمير ...     ظلم الناس وسبح

فهو كالجزار فينا ... يذكر الله ويذبح  

5 ـ إزدادت محنة الشعر فى العصر العثمانى مع شيوع الجهل وسيطرة الجمود ، فشاعت العامية حتى فى الرسائل الديوانية وفى المؤلفات ، وانعكس هذا على الشعر ، فبرز الشعر العامى ، والتفت اليه علماء العصر يشرحونه ، ومنه كتاب (هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف) وقد شرحه الشيخ يوسف محمد خضر الشربيني . ومع عاميته وسذاجته فهو وثيقة هامة لحال الريف المصرى فى العصر العثمانى

 الشعر فى العصر الحديث :

1 ـ بدأت النهضة عسكرية تعليمية فى مصر فى عهد محمد على ، ثم أعطت ثمارها الثقافية والحضارية فى عهد الخديوى اسماعيل ، وبدأ على هامشها عصر للتنوير والليبرالية ــ نتحسر عليها الآن . وفى هذه التربة صحا الشعر وتألّق متخلصا من أثقال العصر العثمانى . فى الثلث الأول من القرن العشرين ظهر أحمد شوقى وحافظ ابراهيم وأحمد محرم ، وآخرون فى لبنان ، مع شعراء المهجر .

2 ـ وإنشغل الشعراء بهموم الوطن فى صراعه مع المستعمر ، وبعضهم جمع بين الشعر والنثر مثل المنفلوطى والعقاد ومصطفى الرافعى ، وإستفادوا بانتشار المطابع والصحف والمجلات ، وبدا فى الأفُق أن دولة الشعر آتية . ولكن هذا لم يطُل . فالشعر إستفاد من الطباعة ولكن ما لبث أن تأثر بأجهزة الراديو ثم التليفزيون . صحيح أنها أوصلت بعض الشعراء الى الآفاق ، ولكن هذا من خلال سيطرة الدولة ثم من خلال مصاحبة الشعر ( الفصيح والعامى ) للأغانى والدراما السينمائية والتيلفزيونة . وساعد على تغييب الشعر تهاوى مستوى الشعراء . لم يوجد منهم من هو على مستوى شوقى وحافظ . قليلون منهم من يستحق الاشادة ، مثل كامل الشناوى ونزار قبانى و على محمود طه و محمود حسن اسماعيل و ابراهيم ناجى ..وأولئك أسست شهرتهم غناء كبار المطربين والمطربات لهم لأن الشعر مع أفول دولته أصبح يتكىء على الغناء والفن والدراما . عدا هذه القلّة دخل ميدان الشعر من لا موهبة لديهم ، وقد وجدوا فيما يسمى بالشعر الحُرّ ورقة التوت التى تستر إنعدام الموهبة لديهم . هذا بينما إزدهر الشعر الشعبى المصرى ، بدأ به عبد الله النديم ت 1896 م، وإزدهر بأحمد رامى وبيرم التونسى .. ثم سار على نفس العبقرية صلاح جاهين وحسين السيد وسيد حجاب ومرسى جميل عزيز وفتحى قورة وآخرون ..

أخيرا :

كان الشعر يقوم بدور وزير الاعرم لقبيلته فى العصر الجاهلى ، ثم اصبح       الشعراء وزاةإعلام للخلفاء بينما كانت للمعارضة رموزها الاعلامية . وخمد هذا حين لم يعد السلطان معتمدا على رجال كهنوته فى  تبرير ظلمه بالأحاديث والفتاوى . وصحا الشعر فى عصر الليبرالية ، ثم ما لبث أن قضى عليه المستبد الشرقى ، الذى لا يقرأ ولا يكتب ، ولكن لديه رجال الاعلام ورجال الدين ورجال الأعمال .. ومع هذا فهو لايقنع ولا يخشع  . 

اجمالي القراءات 9563