قديما كان يُنظر للاقتصاد على أنه عملية بيع وشراء وصناعة فقط، لكن مع تقدم البشرية اختلفت النظرة، بمعنى أن آبائنا وأجدادنا كانوا يرون أن العامل والتاجر هو عماد الدولة ، ففكرة الاقتصاد كعلم مستقل لم تكن ظهرت بعد، وحاليا يُرمز له بجسم إنسان مُكوّن من عظام ولحم وشرايين وأعصاب ودم..فيكون الدم هو عنصر الحياة ، في المقابل (الدخل) هو عنصر حياة الاقتصاد وهو يقوم بنفس وظيفة الدم في جسم الإنسان.
لكن كيف نحصل على الدخل؟
بإيجاز شديد يقوم الاقتصاد الحديث على خمسة قطاعات يشكلون منظومة الدخل كل واحد فيهم مستقل عن الآخر ، ويختلف في طبيعته حسب الدولة وربما موقعها الجغرافي، بمعنى أن مصر بحكم موقعها الجغرافي تستفيد من دخل قناة السويس (كمورد) وربما يوضع كشكل من أشكال التجارة أو الخدمات.
القطاع الأول: الموارد، وهذا يشمل مجالات التعدين والطاقة النفطية والغازية والكهربائية والشمسية، إضافة للزراعة، وبعض الدول حجم مساهمة هذا القطاع في اقتصادها ضعيف وأخرى قوية، لكن ليس مؤشر على قوة الاقتصاد من عدمه، فاليابان مثلا يمثل هذا القطاع لديها أقل من 2% ورغم ذلك هي ثالث أكبر اقتصاد في العالم، بينما مصر يمثل هذا القطاع لديها 20% ومع ذلك ضعيفة اقتصاديا ومؤشرها الائتماني منخفض.
القطاع الثاني: الصناعة، وينقسم لصناعة إنتاجية وأخرى تحويلية، ووظيفته تصنيع المادة الخام والسلع الزراعية ، ووجوده مهم جدا في الدول النامية بشريا والمتخلفة تقنيا، لأنه يُعوض هذا التخلف التقني وباحتواءه الأيدي العاملة يقلل من المخاطر المهددة للدولة، أي يُنصح به بشدة في مجتمعات فقيرة وكثيرة العدد كمصر لتأمين الاقتصاد، لكن موقفه عموما كالقطاع الأول ليس شرطا لقوة اقتصاد من عدمه، فالدولة قد تكون صناعية وفاسدة في نفس الوقت، أي يلزم مع الصناعة وجود فلسفة إنتاج وتعاون حكومي وشعبي..بيد أن غالبية تجارب الصناعة الفاشلة حدثت بسبب فقر الدولة المعرفي وإدارتها الضعيفة واستبداد الحكومة..الصناعة بالذات تتطلب دعم شعبي بكل الفئات خصوصا الطبقتين الوسطى والغنية..
قلت أن هذا القطاع ليس شرطا لقوة الصناعة لأنه يختلف من بلد إلى بلد، فسنغافورة مثلا ليست بلد صناعي واقتصادها قائم على التجارة والسوق الحرة والخدمات، بل إن القطاع الأول (الموارد) يكاد يكون معدوم في سنغافورة..لكن مع ذلك هي دولة غنية ولها ثالث أكبر نصيب للفرد في العالم، ولديها صندوق سيادي بلغ هذا العام 270 مليار دولار..نفس الحال في هونج كونج واستراليا ، وربما كندا نفس الحال التي تبلغ عمالتها 13% فقط للصناعة، والباقي معظمه خدمات، لكن هذه دول مرت بتجارب الصناعة الأولية ثم التصنيع الكامل..والآن تخطت هذه المرحلة لتعيش وفق نمط اقتصادي مختلف.
لكن مع ذلك أؤكد أن هذا القطاع هو شريان الحياة وقشة إنقاذ المجتمعات النامية والفقيرة، خصوصا التي يقبع تعليمها المدرسي في مستوى متدني كمصر، ربما بعد ذلك حين تحقق الدولة صناعتها المطلوبة وتنتقل بثقافتها يمكن وقتها أن تفكر بالانتقال كما حدث لسنغافورة ، أما الآن فالتصنيع أولوية.
القطاع الثالث: التجارة، ويعني بيع الأشياء التي ينتجها القطاع الأول ويصنعها القطاع الثاني، وفلسفة هذا القطاع مختلفة حين يكون محليا أو خارجيا، فالتجارة الداخلية لها أصولها المتفقة مع القانون ومستوى الدخل وحركة السوق، نفس الحال مع الخارجية لكن يُضاف لها ما يُعرف (بالسعر الموحد العالمي) فلكل سلعة ثمن عالمي خاضع لحركة السوق، ويُقدر متوسطه بالتكلفة وسعر العملة وهامش الربح وضريبة القيمة، فالمنتَج الصيني أرخص من الأمريكي لانخفاض اليوان عن الدولار، ورواج هذا السعر المنخفض في الدول النامية طبيعي أما المتقدمة فالتعاطي مع السلعة يحدث بطريقة مختلفة حيث عوامل الجودة والأمان في المقام الأول.
لكن هذا لا يعني أن التجارة سلوك افتراضي وحركة آلية تحدث بدون تدخل بشري، بل يحدث تدخل الدول في الغالب سلبا وإيجابا، وهو ما يُعرف (بالاقتصاد السياسي) حيث قديما لم تكن للدولة المركزية نافذة كما هي عليها الآن، والمجتمعات قديما كانت تبيع وتشتري وفقا لعاداتهم وأعرافهم لسبب وحيد هو انفصالهم الاقتصادي عن الدولة ، أما الآن وبعد ظهور الدولة الحديثة وتطور نُظُم الإدارة وزيادة نفوذ الحاكم انتقلت التجارة إلى مرحلة (الدمج) حيث دمجت بين الاقتصاد المحلي للقبائل والقرى والمدن وبين الاقتصاد الوطني للدولة، وهذا التطور حفّز خيال بعض فلاسفة الاجتماع بتطوير مفهوم الليبرالية إلى .."ليبرالية اجتماعية"..تدعو لتدخل الدولة في حركة التجارة بهدف حفظ حقوق الفقراء التي قد تضيع بفساد وجشع الأغنياء، ومن هنا ظهر ما يسمى.."هامش الربح"..بتحديده في بعض الدول – كفرنسا- بإضافة نسبة على التكلفة.
وهذا الهامش الفرنسي من إنجازات الفكر الاشتراكي الذي يطبق في بعض الدول وله مؤسسات مشهور ك.."جهاز حماية المستهلك"..
القطاع الرابع: التكنولوجيا، وهو متنوع يضم كل مجالات المعرفة الأبستمولوجية وفنون الإدارة والتحكم في الذات، وفي تقديري هذا هو أهم القطاعات على الإطلاق كونه شريان مغذي للقطاعات الثلاثة الأولى، فبدون تكنولوجيا تخرج المادة الخام بطريقة بدائية وتضيع بفعل الإهمال والعجز، وبدون تكنولوجيا لن يكون هناك زراعة ناجحة فالبحوث الزراعية مثلا – وهي جانب تكنولوجي- تبحث في توفير المحصول بأقل تكلفة، والمياه بأقصر وأسهل وسيلة، ومكافحة الآفات بطُرُق فعالة ورخيصة.
ينقسم هذا القطاع لثلاثة جوانب فرعية الأول: التعليم والثقافة وفيه يدرس الإنسان الكون ويفهمه بطُرق متعددة من ضمنها التأليف والتمثيل والغناء..إلخ ، ويكاد يكون هذا الجانب طاغي ومتداخل بشدة مع قطاعات رئيسية أخرى في الاقتصاد، بل ربما يتداخل مع السياسة، فالتعليم والثقافة الجيدان ينتجان مجتمع جيد، أما الثاني فهو الإنترنت والاتصالات وفيه يستخدم الإنسان سُبل التواصل في المعرفة والانفتاح اللذات يؤثران سلبا وإيجابا في قدرة الشعب وفهمه لاقتصاده، ومعنى ذلك أن تعليم وإنترنت سئ يعني فشل في إنتاج كوادر أو الحصول على المعلومة الصحيحة، أما الفرع الثالث فهو البحوث ..وهو الشريان العقلي المغذي لكل قطاعات الدولة والاقتصاد، ومنتَج فوري للتعليم والاتصالات.
أما القطاع الخامس: هو الخدمات كالسياحة والضرائب والبنوك والصحة والإعلام والعقارات..إلخ..وهو القطاع الأكبر والأضخم في معظم اقتصاديات العالم الآن ، والسبب يخفى عن الكثيرين ، حيث لم تكن مصانع العالم بهذا الشكل قبل 70 عاما، فالمصانع كانت تحتوي الأيدي العاملة، ثم وبظهور القطاع الرابع (التكنولوجيا) وتقدمه بإحلال الآلة مكان العامل حصل فائض في الطاقة البشرية تم توظيفه مباشرة في الخدمات
في عام 2015 ظهر نائب الرئيس الصيني.."لي يوان تشاو".. في مؤتمر للروبوتات وأعلن عن بدء عصر صناعي جديد تستغني فيه الصين عن ملايين الأيدي العاملة التي ستتحول تلقائيا لقطاعات أخرى ربما للموارد أو للتجارة والخدمات، ويُرجى العلم أن هذا القطاع مرتبط ومتداخل مع القطاع الثالث (التجارة) فعن طريقه تنظم الدولة الأيدي العاملة للمتاجر ومراكز التسوق، وعن طريقه يستقبل الإعلام مئات الآلاف من الأيدي العاملة التي تعيش على السلع وإعلاناتها ، بل بيع وشراء المصنفات الفنية كجزء من حركة الاقتصاد بشكل عام، وسنويا تُسهم هوليود في دخل لأمريكا بالمليارات، وكذلك بوليود الهندية ونوليود النيجيرية، إضافة للسينما المصرية وصلت في زمن قريب لمستوى عالي من الربح.
يبقى السؤال: كيف يصبح الاقتصاد قويا؟
الإجابة باختصار شديد حين تتناغم كل هذه القطاعات مع بعضها إن وُجِدَت، وهذا يلزمه نجاح سياسي ومجتمعي في توفير أقصى درجات الأمان والشعور بالثقة، فالمجتمع المستبد الغير ديمقراطي تصبح فيه تلك القطاعات مصدر أزمة بدلا من أن تكون مصدر حل، فالديمقراطية توفر عوامل الأمان والثقة والمعرفة، وتتيح المراقبة والمحاسبة على الأخطاء، بينما الاستبداد يحجب المعلومة وينشر الخوف ويضعف من حجم الثقة فينتشر الفساد وتظهر الحكومة بصورة (البلطجي) الذي يُجبر الناس على دفع الإتاوة، هنا ينهار الرمز ويُقلّد الناس حكوماتهم فتكثر جرائم السرقة والقتل، وتنتشر حالات التفسخ الاجتماعي كقضايا الطلاق والحجر.
كذلك فحجم التضخم والبطالة مؤشر على ضعف الاقتصاد، كلما كان الرقم كبيرا نستنتج أن الدولة لا تعمل اقتصاديا بشكل صحيح، وأن هذا الخلل إن كان اقتصاديا لكن له عوامل أخرى إدارية واجتماعية..وربما ثقافية لموقف بعض الفئات عنصريا من فئات أخرى، كموقف السلفيين مثلا من تشغيل المرأة، أو طائفيا بحصر الوظائف على ديانات بعينها
أما الدخل الشهري للمواطن فهو العلامة الفارقة على عمل كل تلك القطاعات بشكل سليم، وإذا استمر لسنوات طويلة مع انخفاض حجم الدين أو تناسبه مع الناتج المحلي وقتها نقول أن اقتصاد الدولة من أقوى ما يكون، خصوصا لو تم تحصينه بصناديق سيادية وأصول دائمة كالذهب والفضة، أو باحتياطي نقدي لا يشمل ودائع وتحويلات الناس، فمصر مثلا زاد احتياطها النقدي بسبب القروض والودائع والتحويلات بعد تحرير سعر صرف الجنيه، لكن كل هذه ليست أموال الدولة وهي تمثل (رقم وهمي) في بند الاقتصاد..إلا إذا أضافت له الدولة من القطاعات الأخرى.
ومصر بالذات تحتاج لتشغيل وتطوير القطاع الثاني والرابع كمقدمة لإحداث طفرة اقتصادية، لكن الثابت أن هذين القطاعين متخلفين جدا فالصناعة والتكنولوجيا من أسوأ ما يكون، وأتذكر كيف أن مشروع مبارك كول الذي نفذه مبارك في التسعينات كان يهدف لنقل مصر صناعيا على النمط الألماني، لكن تبين بعد ذلك أن طبيعة المشروع في مصر مختلفة عن ما تم تصوره، والسبب في افتقار الإدارة للوعي الثقافي والتكنولوجي والفلسفي بشكل عام، فالذي أنتجته ألمانيا قبل الصناعة هو العقل والفلسفة الذي مكنهم من تصور نظام صناعي واقتصادي سليم.
أخيرا ليست من المهم البحث عن نموذج اقتصادي ناجح لتطبيقه، فالنُظُم الاقتصادية تختلف تبعا للبيئة والثقافة والإمكانيات، والدول العربية تخلفت صناعيا وتقنيا لسطوة رجال الدين والسياسة، أما المجتمع الحقيقي فلم يمثل نفسه بعد، وأذكر أن نموذج أمريكا الاقتصادي الذي يتخيله بعض الناس قد لا يناسب مصر – مثلا – فحتى الفكرة التي يتصورها المصريون عن أمريكا أنها رمز للسوق الحرة والاقتصاد الحر..هي فكرة ناقصة بحاجة لتصحيح وإعادة نظر..
أمريكا بإنشائها البنك الفيدرالي federal reserve bank وتثبيت سعر الفائدة تخالف فكرة السوق الحر الداعي –ليبراليا – لعدم تدخل الدولة في الاقتصاد، وهذا التدخل هو يعتبر تحول اقتصادي مبكر لنظام الخدمات أصلا ، أي أن أمريكا الآن صناعية خدمية..ربما تتحول مستقبلا لنظام الخدمات بعد توالي الاستغناء عن الأيدي العاملة ، وهذا لو تم إدراكه بشكل جيد من قبَل جهابذة الاقتصاديين العرب لعلموا أن لكل دولة ظروفها الخاصة ليست بالضرورة أن تطبق نظام ناجح فينجح عندك، لأن عوامل النجاح تكتسبها ذاتيا من ثقافتك وظروفك وحُسن تقديرك للأمور..ومن ثم توظيف كل ذلك في البناء السليم.