فلسفة الخوف و الجوع
لمن ينكر الحياة الأبدية فإن فلسفة الخوف و الجوع هي من أبسط الدلائل على حقيقتها , فهي حاضرةٌ في ذهن الجميع , يعايشها الجميع يوماً بيوم و في كل لحظة , و هي الهاجس الذي لا يفارقنا للحظه , يرافقنا منذ اليوم الأول فنرى الطفل يبكي حين يجوع و يبكي لحظة دخوله لعالمه الجديد و كأنه كان يظن في رحم أمه بأنه خالداً فتبدل شعوره الآمن خوفاً .
فلسفة الخوف و الجوع لهي الدليل على صدق و حقيقة الحياة الأبدية , فكيف بنا لا نتفكر بها و هيترافقنا فيأصل الوجود و أصل الخلود ,
فهذا الشعور الذي نحياه ساعين خلفه لهو دليلٌ قاطعٌ على الخلود , و لولاه لما كان هناك معنى للحياة الآخرة الأبدية ,
منذ أن خلق الله جل وعلا آدم و أسكنه في الجنة كان الخوف و الجوع و البقاء أبرز هواجس هذا المخلوق , لو أدرك آدم عليه السلام فلسفة هذا الهاجس و تتخلص من تلك الشكوك لأيقن بأن خلقه كان من أجل الخلود ,
أراد الله جل وعلا و هو العليم الخبير بما خلق أن يطمئن آدم عليه السلام كي لا ينساق خلف هواجسه المتاحة له بسبب امتلاكه للعقل المفكر فقال له جل وعلا ( إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ ) 118 طه , تلك الهواجس بالفناء الكلي لهذا المخلوق كان دافعها الخوف و حب البقاء , فكانت فلسفة الخوف و الجوع دليلاً قاطعاً على خلوده , فلو أنه لم ينساق خلف هواجسه لاستمر بوجوده في الجنة خالداً فيها و لم يمسه الفناء اللحظي الذي سيصيبه في الدنيا ,
لم يتيقن آدم عليه السلام بأنه قد خلق ليبقى خالداً فكان هاجس الفناء يراوده و يطارده , فمن هنا تبين لإبليس نقطة ضعفه , فكانت هي النافذة التي ينفذ من خلالها للسيطرة عليه و دفعه نحو العصيان , هذا الهاجس هو هاجسٌ شيطاني ( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ ) 120 طه ,
و يستمر هذا الهاجس الشيطاني يراودنا جميعاً , نخافه و نحاول الهرب منه فنرتكب ما نرتكب من أجل تأمينه و الحفاظ عليه , على الرغم من حتمية الخلود لنا جميعاً , فكان الموت اللحظي المتمثل بالنوم راحةً لنا نهرب من خلاله من هذا الهاجس دون جدوى ,
و كان الفناء اللحظي بالموت لا يشير للفناء التام أو الخلاص , بل يؤكد على حقيقة الحياة الأبدية و الخلود لكل نفس ,
فالموت الحقيقي ما هو إلا مرحلة انتقالٍ كما الولادة سنخافه و نبكي منه ظناً بأنها النهاية أو الفناء , و ظناً منا بأننا كنا قبله خالدين كظن الطفل في رحم أمه .
مخاوف آدم عليه السلام في الجنة لم تكن مخاوف حقيقية , إنما هي هواجسٌ تحكم بها الشيطان و أودت به للعصيان , فتحولت تلك الهواجس لمخاوف حقيقيةٌ على الأرض يتصارع من أجلها الجميع ,
فجاء الموت تتويجاً لهذا الخوف , و واضعاً له الحد بالفناء الجزئي ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) 8 الجمعة ,
هاجس الخوف و الجوع ذو حدين , فهو الدافع للعصيان و مفتاح الشيطان , و هو أيضاً عقاباً إلهياً لكل من عصى , فقال جل وعلا ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ *الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ) 3-4 قريش , و قال سبحانه (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) 112 النحل ,
كما أنه يعد من أساسيات الاختبار و البلاء الدنيوي (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) 155 البقرة ,
فالإنسان قد خلق للخلود و الأبدية , فلا تواجد للفناء الكلي بل هو فناءٌ جزئي ,
مع العلم بأن الخلود و الأبدية و الأزلية هي أمرٌ غيبي لا ندركه و لا ندرك أبعاده , بل يشار بكل تلك المفردات للفترة الزمنية التي لا ندركها نحن , بل هي من اختصاص الخالق جل وعلا فهو خالق هذا الزمن و المهيمن عليه و المتصرف به و هو راجعٌ لمشيئته جل وعلا , فالخلود هو مدةٌ زمنيةٌ لا نعلم كمّها خاضعةٌ لأمر الله جل وعلا , و الخلود هو زمنٌ يعتمد على مشيئة خالقه قد ينتهي بالفناء الكلي للإنسان و قد لا ينتهي ,
أما الموت و الحياة فيعبران عن سقفٍ زمنيٍ محدود , عكس الخلود و الأبدية فسقفها الزمني مفتوح بمشيئة خالق الزمن سبحانه و تعالى .
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا
سبحانك إني كنت من الظالمين