لم يكن يتوقع أكبر متشائم أن تصل مصر الآن بعد 4 سنوات من ثورة يونيو لحالة أقرب إلى الثورة الدينية منها إلى الثورة المدنية، وأن تعلو سلطة المشايخ في دولة مفترض أنها تقاوم تلك السلطة ، والسبب أن يونيو كانت إفراز لمقاومة شعبية للإسلام السياسي ونفوذ المشايخ، أي أن المعنى من وراء يونيو كان عظيما ويليق بأعظم الثورات التحررية والإصلاحية في التاريخ..
أما الآن ونحن في شهر يوليو 2017 ومع قرار جمهوري أزهري بإنشاء أكشاك للفتوى في محطات المترو.. نرى أن الدولة انحدرت عن مفهومها التحرري إلى دولة دينية يقوم فيها النظام باستخدام الأزهر كمكتب إرشاد أو دار خاصة للإفتاء، ولما لا وقد أفصح السيسي منذ البداية عن مفهومه لتجديد الدين وهو (تمكين الأزهر) وعقد تحالف رئاسي أزهري ضد كل من تسول له نفسه الزعم بأن مصر فيها رأي آخر، صحيح أن الأزهر ليس جماعة أيدلوجية ولا حزب يطالب بالسلطة لكن تمكينه - وهو مؤسسة دينية – ضد مبادئ التنوير والحرية الفكرية قولا واحدا، بل ربما يفتح ذلك الباب لصراعات كهنوتية وطائفية لو تجرأت إحدى الأقليات الدينية بإعلان مطالبها..
إذ سيتطلب من الآن حصول الرأي الآخر على صك غفران من الأزهر، ويتساوى ذلك الحزب السياسي بالجماعة الدعوية، الجميع سيقف طوابير خارج المشيخة أملا في الرضا الكريم.
البعض لا ينتبه لمضمون القرار ويحصره فقط داخل محطات المترو، هذا عمل مرحلي سيتطور مستقبلا إلى أكشاك للفتوى ضمن الحدائق العامة والشواطئ وربما على أسوار الفنادق والملاهي، في صورة أقرب لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية، ولو تطلب الأمر هداية الناس في الشوارع سيكون هناك كشك فتوى داخل كل محطة قطار أو باص، وهذا الأسلوب يعود بنا إلى بدايات الشيخ حسن البنا واعتقاده أن شيوع دعوة الإخوان يلزمه الوصول لأقصى الأماكن التي لا يتوقع المواطن أن يجده فيها ، والأزهر تعامل بنفس الطريقة..إذ رأى نفسه هاديا ووصيا على أخلاق وعقول الناس فقرر أن يصدمهم بأكشاك للفتوى يرونها في الذهاب وفي الإياب..
لقد نسف هذا القرار أي فرصة للتنوع الفكري أو الانفتاح على العالم، بل أسس لدولة مرشد حقيقية يكون فيها الرأي الرئاسي هو رأي ديني بالضرورة، إذ ستعمل الأكشاك جاهدة على تبرير أفعال السلطة وتكفير كل معارض وتجريم شتى أعمال الرأي الآخر بمن فيها منظمات حقوق الإنسان، بل وإشاعة قيم الدونية والعنصرية وهوس المؤامرة برفع شعارات قومية وأيدلوجية دينية مطابقة للتي كان يرفعها النظامين الناصري والإخواني معا..
يأتي ذلك بالتوازي مع مشروع للكراهية قدمه الأزهر ويناقش حاليا في أروقة مجلس عبدالعال (الشعب سابقا) ويأمر فيه الدولة بسجن كل أي مخالف للأزهر وقمع أي اجتهاد ديني أو فكري بدعوى أنه يحض على الكراهية، فمعارضة البخاري ونقد التراث ومناقشة التاريخ يلزمه اتهام فوري بإشاعة الكراهية..في تكرار لعنجهية الصهاينة الذين اتهموا كل معارض لجرائمهم في فلسطين بأنها معاداة للسامية، وعنجهية آل سعود الذين اتهموا كل معارض لجرائمهم في اليمن بالعمالة لإيران..وكأن جرثومة الصهيونية انتقلت آليا إلى بلاد الحرمين والأزهر في تصديق لمشروع التحالف السني الإسرائيلي التي تعمل أمريكا جاهدة على إنشاءه..
إن التاريخ يحذر من هذا القرار ويثبت أن أي محاولة لاحتكار المعارف هي كفر بالتطور والتغيير ، إذ أن التنوع الفكري هو الضامن الوحيد لانتقال سياسي وثقافي حقيقي، ومقاومة الفكر الإرهابي لن تكون سوى بالحرية وليست بأكشاك فتوى يعلم الشعب جيدا ماذا ستقول مقدما، ومن هو الذي يجلس فيها ويعمل لحساب من..
ليس من المجدي استعادة التاريخ بأدرانه وسلبياته، فمثل هذه القرارات تليق بالعصور الوسطى ودول بني أمية وبني العباس وآل عثمان، وفرصة الانتصار فيها الآن ضعيفة ليست فقط لتفاهة وسذاجة الفكرة بل لأن العصر الذي نعيشه لا يؤمن بهذا الأسلوب في المعرفة، فلا شباب يقرأ مواقع التواصل ولا الكتب المترجمة سيقتنع برأي شيخ في كشك، ولا إخواني أو سلفي لديه مرجعيته المستقلة يثق في تلك الأكشاك لعلمه جيدا بمضمونها، ولا مثقف أو لا ديني يترك علومه الحقيقية ويبحث عن علوم مزيفة في الكشك، ولا مسيحي أو شيعي يترك كنائسه وحسينياته ويذهب للشيخ الذي يعلم سلفا ماذا سيقول وما موقفه النهائي منهم..
الفكرة فاشلة وخطيرة في نفس الوقت، فاشلة لأن لا منتوج عملي لها سوى زيادة أعباء مالية على كاهل الشعب، وخطيرة لأنها تكشف ماهية المتحكم والمتنفذ في الدولة، إنه يفكر مثل الإخوان بالضبط، يريد السيطرة على الجماهير في الشارع بالدين، وبدلا من إشاعة الحريات والرأي الآخر سيشيع التكفير والرأي الواحد.
وأخيرا: أتحدى أي ليبرالي أو مثقف ما زال يؤيد هذا النظام الأرعن أن ينطق بكلمة حق ويعترف لأول مرة أنه خُدِع، وأن كراهيته لخصوم السيسي أفقدته البصر والبصيرة بحيث لم يعد يرى سوى إنجازات وهمية، بينما الدولة تنحدر بشدة لمصاف الدول الدينية والمعزولة التي تشيع فيها الكراهية لأتفه الأسباب، وأن من ظنه يوما سيفرض التنوير فرضا طلع (جاهل) بأبجديات التنوير أصلا، وأولها تحجيم دور المشايخ وإعلاء دور المثقفين، وقد قرأت خداعه منذ أن طل علينا مبشرا بتجديد ديني أزهري وهو لا يعلم ماهيته.
مصر مريضة وبحاجة إلى دواء، وفي كل مرة يخدعها من يعطيها الدواء فيعطيها سُمّا زعافا تقعد به طريحة الفراش، وعندما ساءت حالتها أكثر وأوشكت على الموت السريري أجبرها نفس المخادع على الموت بدعوى الراحة الأبدية، وهنا لا يمكن تخطئة المخادع فقط..ولكن مصر أيضا مسئولية أنها وثقت في كل هؤلاء المخادعين رغم تشابههم في الشكل والمضمون.