يخطئ البعض في الخلط بين المماليك البحرية والمماليك البرجية، ويقول أنها مجرد حكومات، وهذا غير صحيح..إنما هي شعوب مختلفة عن بعضها وثقافات مختلفة ، وبفهم كل صنف منهم نجد الإجابة عن سر توسعهم العسكري في البداية، ثم هزيمتهم وانقضاء دولتهم على أيدي الأتراك..
باختصار:
المماليك البحرية: هؤلاء (بدو آسيا الوسطى) اشتراهم صلاح الدين الأيوبي لدعم حروبه ضد المصريين والشوام والأكراد والصليبيين، وهم الذين انتصروا على المغول في عين جالوت، ودامت دولتهم 130 سنة..أكثرهم من قبائل.."الكيبشاك"..Kipchaks وهي بطن من الشعوب التركية المنتشرة في آسيا الوسطى التي هاجرت بعد ذلك للأناضول ونجحوا في تكوين دولتهم باسم الدولة العثمانية بعد ذلك..
كلمة بدو تعني أنهم لم يكونوا متحضرين ومتأثرين بقسوة صحراء التركمان والأوزبك والأفغان والكازاخيين، وهذا تفسير لانتصاراتهم العسكرية في البداية واقتناع صلاح الدين الأيوبي بهم عسكريا، فالبدوي شديد البأس في المعارك بامتلاكه طاقة عظيمة من الصبر وحسن استغلال الأرض، وإدراكه لسر هجوم الفجأة المميز لبدو الصحراء أثناء سلبهم ممتلكات الأعداء..
أما المماليك البرجية: هؤلاء كانوا من قبائل القوقاز (الأرمن والآذريين والجورجيين والشيشان والشركس) وهذه شعوب متحضرة تعيش في بيئة خصبة ومراعي، استمرت دولتهم 130 سنة أيضا، ولديهم ولع بالفنون بخلاف المماليك البحرية الذين عاشوا عمليا حياة العرب وفرضوا المذاهب الأربعة المتشددة .
والمطلع على تاريخ الفن المملوكي سيجد أن عصر المماليك البحرية تميز بالمساجد وهي ثقافة منتشرة الآن بفضل شيوع قيم البدو الدينية...وإهمال العلم ، أما المماليك البرجية فتميز عهدهم بالصناعة وترميم الآثار برسوم زخرفية جميلة، حتى أن العثمانيين عندما جاءوا لمصر وجدوا أن مجتمع مصر في عهد المماليك البرجية كان مجتمع صناعي فأخذوا العمال والحرفيين إلى اسطنبول ويقال أن المصريين ساهموا في بناء مصانع تركيا القديمة..
ليس فقط الأتراك من استفادوا من صناعة المماليك البرجية، التتار أيضا استفادوا، والتاريخ ينقل غزو تيمور لنك للشرق الأوسط ونقله لمعظم الحرفيين والصناع الشوام لبلاد ما وراء النهرين..
سر هزيمة المماليك البرجية وعدم تحقيق إنجاز عسكري يضاهي أقرانهم في البحرية هو اهتمامهم بالحياة المدنية والتنمية على حساب قوة الجيش، بينما الأتراك في هذا العهد كانوا في قمة مجدهم العسكري، كذلك فأصول الأتراك بدوية من آسيا الوسطى أي أنهم أشقاء للمماليك البحرية الذين انقلب عليهم البرجيون، وربما وجدت خصومة ثأرية بين المماليك والعثمانيين لهذا السبب.
استنتاج مهم : وهو أن عصر المماليك البرجية تميز أيضا بتصارع الأفكار، ابن تيمية عاش في هذا العصر وكثرت المناظرات والكتب والشروح والردود، ابن حجر العسقلاني وبدر الدين العيني صنفوا أعظم شرحين للبخاري واستدركوا على بعض أحاديثه، صحيح لم ينقدوه نقدا صريحا وأكثروا من تبرير أخطاءه لكن التصنيف نفسه والكتابة والتناول الموضوعي هي سمة من سمات الفكر حتى لو ظهرت بتقليد محض..وسبق وصفي لهذا العصر بالإحياء الثاني لعلم الحديث والسبب أنه كان رد فعل على حركة فكرية شاعت في العصر (البرجي) طالبت بمناقشة عقلانية للأديان..
اشتهر مفكرو المماليك البحرية بالفقه ، بينما المماليك البرجية اشتهروا بالتاريخ، تقريبا (نصف) كتب التاريخ الإسلامي في العصور الوسطى صنفت في العهد البرجي، ابن كثير وابن خلدون والذهبي وابن حجر والمقريزي وابن تغري وابن إياس..وغيرهم، هؤلاء تفوقوا على مؤرخي العباسيين الأكثر شهرة، أي أن الاهتمام بالتاريخ تميز به المماليك البرجيون ، وهو اتجاه عقلاني حاولوا فيه رؤية الماضي حسب إمكانياتهم ، بينما الاشتغال بالفقه عند المماليك البحرية هو انغلاق على موضوع واحد في الإسلام ومذهب السنة تحديدا..
عرضت هذه الرؤية على المخالفين قال أن علماء في الطب والفيزياء والفلك ظهروا في العهد البحري كابن الشاطر والمزي وابن النفيس، وجوابي أن هذه الجهود (فردية) لم تكن مدعومة من الدولة، هذه علوم ظهرت حتى في زمن البخاري رغم أنه كان عصر متخلف، الفيلسوف الكندي كان يعيش مع البخاري لكن الفارق أن البخاري دعمته الدولة أما الكندي لا، المماليك البحريون لم يدعموا العلم إنما دعموا المشايخ، وحرصوا على تجميد الفقه كي لا يخرج عن سلطان القصر، أما البرجيون اهتموا بالتاريخ ، ومناقشة التاريخ عمل فكري بالأساس.
شئ آخر وهو أن العلم في العصر البحري لم يصل لحد الظاهرة، كان قليل للغاية حتى أنه لم يعد يذكر، فإذا ذكر العلم والحضارة الإسلامية ذكر العصر العباسي الثاني الذي لولا ضعف الدولة المركزية وشيوع قيم الحرية واستقلال الشعوب دينيا ما حصلت تلك النهضة، بينما العهد البحري كان فيه السلطان المملوكي صاحب صلاحيات إلهية استعاد بها صلاحيات ملوك وخلفاء الأمويين والعباسيين، أي لا اتجاه أو فرصة لتحقيق العلم بما يعارض رغبات السلطان، أو أنه لا يفهم فيه ويهتم به أكثر من اهتمامه بالحرب وتقوية الجيش..
الخلاصة: لكي نفهم عصر المماليك يجب أن لا نخلط بين شقيه البحري والبرجي، هناك تباينات واختلافات بل وتضاد أحيانا، وهو في المحصلة كان عصر انحطاط عند كل الأمم ..حتى أوروبا..ويمكن اعتبار أن ما قدمه المماليك البرجيون من شعوب القوقاز- فكريا- هو عمل جيد إن لم يكن إنجاز بالنسبة للتخلف السائد في هذا العصر