الميزان
الميزان

أسامة قفيشة في الخميس ٠٥ - أكتوبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

الميزان

الميزان هو رمز العدل و العدالة , و الميزان يعني الاستقامة , و هو الحق أيضاً ,

و ميزان الشيء هو مقداره المكافئ , و معياره قدراً , و الموازين هي المقادير الحاكمة و المعمول بها ,

لم يترك الخالق جل وعلا البشر دون التواصل معهم , لتبليغهم بما هو مطلوب منهم , و لضبط حياتهم بوضع معاير و مقاييس لسلوكهم و تصرفاتهم الاختيارية دون إكراهٍ أو إلزام ,

تلك المعايير و الموازين الحاكمة على سلوكهم و التي يدعوهم الخالق جل وعلا كي يعملوا بها من أوامر و نواهي , و هي ما أرسله الله جل وعلا في كتبه السماوية جمعاء على رسله كي يبلغوها للناس .

هذه المعايير البينّة هي أساسية ثابتة في كل الكتب السماوية , غير قابلة للتغير أساسها التوحيد و العبادة و العمل الصالح , و لأنها ثابتة لا تتغير كانت هي الميزان الحاكم الذي يحكم به على مدى التزام الفرد بتلك الأوامر و النواهي من أجل العدل و الاستقامة و الحق فقال جل وعلا ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) 25 الحديد .

و القرآن و بما فيه من موازين تبين الحق و الباطل , فهو كسائر الرسالات السابقة ( قبل تحريفها ) لا اختلاف بينهم فقال جل وعلا (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ) 17 الشورى ,

فكل عمل يعمله الفرد يقاس بناءً على تلك المعايير , و ثمن ما قام به يدفعه خلوداً بالجنة أو خلوداً بالنار .

فالله جل و علا خلق كل شيء بالعدل و الحق و من أجلهما , فوضع موازين هذا العدل و هذا الحق منذ أن خلق الكون فقال سبحانه ( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ) 7 الرحمن ,

و أمرنا جل وعلا بأن لا نزيد عليه بشيء (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ) 8 الرحمن , أي لا نتخذ غيره أو معه حُكماً و حَكما , و أن لا نعبث بتلك الموازين باستبدالها أو بتحريفها ,

و أمرنا بالعمل بتلك الموازين من أجل إقامة العدل المطلوب , فكما أمرنا بعدم الزيادة كذلك أمرنا بعدم النقصان (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ) 9 الرحمن , أي لا ننتقي ما يستهوينا و يوافقنا و نترك ما لا تهوى أنفسنا , وعدم التلاعب بتلك الموازين .

نلاحظ في سورة الشورى و سورة الرحمن ذكر ميزان الله جل وعلا لعباده و للكون , و هو ما وردنا في كتبه التي أوحاها لرسله عليهم جميعا منا السلام ,

أما بما يعرف بين الناس بالميزان أو القسطاس و المتداول به بينهم , و يستخدمونه في البيع و الشراء فقد ورد ذكره أيضاً في القرآن الكريم , و لكن كان لابد من ورود الكيل أو المكيال معه لتميزه عن ميزان الله جل وعلا ,

و هو في قوله جل وعلا (وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) 85 الأعراف ,

و قوله ( وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ  ) 84 هود ,

و قوله ( وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) 85 هود ,

و كذلك في قوله (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) 152 الأنعام .

يعتقد البعض و يتصور بأنه في يوم القيامة و ساعة الحساب إبان الحياة الآخرة و الأبدية سيكون هناك ميزانٌ ذو كفتيين , يوضع العمل الصالح في كفة , و العمل الطالح في الكفة الأخرى , و الكفة الراجحة تحدد مصير صاحبها ,

هذا التصور يخالف كلام الله جل وعلا حيث يخبرنا سبحانه و تعالى بأن كل إنسان في لحظة خروج النفس لحظة الموت سيتم إبلاغه فوراً بمصيره الأبدي و سيعلم إلى أين هو ذاهب ,

و هذا أيضا يتنافى مع مفهوم التوبة و تكفير السيئات و مسحها , كما يتنافى أيضا مع إحباط ألأفعال الصالحة و العبادات و جعلها هباءً و سراباً إن كانت لغير وجه الله جل وعلا ,

فمن هنا نستنتج بأن البشر في لحظة خروج النفس يتم إخبارها بمصيرها , فتعلم كل نفسٍ إن كانت قد فازت في اختبارها الدنيوي أو خسرت به , و تلك النتيجة التي ستحصل عليها هي نتيجة ثابتة و ملزمة لا تتغير و لا تتبدل , أو بمعنى آخر حين تستوفي كل نفس أجلها تكون قد أنهت فترة اختبارها و تأخذ فوراً نتيجة هذا الاختبار و يغلق كتاب أعمالها و تستقر تلك النفس في برزخها تنتظر قيام الساعة و البعث ,

إن نتيجة هذا الاختبار تأتي منسجمةً بما أسلفت به تلك النفس , فمن توافقت أعماله مع تلك الموازين بالإيمان و العمل الصالح فقد فاز ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) 32 النحل ,

و من خلط عملاً صالحا و آخر غير صالح و هو مؤمن ( وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ) 90-91 الواقعة ,

و أما من عمل صالحاً و هو غير مؤمن (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) 28-29 النحل , ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) 105 الكهف ,

و من كان يعمل السوء و هو غير مؤمن أيضاً (وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ) 92-94 الواقعة .

تصدر النتيجة بشكل فوري بناءاً على الموازين الإلهية و مدى الالتزام و العمل بها وفقاً للتعاليم و الموازين الواردة في كتاب الله جل وعلا .

هذه النتيجة النهائية لا تنفي أبداً يوم الحساب و العتاب و القضاء بين الناس يوم الحساب و الحشر بعد البعث , ففي هذا اليوم ستقف كل نفسٍ و معها كتاب أعمالها و تتم مراجعته لحظةً بلحظة كي تعلم كل نفسٍ كيف صدرت تلك النتيجة , و لتعلم مدى العدل الإلهي في إصدار تلك النتيجة سواءً بتكفير سيئاتها أو بإحباط حسناتها , ( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) 111 النحل .

كما نلاحظ في قوله سبحانه و تعالى ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) 19 ق , فالموت حقٌ معلوم للجميع , و الكل يعلم بأنه حقٌ لا مفر منه , و الكل على يقين بأن الجميع سيموتون فلا أحد ينكر هذا الموت سواءً أكان مؤمناً أو كان كافراً , و لكن الحق الذي سيأتي به الموت هو صدور نتيجة أعمالك و معرفتك بها , فخلال لحظة و سكرة الموت تأتيك نتيجة أعمالك و تعلمك بنتيجتك الحقيقية بمصيرك الحقيقي خلوداً بالجنة أو خلوداً بالنار ,

هذه النتيجة هي التي تحدد مصيرك فلا يوجد بها أي حياديه أو تفادي , و لذا كانت تلك النتيجة أيضا هي اليقين , و بها تتيقن من مصيرك الأبدي ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) 99 الحجر , فلا أحد يتيقن من مصيره و لا يضمن نتيجته , و لكنه في نفس الوقت يكن على يقين بأنه سيلاقيه الموت عاجلاً أم آجلاً , لذا توجب علية عبادة ربه و الحرص على ذلك إلى أن تأتيه تلك النتيجة النهائية في لحظة و سكرة الموت .

 

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا

سبحانك إني كنت من الظالمين 

اجمالي القراءات 7878