توقيت شهر رمضان : المقال الأول : تمهيد :
سأل د . عثمان محمد على : ( ..هناك مجموعة بدا صوتها يرتفع ،وتُنادى بصيام رمضان فى آواخر شهر سبتمبر وتكملته فى إكتوبر وتحديدا بداية من 21- سبتمبر ،على اساس ان هذا هو توقيت شهر رمضان الصحيح من وجهة نظرهم .والسؤال هنا .هل يُعتبر صيامهم صحيحا ومقبولا وبديلا عن صيام شهر رمضان المتغير فى توقيته كل عام والمتعارف عليه عند المسلمين جميعا أم لا ،وهل هو نوع من الخروج على شرع الله ومواقيته فى صيام رمضان ؟؟ ).
أولا : نبدأ بالسؤال الأهم : هل يعتبر صيامهم صحيحا ؟ ونقول :
1 ـ نفترض أن شخصا ظل ثلاثين عاما محافظا على الصلاة ، ثم إكتشف أنه كان يصلى العصر قبل موعده ، أو أنه كان يصلى فى غير أتّجاه القبلة ؟ هل صلاته باطلة ؟ أقول : لا . لأن المقصد التشريعى من الصلاة وكل العبادات هو التقوى ( البقرة 21 ) ، والمطلوب هو إقامة الصلاة بالتقوى فيما بين الصلوات الخمس ، والخشوع فى تأدية الصلوات . ومن التقوى أن تعبد الله جل وعلا كما أمر ، وليس بما تهوى . لو وقعت فى خطأ فالله جل وعلا يغفر لمن يخطىء دون تعمد ، قال لنا ربنا جل وعلا : ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ) (5) الاحزاب)
2 ـ فى تطبيق هذا على الصلاة : هناك من يزعم أن الصلوات ثلاث فقط ، ويجعل هذا محور دينه رافضا بكل قوة أن تكون الصلوات خمسا . هنا تعمد فى تغيير شرع الله جل وعلا . ولو فرضنا أن هناك إختلافا قديما فى موضوع الصلاة ، فلماذا لم يسأل أحدهم النبى عن عدد الصلوات ومواقيتها ؟ وقد كانوا يسألون النبى فى أشياء كثيرة ومتكررة ، وينتظر النبى حتى ينزل الوحى بالاجابة ، وهذا ما عرضنا له بالتفصيل فى كتاب ( القرآن وكفى .. ) . المضحك أن هؤلاء صمموا على أن الصلوات ثلاث فقط ، ولو كان عدد الصلوات قضية خلافية ، فيكون من الأسلم لهم أن يزيدوا عدد الصلوات فوق الخمس ، أن يجعلوها ـ مثلا ـ عشرا . ولكنهم جعلوها ثلاثا فقط ، وبعضهم أنكر الصلوات الخمس، بل وأنكر الفرائض مكتفيا بزعمه قراءة القرآن . يوم القيامة سيكونون فى مشكلة كبرى . هنا نتذكر قوله جل وعلا :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) فصلت).
3 ـ نفس الحال مع صيام رمضان . لنفترض أن شخصا ظل يصوم شهر رمضان ثلاثين عاما ، ثم تبين له أنه كان يصوم الشهر الخطأ . طالما كان يلتزم التقوى فى صيامه فالله جل وعلا يقبل صيامه ، وليس عليه مؤاخذة فى خطأ لم يتعمده . ولنفترض أن الصيام فى شهر رمضان هو قضية خلافية قديمة ، فمن الأسلم له أن يسير على الرأى الغالب لأنه المتواتر ، ولأنه المتفق مع القرآن الكريم ، فالله جل وعلا ذكر شهر رمضان بالتحديد فى الأمر بالصيام فيه ، وأنه الشهر الذى نزل فيه القرآن ، وأنه الشهر الذى فيه ليلة القدر . وهو شهر ينتمى الى التقويم العربى القمرى ـ ولا خلاف فى ذلك . الخروج عن هذا وصيام شهر فى التقويم الميلادى هو تعمد فى إختراع تشريع مخالف لتشريع الرحمن . لهم أن يصوموا تطوعا فى أى شهر بأى تقويم عربى قمرى أو ميلادى أو قبطى أو بابلى ..الخ . ولكن العبادات فى الاسلام تعتمد على التقويم القمرى ..وفقط .
4 ـ هذا يدخل بنا على موضوع التواتر . وقد عرضنا له فى مقال مستقل . التواتر معمول به طالما لا يناقض القرآن الكريم . تشريع القرآن الكريم نزل فى إصلاح ملة ابراهيم التى افسدها العرب وأهل الكتاب . كان هناك تحريف . والتحريف لا يعنى شطب الدين كله أو تبديله بالكامل ، ولكن يعنى تغييرا جزئيا ، وهذا ما حدث . هناك جزء ظل متواترا لا يخالف الأصل فى ملة ابراهيم ، وهناك تحريف حدث ، وإنصبّ أساسا على إخلاص الدين لرب العزة جل وعلا بتقديس البشر والحجر وإعتبار العبادات هدفا وليس وسيلة للتقوى ، أى تضييع الصلاة بإتباع الشهوات ( مريم 58 : 60 ). نزل القرآن الكريم يأمر النبى والعرب وأهل الكتاب بإتباع ملة ابراهيم حنيفا أى بإخلاص العبادة لرب العزة جل وعلا ، كما نزل بتشريعات جديدة فى الصلاة المتواترة مثل الطهارة وصلاة الخوف ، ومثل رُخصة الافطار فى رمضان ، وتيسرات فى الحج . ودعاهم رب العزة الى الاحتكام الى القرآن الكريم فى كل المتواتر الذى وجدوا عليه آباءهم ، فرفضوا تمسكا بهذا التحريف . المفهوم هنا أن المتواتر المتفق مع القرآن الكريم والذى لا يتناقض معه هو جزء من شرع الله جل وعلا . والمؤكد أن التشريع بشىء يخالف القرآن الكريم ينطبق عليه قوله جل وعلا : (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) الشورى )
5 ـ جهل شيوخ الكهنوت الأرضى للمحمديين كان له تأثير قاتل على بعض من إختار القرآن وحده مصدرا للتشريع . إلشيوخ أجهل البشر بالقرآن الكريم ، وشعر بعض المنتسبين للقرآنيين أنهم أكثر علما بالقرآن من أولئك الشيوخ الرعاع الجاهلين . وهؤلاء المنتسبون للقرآنيين هم ( هُواة ) ليست لديهم خلفية علمية بحثية تؤهلهم للتدبر القرآنى ، بل لديهم الرغبة فى إثبات الذات ،وفى التفوق على رعاع الشيوخ ، من هنا جنحوا الى الهوى ، يبطلون شرائع الله القرآنية كنوع من التجديد . وقعوا بهذا ضحية للشيطان الذى لا ييأس من إضلال بنى آدم ، وهو القائل عنهم (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) الاعراف ) .
6 ـ فى النهاية .. كل منا سيأتى يوم القيامة مسئولا عن عمله وإيمانه . ومن يؤمن بلقاء الله جل وعلا وباليوم الآخر عليه أن يجهّز من الآن حجّته .
ثانيا : التقاويم فى العالم حين نزل القرآن الكريم
1 ـ فى القرن السابع الميلادى وما بعده عرفت البشرية أنواعا مخنلفة من التقاويم ، منها التقويم القمرى والشمسى والمشترك بينهما ، والتقويم بالنجوم ، وتعرض بعضها للتعديل والتقويم .
2 ـ فى أقصى العالم عرفت حضارة المايا فى أمريكا التقويم ، وهذا قبل خمسة قرون من ميلاد المسيح ، وكان لهم تقويمان ، أحدهما علمانى والآخر دينى ، معتمدين على حساب النجوم . ولا يزال تقويمهم مبهرا حتى الآن .
3 ـ حول الجزيرة العربية وقبل نزول القرآن الكريم وبعده :
3 / 1 : فى وادى النيل كان للمصريين القدماء تقويمهم ضمن ملامح حضارتهم البالغة فى القدم . وهو تقويم شمسى إعتمدوا عليه فى الزراعة والحصاد وتنوع المناخ وفيضان النيل . وجرى تعديله بما يسمى بالتقويم القبطى ، إذ إعتنق المصريون المسيحية رافضين عبادة المبراطور الرومانى فإضطهدهم الامبراطور دقيلديانوس فاتخذ المصريون من بداية حكم دقيلديانوس بداية التقويم القبطى عام 284 م . وأسموه تاريخ الشهداء . لم يكن تقويما جديدا ، كان فقط التزاما بالتاريخ الفرعون المتوارث ولكن مع بداية جديدة له .
3 / 2 : فى الرافدين ظهر التقويم البابلى الذى كان يجمع بين التقويمين القمرى والشمسى ، وتبدأ فيه السنة بفصل الربيع . واستعمله الآشوريون والسوريان والاسرائيليون مع بعض تعديلات . ولا يزال أهل الشام يستعملون أسماء الأشهر البابلية ( آذار ـ تموز ، كانون ، أيلول .. الخ )
3 / 3 : التقويم الميلادى الشمسى ، وهو السائد الآن ، والذى تم تعديله ليبدأ من عام ميلاد المسيح ، وأنتشر وساد مع الامبراطوريات المسيحية الرومانية والرومية البيزنطية والأوربية .
3 / 4 : التقويم القمرى الذى أخذ به العرب منذ إعتناقهم ملة ابراهيم ، وقد أصبح التقويم الدينى لهم ، ولا يزال ، وكالعادة ، تم تعديله بأن يبدأ بالعام الذى هاجر فيه النبى محمد عليه السلام الى المدينة . فعل هذا عمر بن الخطاب ، حين أصبحت للعرب إمبراطورية بالفتوحات ، وتحتاج الى تدوين ، عمر بن الخطاب هو الذى أنشأ الدواين وأعتمد تاريخا موحدا بالهجرة وفق التقويم القمرى . والتدوين والدواوين تعنى تسجيل الأفراد ( من القبائل العربية ) وفرض (عطاء ) أو مرتب سنوى أو شهرى لهم ( وهذا يستدعى تأريخا ـ أى تقويما معتمدا موحدا ) ، التدوين والدواوين كانت تعنى أيضا تعدادا للسكان لفرض الجزية عليهم ، وبهذا تم تعداد لمصر ـ مثلا ـ وجرى فرض الجزية على الرجال القادرين على الكسب دون النساء والأطفال ورجال الدين ، كما جرى حصر الأراضى المزروعة وفرض الخراج السنوى عليها . وبالتالى أصبح التقويم العربى القمرى ليس فقط للعبادات بل أيضا لتسجيل إيرادات ومصروفات الامبراطورية منذ عصر الخلفاء ( الراشدين ) .
ثالثا : التقويم العربى القمرى فى حضارة العرب والمسلمين
1 ـ إنعكست أهمية التقويم القمرى فى الدنيا وفى الدين فى الحضارة العربية ( الاسلامية ) خصوصا فى تقدم علم الفلك ، وفى التسجيل التاريخى ( علم التاريخ ) الذى سبق به العرب بقية الأمم ، ونعنى به التاريخ الحولى ، الذى يعتمد على التأريخ للأحداث حسب العام أو الحول ، يغطّى أخبار العام بداية بأول شهر وبالأيام فيه التى تحدث فيه أحداث تاريخية ، وهكذا على مدار العام ، وما قبله وما بعده ، وقد شرحنا هذا فى باب ( دراسات تاريخية ) فى موقعنا أهل القرآن عن منهج الطبرى ، وفى كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة فى عصر قايتباى ) . وسنعرض لهذا فيما بعد بلتفصيل .
2 ـ وكما سبق العرب العالم فى علم التاريخ فقد أصبحوا أيضا أساتذة العالم فى العصور الوسطى فى علم الفلك .
3 : قبل أن يسيطر الفقهاء الحنابلة الجاهلون الذين صاغوا جهلهم فيما يعرف بالفقه والحديث والسُّنّة تقدمت الحضارة العربية فى الطب والهندسة والكيمياء والجغرافيا والرياضيات والفلك .
4 ـ ينتمى التقويم الى علم الفلك .
فى مجال الفلك بدأ العلماء العرب والمسلمون بدراسة آخر ما توصل اليه الهنود والفرس واليونان ، ومزجوا بينها ،مع أجتهاد مقبول سادوا به العالم فى عصرهم ، فأخذت عنهم أوربا حين بدأت نهضتها ، وإستفاد المكتشفون الأوربيون . أصبحت دمشق وبغداد أهم مركزين فى العالم لعلوم الفلك ، وفيهما أنشأ المأمون مرصدين لقياس الأجرام السماوية . ومعروف أن المأمون كان مثقفا وكان خصما للفقهاء واصحاب الحديث .
5 ــ وفى مجال الفلك برز أعلام عرب ومسلمون على مستوى العالم ، منهم :
5 / 1 : الخوارزمى : مخترع علم الجبر ، ومنسوب اليه الخوازميات فى علم الفلك ، وهو صاحب كتاب ( زيج الهند ) وفيه جداول حركة الشمس والقمر والكواكب الخمسة المعروفة في ذلك الوقت.
5 / 2 : أحمد بن عبد الله المروزى ( نسبة الى مدينة مرو ) : له كتاب ( الأبعاد والأجرام ) ، وفيه قدّر قطر القمر ب 3037 كيلومتر ، وهو يقترب من التقدير الحالى . كان هذا بين عامى 825 : 835 ميلادية .
5 / 3 : أحمد بن كثير الفرغانى ( نسبة الى فرغان ) : ترجمت أوربا كتبه الى اللاتينية ، وفيها فى عام 850 ميلادية قدّر إلتواء مسيرة الشمس ومحيط الأرض .
5 / 4 : محمد بن جابر البتانى ( ت 853 ) : كتب جداول لمدارات الشمس والقمر وحساب أول ظهور للهلال وقياس طول السنة الشمسية والسنة الفلكية وتوقع الخسوف .
5 / 5 : وفى القرن العاشر الميلادى كتب عبد الرحمن بن عمر الصوفى ( صور الكواكب الثمانية والأربعين ) وفيه حدّد رصدا للنجوم ، فىمواقعها ودرجة سطوعها وألونها ورسومها في كوكباتها، وهو أول من رصد مجرة المرأة المسلسلة ، وهو أيضا أول من رصد ما يعرف الآن باسم سحابة ماجلان الكبرى .
5 / 6 : ابن يونس : رصد أكثر من عشرة آلاف مدخل لموقع الشمس مستعملا اسطرلابا كبيرا ،وبقيت ملاحظاته عن الخسوف مستعملة لقرون.
5 / 7 : وحسب الخجندى بدقة الميل المحورى.
5 / 8 ـ على بن رضوان الفلكى المصرى رصد عام 1006 أكثر النجوم سطوعا ، وترك وصفا مفصلا للنجم المؤقت حيث قال أن الجسم أكبر بحوالي ضعفين إلى ثلاثة أضعاف من كوكب الزهرة ، وأن له ربع سطوع القمر ، وأنه منخفض في الأفق الجنوبي .
5 / 9 : ولم يأخذ البيرونى بالنظرية السائدة فى أن الأرض هى محور الكون ، وقال أن الأرض تتحرك ،وفي عام 1031 أنهى البيروني موسوعته الفلكية الموسعة ( القانون المسعودى ) أورد فيه نتائجه وجداوله الفلكية. واكتشف أن المسافة بين الأرض والشمس أكبر من تقديرات بطليموس.
أخيرا :
1 ـ هذه بعض إشارات منقوله عن تقدم علم الفلك عند المسلمين ، وقد غطّى عليها السنيون بحديث كاذب عن رمضان يقول ( صوموا لرؤيته ) ، مع أن الواضح أن صيام رمضان كان بالحساب الفلكى الذى كان معروفا وقت نزول القرآن . وقد عرضنا لهذا الحديث الكاذب فى مقال منشور هنا .
2 ـ الذى يهمنا أن التقويم القمرى كان معروفا ومألوفا ومعمولا به قبل وأثناء وبعد نزول القرآن الكريم ، ولهذا جاء الحديث فى القرآن الكريم عن شهر رمضان ، ونزل فى محيط ثقافى ، وفى بيئة كانت تصوم شهر رمضان قبل نزول القرآن الكريم بإعتبار الصوم فى رمضان أحد معالم ملة ابراهيم كالصلاة والحج . .
3 ـ وللحديث بقية .